المخططات الليبرالية

التقشف النيوليبرالي: نموذج من جامعة مغربية

لم تتوقف سياسات التقشف والتقويم الهيكلي بالمغرب طوال السنين الماضية، وهي ماضية قدما. وتمثل وضعية الجامعات العمومية، خاصة ذات الاستقطاب المفتوح، دليلا عمليا على السير المنهجي لتدمير ما تبقى من المرفق العام. يغيب الاستثمار العمومي والميزانية هزيلة، ما يؤدي لاكتظاظ مهول داخل الكليات العمومية. تبقى الوضعية مخزية أيا كان التخصص، سواء العلوم الإنسانية أو العلوم الحية. ويفوق مستوى التأطير لكل أستاذ-ة كل المستويات الممكنة نظرا لغياب سياسية من أجل انتقاء أساتذة وإداريين قادرين على تغطية الحاجيات الأساسية في مجال التأطير والتكوين والبحث العلمي. انها النيوليبرالية في “أبهى” تجلياتها وتكتمل الصورة عبر خطاب أيديولوجي يحمل الجامعات العمومية والطلبة مسؤولية “الأزمة الحالية”. لتسليط الضوء على مثال حي عن هذا الوضع، سأنطلق من وضعية كلية مغربية تخصص الآداب والعلوم إنسانية.

طاقة استيعابية محدودة

أمضيت داخل أحضان هذه الكلية خمس سنوات، بين الإجازة والماستر، وكانت فترة كافية لمعاينة نتائج سياسات التقشف، عن كثب، وأثرها الكارثي على الوضع التعليمي الجامعي. يدرس بكلية “عين الشق” (الآداب والعلوم الإنسانية) بالدار البيضاء 12 ألف طالب-ة، وتشهد سنويا تسجيل 3000 طالب-ة جديد. إنها أرقام تجعل مرافق الكلية تحت ضغط كبير، إذ تفوق الطاقة الاستيعابية للكلية ب 207 في المئة مما هو متوفر (الجدول 1). فالمرافق متوفرة فقط ل 6000 طالب-ة.

الجدول 1: معلومات حول كليات ومعاهد جامعة الحسن الثاني

 هذا الاكتظاظ شائع وجار منذ سنين في كل كليات “جامعة الحسن الثاني” (570 في المئة بكلية الحقوق بالمحمدية و330 في المئة بكلية الآداب بنفس المدينة ودون الحديث عن كلية الحقوق والاقتصاد “طريق الجديدة” بالبيضاء حيث الطاقة الاستيعابية متجاوزة ب 244 في المائة). رغم هذا الوضع الجامعي الذي لا يتيح التحصيل العلمي، تستمر “الحياة” الجامعية كأنها عادية بلا إصلاحات ولا استثمارات من أجل تغيير الوضع. حتى أن هذا الوضع أصبح طبيعيا وتعايش معه الجميع. كيف يمكن أن نفسر وضع الانحطاط الذي تشهده هذه الخدمة العامة الحيوية؟ يدفن الجميع رؤوسهم في الرمال.

توجد بكلية عين الشق، والتي تقدم خدمة عمومية (وجب التذكير بذلك)، قاعات دراسية غالبيتها غير صالحة، والموارد التقنية غير متوفرة، أما المرافق الصحية فهي وصمة عار على جبين كل مسؤول. هذا، دون الحديث عن غياب مكتبة (قمة السخرية: نحن في كلية آداب وعلوم انسانية)، حيث توجد قاعة مطالعة بئيسة ومغلقة في أغلب الأحيان. كل شيء داخل هذه الكلية في حالة إهمال. التصميم جميل عموما والعقار متوفر، لكن الكلية في وضعية جمود. لا شيء يذكر لتحسين ظروف استقبال الطلاب.

 حتى في فترة “كورونا” كانت الإصلاحات ترقيعية وحسب. ويا للغرابة، استمرت أشغال مبنى إداري أربع سنوات. ما السبيل لفهم وضع من هذا القبيل، لا يولد سوى الامتعاض من وضع مرفق عمومي موكل له تكوين النخب والأجيال. هل الدولة مفتقرة للموارد كي تخصص ميزانيات استثمارية للجامعات العمومية؟ لما لا توجه الدولة للجامعة العمومية جزء من المخصصات الكبيرة للملاعب والمنشآت الرياضية والترفيهية؟ فهم هذا الوضع مرتبط بشكل وثيق بمأزق “الاختيارات” النيوليبرالية المتبعة…

في مغرب واحد: جامعة مفقرة وجامعات الشراكات العام-الخاص

لنعد لمثالنا: كلية عين الشق بالبيضاء. الميزانية المخصصة لجامعة الحسن الثاني مخجلة (184 مليون درهم) لتحسين شروط استقبال 104 ألف طالب-ة مسجلون ب 18 كلية ومعهد. تطور الميزانية المخصصة للجامعة لا يوازي التطور الذي يشهده عدد المسجلين. أثر السياسة تقشفية بارزة على مستوى كل كلية. فمثلا سنة 2021، كانت ميزانية “الاستثمار” المخصصة لكلية عين الشق هي: 280 ألف درهم. نعم الرقم صحيح (الجدول 2).

