المخططات الليبرالية

ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي: تكييف الجامعة مع تقلبات السوق والمقاولة

ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي: تكييف الجامعة مع تقلبات السوق والمقاولة

المدرسة والجامعة من منظور أرباب العمل ومؤسساتهم

لخصت افتتاحية جريدة L’economiste[1] منظور أرباب العمل للتعليم عامة (والجامعة على الخصوص). أشار كاتب الافتتاحية إلى أن “الطموح في الحصول على مكان على خريطة العالم لاقتصاد المعرفة والصناعة 4.0 ينطوي على خطر الانهيار مقابل الواقع القاسي لفشل نظامنا التعليمي. درجات طلابنا هي من بين أدنى معدلات القراءة والفهم في العالم “. وأضاف “في العصر الرقمي بالكامل، من الصعب الانخراط في التطورات الحالية دون تعبئة الموارد البشرية اللازمة… تتأثر جميع القطاعات، حتى الأكثر تقليدية، بهذا التحول الرقمي. للنجاح في هذا التحول، من الضروري تنمية مجموعات جديدة من المهارات الأكثر ملاءمة لهذه التغييرات”. والحل حسبه هو “تغيير النموذج”، فالمعارف “متاحة في كل مكان بسبب الأدوات الرقمية الجديدة”. ويقترح القطع مع ما أسماه “parcoeurisme” مفضلا “المراهنة على النماذج الهدامة التي تهدف إلى تطوير “القدرات”.

“النماذج الهدامة” (Les modèles disruptifs) أو “نماذج القطيعة” (Les modèles de rupture) مفهوم طورته الأوساط الأكاديمية الاقتصادية قبل 15 سنة، تحت وقع تسارع الثورة التكنولوجية. وتماما كما جرى سابقا نقل مفاهيم “المقاربة بالكفايات” من عالم المقاولة إلى عالم المدرسة والجامعة، نقل الأكاديميون الاقتصاديون مفهوم “النماذج الهدامة” بنفس الطريقة.

تُعرَّف “النماذج الهدامة” على أنها “الابتكارات أو النماذج الاقتصادية أو الظواهر التي تسبب انقطاعًا في أنماط تشغيل قطاع النشاط أو في أنماط الاستهلاك”[2]. بالنسبة لهؤلاء الاقتصاديين فإن عالم المعلوميات (الويب) “ناقل هائل لأنه يجعل من الممكن إعادة اختراع تنظيم وطريقة عمل الشركات”، ما يفرض على “الفاعلين” (شركات، يد عاملة، مستهلكين- ات) “إعادة التموضع والتموقع” مع مستجدات عالم الاقتصاد وأدواته.

ليس هذا رأي L’economiste والأكاديميين الاقتصاديين فحسب، بل تقاسمه معهم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في رأيه حول نموذج الصناعة المغربي، إذ ورد فيه: “ستُحدث التحولات التي تنطوي عليها الثورة الصناعية الرابعة تغيرات عميقة ومستدامة في أنماط الاستهلاك والإنتاج”[3]. وهو أيضا يشتكي من “منظومة تربوية تشكل عائقا أمام التنمية”. ويطرح ضرورة تكييف التعليم مع المحيط الاقتصادي الجديد: “ينبغي النظر بإمعان في موضوع التكوين لجعله ركيزة أساسية. ويتعين أن يتجاوز هذا التكوين مجرد اكتساب المعرفة والمهارات ليدمج تعزيز قدرات التكيف والتعلم مدى الحياة، مع توفير إمكانية تغيير المهنة والمواقع داخل سوق الشغل”. وفي سنة 2019 ضَمَنَ المجلس الأعلى للتعليم نفس الفكرة في تقرير له حول إصلاح التعليم العالي: “إن مواصفات تكوين عشرات الآلاف من الحاصلين على الشهادات لا تتلاءم مع حاجيات وانتظارات سوق الشغل”. إنه خطاب قديم دائم التجدد، ويبدو أنه الشيء الوحيد الذي لا تنطبق عليه “النماذج الهدامة”.

بالنسبة لكل هؤلاء على التعليم (المدرسة والجامعة) أن يكون مهيأ للتكيف مع هذه التقلبات والتغيرات العميقة في “أنماط الإنتاج والاستهلاك”. وقد فصلوا في تقاريرهم ومقالاتهم مهام الجامعة (مؤسسات وأساتذة- ات وطلاب) لأداء ذاك التكيف على أفضل وجه، بما يخدم مصالح المقاولة المتقلبة والمحيط الاقتصادي المضطرب.

من بين أوجه الاضطراب تلك التي وضحها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، التغيرات السريعة التي ستشهدها المهن وعلاقات الشغل مستقبلا: “إن أحد الرهانات الأساسية يكمن في تغيير طبيعة العلاقة بمجال الشغل، إذ يقتضي ذلك التحلي بالمزيد من القدرة على التكيف مع التغيرات ومع متطلبات سوق الشغل، حيث تتيح هذه القدرة على التكيف وعلى البحث الانتقال إلى أنشطة أو مهن قائمة أو ستُحدث مستقبلا”، متحدثا عن أن هذه التطورات لا تؤدي فقط إلى فقدان فرص الشغل بل إلى “تغيير في طبيعة العمل”. وأثبت تقرير المجلس هذا الرهان بلغة أرقام مستقاة من دراسة أجرتها “اللجنة الاقتصادية لإفريقيا في 2015″، كي يكتسي طابعا أكثر إقناعا:

* %60 من المهن التي ستتم مزاولتها في سنة 2030 لا توجد بعد؛

* %47 من مناصب الشغل ستهددها التكنولوجيات الجديدة، لا سيما التكنولوجيا الرقمية؛

* سيكون على تلميذ يتابع دراسته اليوم تغيير عمله عدة مرات في حياته، قد تصل إلى 7 مرات.

يدخل كاتب افتتاحية جريدة Léeconomiste على الخط ليكمل مهمة تقرير المجلس بقول: “لتلبية احتياجات مهن المستقبل، يحتاج شبابنا إلى مزيد من المهارات الهجينة والمتطورة. قصص النجاح موجودة بالفعل (1337، Youcode …)، وإن كان ذلك على نطاق ضيق. لقد أظهرت [هذه التجارب] القدرة على التمكين وقبل كل شيء تغيير حياة الشباب (وأولئك الأقل شبابا). كل ما يجب فعله هو أن نستلهم منها لبدء هذه التغييرات التي لا مفر منها على نطاق أوسع”. تحدث تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بنفس اللغة: “يحتم ذلك في الوقت نفسه إعادة النظر في نظم التربية والتعليم والتكوين… وتبدو هذه العملية حتمية ويمكن استباقها”.

هكذا يتحدث أرباب العمل ومؤسساتهم بلغة الحتمية: التغييرات التي لا مفر منها على نطاق واسع لفرض ما هو “حتمي” بالنسبة للمحيط الاقتصادي المضطرب والمقاولة المتقلبة المطالب. لكن كل ذلك ليس حتميا ولا مفر منه بالنسبة لملايين التلاميذ والطلاب وشغيلة المستقبل. فترجمة تلك العبارات الخاصة بالخبراء والأكاديميين الاقتصاديين ومؤسسات الدولة إلى لغة البشر، تعني قبول شغيلة المستقبل بأنماط شغل مرنة وغير قارة مثل العمل بعقود محددة المدة والعمل بتوقيت جزئي ووتائر عمل متقلبة، وفي نفس الوقت القبول بتغيير المهنة وشروط مزاولتها كلما طلب الرأسمال ولمقاولة ذلك. ويضفي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي طابعا علمويا حتميا- يذكرنا بأسطورة فوكوياما حول نهاية التاريخ- على ذلك بقول: “ينبغي أن نستحضر أن إعادة تحديد موقع البعد الاجتماعي بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر الرؤية الصناعية يرتبط ارتباطا وثيقا بالتقلبات والشكوك، وبأن زمن ممارسة المهنة نفسها وفي المؤسسة نفسها مدى الحياة قد ولى”.