الجدول 2: ميزانية التسيير والاستثمار بالجامعة الحسن الثاني برسم سنة 2021.

يعني أن الدولة خصصت في 2021 لكل طالب مبلغ 22 درهم كاستثمار في الدراسة الجامعية. رقم أقل مما تصرفه الدولة على السجناء يوميا (44 درهم). تحسن هذا الرقم شيئا ما خلال سنة 2022 ووصل ل 3.3 مليون درهم كميزانية استثمار المخصصة للكلية. وتجدر الإشارة أننا أمام شح للمعلومات العمومية من طرف الجامعة خلافا للمبدأ الدستوري القاضي بالحق في الولوج للمعلومة، حيث الأرقام قديمة وتعود لسنة 2021-2022. على العموم الموارد المخصصة للجامعات العمومية تبقى ضئيلة ومثيرة للشفقة عندما نقارنها بالبذخ الممول من المال العام (مكتب الفوسفاط أو صندوق الإيداع والتدبير) داخل جامعات شراكة العام-الخاص (جامعة محمد السادس أو الجامعة الدولية بالرباط مثلا).

بالموازاة مع التقشف والصرامة المالية، تعيش الكليات العمومية مثل “عين الشق” تحت ضغط نيولبيرالي أيديولوجي. حيث الجامعة العمومية مطالبة أن تكون “مستقلة” و”مبادرة” من أجل البحث عن “موارد ذاتية” كي توفر حاجياتها الاستثمارية، ما يفتح الباب لخصخصة التعليم العمومي بواسطة إطلاق تكوينات مدفوعة الأجر أو بعض التجاوزات التدبيرية. يضاف لذلك الإصلاحات البيداغوجية (أسلاك “التميز” مثلا) التي تثقل كاهل الأساتذة والأطر الإدارية القليلة أصلا.

عموما، يبقى فارغا الخطاب المزعوم حول “استقلالية” الجامعة، وهو بعيد عن واقع التدبير اليومي. لا تزال الجامعات تتولى تلبية حاجات أساسية هي من مسؤولية الدولة المركزية التي تخلت عن توفيرها (بناء قاعات دراسية جديدة وتأهيل الجامعات على المستوى الرقمي، الخ). طبعا، لا يعفي هذا دور المسؤولين المباشرين بشأن ضمان حسن التدبير، والقدرة على استعمال كل الميزانيات السنوية (رغم هزالتها).  في أحسن الأحوال، يبقى هامش المناورة جد ضئيل داخل حيز التقشف النيولبيرالي.

تفاجأت، وأنا بصدد انجاز هذا المقال البسيط بمستويات الاكتظاظ الكبيرة داخل جامعة الحسن الثاني حيث يصل المتوسط 200 في المائة من الطاقة الاستيعابية (بدون الحديث عن جامعات مراكش وأكادير). وتفاجأت أيضا أن رؤساء الجامعات والكليات بالمغرب يلزمون الصمت ولا ينددون بهذا الوضع الماس بكرامة الأستاذ-ة والطالب-ة والإداري بالجامعة المغربية. لماذا هذا الصمت المريب من مسؤولين غالبيتهم أساتذة؟ إنهم، بصمتهم، شهود وشركاء في الجريمة المستمرة لتدمير الجامعة المغربية…

خطر افراغ الجامعة العمومية من أفضل الباحثين

وجب التذكير، وخلافا لما يروج له، أن الجامعة المغربية لا تزال تضم أساتذة وباحثين جامعيين من المستوى العلمي العالي والأخلاقي الراقي. وأكبر خطر تمارسه السياسات النيوليبرالية، التي حاولت وصفها أعلاه، هو افراغ الجامعة العمومية من هؤلاء الكفاءات، والذين سيجدون منصبا بسهولة داخل الجامعات الخاصة “خمس نجوم” أو بالجامعات الأجنبية. وبذلك ستصبح الجامعات المغربية رديئة الجودة من ناحية الخدمات المقدمة للطلاب، وتقدم تعلما علميا رديئا. لربما هذا هو ما تريده النيوليبرالية: انتاج اطر رديئة التكوين محدودة الأفق وفاقدة لأي حس نقدي.    

أخيرا، وجب تسجيل أن طلبة كلية الآداب عين الشق يأتي معظمهم من الطبقات الوسطى، وخاصة الطبقات الوسطى الفقيرة، بالإضافة للموظفين والمستخدمين الذين يعودون للدراسة. طلاب غير متجانسي المصدر، لكن يبقى العمود الفقري لطلاب الكلية شباب بيضاوي بحاجة لكل أنواع الخدمات العمومية داخل جامعاتها: النقل والترفيه والرياضة والثقافة وعلى الدولة أن تتحمل مسؤولياتها كاملة من أجل توفير هذه الخدمات العمومية المجانية والجيدة. 

 صلاح الدين لمعيزي، طالب جامعي وعضو جمعية أطاك المغرب

زر الذهاب إلى الأعلى