لكن ما يعتبره كل هؤلاء حتميا، هو نتاج سياسة فرضها صندوق النقد الدولي/ البنك الدولي منذ فرض برامج التقويم الهيكلي التي جعلت تشريعات العمل أكثر مرونة. وقد ورد ذلك بالحرفي في تقرير للبنك الدولي صدر عام 1995 تحت عنوان “العمال في عالم يزداد تكاملا”، حيث تحدث بالحرف عن “تدمير فرص العمل”، لضمان الحركية والمرونة المفرطتين في علاقات الشغل. وما جرى فرض بسياسة يمكن عكسه وفرض التراجع عنه بسياسة مضادة، ولا مجال للحتمية هنا.

ربط المدرسة/ الجامعة بالمحيط الاقتصادي: مفهوم قديم يتجدد

ليس “ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي” مفهوما جديدا. الجامعة دائمة الارتباط بالمحيط الاقتصادي، وتؤدي خدمات محدَّدة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا: تكوين اليد العاملة بكل أقسامها (متوسطة وعالية التأهيل) وكذلك المِلاك السياسي للبرجوازية وقادة دولتها، فضلا عن المشتغلين في الجهاز الإداري والخدماتي (الوظيفة العمومية). في المغرب كانت الجامعة تستجيب لنموذج تنمية/ نموذج تراكم رأسمالي في سياق ما بعد نزع الاستعمار وعجز وتهرب البرجوازية المحلية من قيادة عملية الإنماء الرأسمالية. تكلفت الدولة عبر قطاع عام متوسع بتلك العملية، وكانت المدرسة/ الجامعة العمومية هي التي تكلفت بتكوين نمط اليد العاملة والتقنيين والإداريين الملائم لنموذج التنمية/ التراكم الرأسمالي ذلك.

الجديد هو تغير المحيط الاقتصادي منذ بداية السبعينيات في المراكز الإمبريالية، ومنذ أواسط الثمانينيات في بلداننا التابعة، وضمنها المغرب. وجد الرأسمال نفسه في وجه جامعة “جماهيرية” تتيح لملايين الطلاب إمكان الارتقاء الاجتماعي الفردي عبر “تعاظم متزامن لعرض وطلب قوة العمل المؤهلة ذهنيا”[4].

لكن تغير هذا فجأة في بداية سبعينيات القرن العشرين إذ دخل الاقتصاد الرأسمالي العالمي في أزمة ركود طويلة الأمد، وكان مظهرها الأساسي انخفاض معدل الربح وعدم استقرار مستدام في البيئة الاقتصادية بحفز من التغيرات التكنولوجية المتسارعة والمنافسة وتحرير الاقتصاد وتمييله. ألقى هذا بثقله على الجامعة والمدرسة وفرض عليها تكيفا قسريا مع البيئة الاقتصادية المتقلبة، فانطلقت في جميع البلدان برامج الإصلاح الجامعي للاستجابة لتلك التغيرات والتقلبات. جرى تخفيف البرامج والمضامين وتغيير جذري في مناهج التلقين والتدريس والتقويم. واستتبع ذلك في ما بعد تغييرا في كل البنية التنظيمية للمدرسة/ الجامعة (مبدأ الاستقلالية) وعلاقات الشغل القائمة داخلها، بين أجراء القطاع (مدرسين- ات ومديرين وكل الفئات الأخرى) ومشغلهم (الدولة)، بما يشمل أنماط التوظيف (التعاقد، التوظيف الجهوي) وأشكال تدبير المسار المهني (الترقيات والتعوبضات والحوافز عبر ربطها بمردودية الأجير الفرد).

في بلدان العالم الثالث (وضمنها المغرب) كانت أزمة الديون هي الرافعة التي ارتكز عليها الرأسمال العالمي ومؤسساته (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) لفرض تلك التغييرات الجذرية في عالم المدرسة/ الجامعة لتلائم تلك الواقعة في عالم الاقتصاد وميدان الشغل. أدت برامج الخوصصة إلى تراجع دور الدولة القائم منذ الاستقلال الشكلي حتى بداية الثمانينيات، وتوسع القطاع الخاص وفُتح المجال لتدفق الاستثمارات الأجنبية. وللاستجابة إلى حاجات المقاولات تلك إلى نمط جديد من اليد العاملة، فُرضت الإصلاحات المتوالية على المدرسة/ الجامعة، حتى انتهت بإقرار الوثيقة المرجعية “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” سنة 1999، تلك الوثيقة التي تنهل منها كل مخططات “الإصلاح”/ التخريب انتهاء بالقانون الإطار 51.17 الذي صُودِق عليه صيف 2019.

هكذا وجدت الجامعة نفسها أمام ما أسماه ارنست ماندل “الأزمة المزدوجة للجامعة البرجوازية”. هذه الجامعة التي لم تعد تلبي متطلبات المقاولة متسارعة التقلب والتغير، وفي نفس الوقت لم تعد تستجيب لتطلعات الطلاب ذوي الأصول الاجتماعية والطبقية الأدنى، وهو ما جعل من سبعينيات القرن العشرين- حسب ارنست ماندل- عقدَ تمردات طلابية “ردا على عدم توافق الجامعة مع حاجات الطلبة المادية أو ردا على بنيات ومضامين التعليم الجامعي”.

لكن ميزان القوى السياسي والاجتماعي على الصعيد العالمي (أزمة الأنظمة المسماة اشتراكية، تراجع حركات التحرر الوطني، أزمة الحركة العمالية في المراكز الإمبريالية) أتاح للرأسمال العالمي إمكان الرد السريع على تلك الأزمة المزدوجة بما يخدم مصالحه. وهو ما عُرف بالهجمة النيوليبرالية المضادة، التي لا يشكل فيها تكييف التعليم (مدرسة وجامعة) إلا حلقة واحدة من سلسلة حلقات إعادة هيكلة كل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئة مع المتطلبات الجديدة للرأسمال العالمي المعلوم.

تجدر الإشارة إلى أن الرأسمال المغربي ودولته، لا يملكان استراتيجية خاصة بهما. وإن كان يملكانها فهي مختصرة في التموقع ضمن استراتيجية الرأسمال العالمي بما يحفظ له نفس التخصص ضمن قسمة العمل الدولية المحددة إمبرياليا منذ دخول الاستعمار، وفي أحسن الأحوال تحسين ذلك التموقع. ومستفيدا مما يُطلق عليه “رأسمالا لا ماديا”، وعلى رأسه الاستقرار السياسي والموقع الجغرافي ومناخ أعمال ملائم، يعرض المغرب نفسه كمنصة ملائمة لاستقبال الاستثمارات الأجنبية، سواء ضمن ما يسمى “مهنا عالمية” (صناعة الطيران والسيارات والألياف وترحيل الخدمات) وسعيا لاستقطاب استثمارات الانتقال الطاقي (الهيدروجين الأخضر)، أو كمنصة إطلاق استثماري تجاه إفريقيا. هذا ما أطلق عليه تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي “اغتنام الفرص”، ملخصا دور المغرب في استراتيجية الرأسمال العالمي في ما يلي: “إن طموح المغرب اليوم هو أن يواكب آخر المستجدات في مجال الابتكار وأن يتخطى الحدود التكنولوجية لتقديم عرض صناعي مستقبلي يستجيب للمعايير الدولية للسوق”. لذلك فتكييف الجامعة مع المحيط الاقتصادي في جزئه الأغلب موجه للاستجابة لمتطلبات الاستثمار الأجنبي.

لخص تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر سنة 2019 تحت عنوان “إصلاح التعليم العالي وآفاق المستقبل” هذا التكييف بقول: “تغير أنموذج الطلب الاجتماعي الموجه لمنظومة التربية والتكوين. ذلك أن المغرب انخرط خلال العقود الأخيرة، في إعادة هيكلة عميقة للنموذج التنموي السوسيو- اقتصادي، بفتح أوراش مهيكِلة عديدة في مختلف القطاعات (الصناعات، الطاقة، الفلاحة، التكنولوجيات، الخدمات… إلخ) التي تهم نشاطه الاقتصادي، من أجل مواكبة أهم ديناميات النمو في العالم. إن هذه التوجهات والاختيارات أدت إلى بروز مطالب وانتظارات جديدة من نظام التعليم العالي، الذي يُعتبر الممون الرئيسي للرأسمال وللموارد البشريَّيْن…”.

بالنسبة لأرباب العمل ودولتهم، فإن النظام التعليمي ليس ملائما لهذه الاستراتيجية. والجامعة المغربية هنا هي حلقة ضمن المدرسة المغربية بشكل عام، التي تعرضت لعديد من المراجعات في بنيتها وتنظيمها ومناهجها وآليات التقويم والامتحانات وأنماط تكوين وتشغيل الأساتذة، أي مراجعة شاملة لحياة المدرسة/ الجامعة لخدمة تلك الاستراتيجية.

محاور تكييف الجامعة مع متطلبات المحيط الاقتصادي

سنلاحظ تشابه مسارات ولغة “الإصلاح” بين المدرسة والجامعة. إذ تتضمن “خارطة الطريق” التي طرحها شكيب بنموسى مؤخرا ثلاثة محاور: “محور المؤسسة المدرسية” و”محور التلميذ” و”محور الأستاذ”. بدوره تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر سنة 2019 تحت عنوان “إصلاح التعليم العالي وآفاق المستقبل” يمكن أن نستخرج منه نفس المحاور الثلاثة: “محور المؤسسة الجامعية” و”محور الطالب” و”محور الأستاذ”. مع تحديد دقيق لمهام كل محور كي تستجيب الجامعة لمتطلبات المحيط الاقتصادي المتغير والمتقلب.

أ. محور المؤسسة الجامعية

حدد تقرير المجلس الأعلى للتعليم دور الجامعة كالآتي: “إن التعليم العالي مُطالَب بالاضطلاع بأدوار مختلفة تتمثل، بالأساس في، إنتاج ونشر المعلومة؛ التحضير والإعداد للشغل، إضافة إلى تكوين المفكرين، والمجتمع برمته”.

إنها عبارات عامة وحمالة أوجه، لكن الوجه الخادم للرأسمال ومتطلباته المتغيرة هو الأقرب إلى لغة المجلس الأعلى للتعليم:

1. “إنتاج ونشر المعرفة”: ويُقصد بها المعرفة المفيدة لرأس المال، وهو ما قصده تقرير المجلس الأعلى للتعليم عند الحديث عن “ضرورة… ملاءمة مضامين التكوينات المقترحة مع السياقات المحلية والسيوسيو- اقتصادية، والتي تشكل النظام المحيط بمؤسسات التعليم العالي المعنية”. وقد سبق للميثاق الوطني للتربية والتكوين أن أورد ذلك بصيغة أكثر وضوحا: “نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي”.

2. “التحضير والإعداد للشغل”: أي إعداد يد عاملة قادرة على التكيف تلقائيا مع المستجدات المتغيرة والمتقلبة لعالم المقاولة (المحيط الاقتصادي). وفي هذا يقول تقرير المجلس الأعلى للتعليم: “في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها سوق الشغل؛ حيث تتأثر عمليات وأنماط الإنتاج، وكذلك الكفاءات المنخرطة في سلسلة إنتاج القيمة، بالتحولات التكنولوجية والرقمية العميقة، فإن تنمية الرأسمال البشري القادر على استدماج ومواكبة هذه التحولات، تستلزم مراجعة عميقة لصيغ وهندسة تكوين الكفاءات والموارد البشرية… وتتطلب هذه الهندسة الجديدة، من جانب آخر… اكتساب القدرة على التكيف، وعلى إدماج المستجدات المرتبطة بمتطلبات سوق الشغل”

3. “تكوين المفكرين”: وهذه صيغة أخرى لجملة بيير بورديو الشهيرة عن المدرسة التي تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي، والانفصال بين العمل الفكري والعمل اليدوي. أحد أدوار الجامعة هو إعداد قادة الدولة والاقتصاد المستقبليين (من سياسيين وأيديولوجيين ورجال دين و”علماء” اقتصاد وخبراء علم نفس تخبيل الجماهير… إلخ)… ومرة أخرى كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين أكثر صراحة، إذ حدد غايات لنظام التربية والتكوين: 1) “تزويد المجتمع بالكفاءات من المؤهلين والعاملين الصالحين للإسهام في البناء المتواصل لوطنهم على جميع المستويات”، وهي الغاية التي نعتها تقرير المجلس الأعلى للتعليم بـ”التحضير والإعداد للشغل”، أي إعداد اليد العاملة التي سيجري استغلالها في حقول الإنتاج؛ 2) “كما ينتظر المجتمع من النظام التربوي أن يزوده بصفوة من العلماء وأطر التدبير، ذات المقدرة على ريادة نهضة البلاد”، وهم من قصدهم المجلس العلى للتعليم بـ”المفكرين”.

ربط تقرير المجلس الأعلى للتعليم الجامعة بمستجدات التشريع، خاصة المتعلق منه بـ”الجهوية المتقدمة”، وخص التعليم العالي بمهمة الاستجابة لحاجيات التنمية الاقتصادية داخل كل جهة: “يتعين أن يستجيب العرض التكويني للجامعة، وكذلك مختلف الخدمات والأعمال التي يمكن أن تقدمها هذه الأخيرة، بالدرجة الأولى لانتظارات وحاجات الجهة التي تنتمي إليها الجامعة”. وهنا يستعمل التقرير مفاهيم الاقتصاد البحتة: “العرض” و”الخدمات” والأعمال”. إن كانت الجامعة هي صاحبة “العرض”، فإن مصدر “الطلب” هو المقاولة بالدرجة الأولى. هكذا سيكون على جامعات جهة طنجة تطوان الحسيمة، أن تقدم عرضا تربويا ملائما لمقاولات صناعة السيارات والألياف الكهربائية، في حين تقدم جامعة جهة سوس ماسة عرضا تربويا ملائما للسياحة والخدمات المالية والفلاحة التصديرية، وتقدم كليات الصحراء عرضا تربويا ملائما لمشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر الضخمة[5]… إلخ.

ومن المهام التي خص بها تقرير المجلس الأعلى للتعليم الجامعة ما سماه: “استباق تطور المهن ومتطلبات سوق الشغل المستقبلية”، وشرح ذلك بقول: “يتعين على المغرب… ممارسة اليقظة الاستشرافية للمهن والكفايات الضرورية، التي يتعين توفيرها وتعبئتها في المستقبل…”. أي على الجامعة أن تكون أكثر استباقا لحاجات المقاولات أكثر من المقاولات ذاتها.

ولكي تتمكن الجامعة من أداء هذا الدور، جرى التنصيص على منحها “استقلاليتها المالية والإدارية”. وفي هذا يقول تقرير المجلس الأعلى للتعليم: “فاستقلالية الجامعة ضرورية، وذلك من أجل منحها القدرة على التكيف والتفاعل بسرعة مع المحيط السيوسيو- اقتصادي المتحول باستمرار، ومواجهة عالم يزداد تنافسية وانفتاحا يوما بعد يوم”. وستكون هذه الاستقلالية بابا لتجاوز ما اعتبره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي افتقارَ “القطاع الصناعي إلى روابط حقيقية مع الجامعة” داعيا إياه لـ”مساعدة الجامعات والمدارس على أن تصبح شريكا حقيقيا للفاعلين الاقتصاديين وخزانا للأفكار المبتكَرة”. فلا مجال لفرض مطالب أرباب العمل/ المقاولات على الجامعة إلا إذا كانت هذه الأخيرة مستقلة، أي مستقلة عن المؤسسات المنتخبة وعن الرقابة الشعبية والمواطنية.

إن استقلالية المدرسة/ الجامعة مطلب قديم لرجال الأعمال. كتبت المائدة المستديرة للصناعيين الأوربيين منذ 1989 “تهيمن الاكراهات البيروقراطية على إدارة المدرسة (…). إن الممارسات الإدارية مفرطة التصلب على نحو يمنع مؤسسات التعليم من التكيف مع التغيرات الضرورية التي يفرضها التطور السريع للتكنولوجيا الحديثة وعمليات إعادة هيكلة الصناعة والقطاع الثالث”[6]. وكان الشعار المطروحة هو “المرونة”: مرونة المدرسة/ الجامعة لتتمكن من ذلك التكيف الذي تفرضه مطالب المقاولة، التي جرى حجبها تحت ستار “التطور السريع للتكنولوجيا الحديثة… إلخ”.

قد يتساءل البعض: “وما العيب في ذلك؟ ما المشكل في جامعة تستجيب لحاجيات الاقتصاد؟”. لكنه سؤال لا يجد له جوابا في وثائق أرباب العمل ومؤسساتهم. عادة ما نسمع عبارة “الجامعة قاطرة التنمية”، لكن لا يُطرحُ سؤال: “من يمسك بمقود تلك القاطرة؟”. سَخِرَ نيكو هيرت من ذلك قائلا: “إن تنامي استقلال مؤسسات التعليم يمنحها هامش تحرك أكبر للتكيف مع رغبات الأوساط الاقتصادية، ورُبَّ قائل يضيف: ومع متطلبات المجتمع والآباء!”. ومنبع سخريته هو أن رغبات أرباب العمل تنجح غالبا في أن تلبس رداء رغبات المجتمع عامة (وهي صيغة آدم سميث التقليدية القائلة “على الرغم من سعي الجميع وراء مصلحته الخاصة فقط، فكل فرد يعمل غالبا بطريقة أكثر فعالية لمصلحة المجتمع”). يشرح نيكو هيرت ذلك قائلا: “لكن احتدام التنافس على فرص عمل مقومة valorisants يجعل تدخل الآباء (في مجالس المشاركة أو غيرها) يعكس حتما رغبات أرباب العمل”.

الاقتصاد الذي يريدون للجامعة أن تخدمه هو اقتصاد تنافسي يسعى إلى مراكمة أرباح أقلية من الرأسماليين الأجانب والمحليين، ولا يحتل الطلاب والتلاميذ- ات والأجراء في قاموس هؤلاء سوى خانة “الرأسمالي البشري”/ “الموارد البشرية”، التي يجب تطويعها عبر توفير تكوين يجعلها قابلة بأي شكل من أشكال العمل التي “يوفرها” هؤلاء الرأسماليون، بما فيها العمل الهش وغير القار، العمل بتوقيت جزئي، أجور وترقيات مرتبطة بكمية العمل المقدم/ المردودية، حيث يجري زرع التنافسية الشرسة بين الأجراء حول ما يتساقط من فتات موائد الرأسماليين.

بـ. محور الطالب- ة

الطلاب- ات هم اليد العاملة المستقبلية وفي نفس الوقت مستهلكو- ات المستقبل. ولأن الثورة التكنولوجية المتسارعة- حسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي- قد أحدثت ثورة في أنماط الحياة (الإنتاج والعمل والاستهلاك)، فعلى الجامعة أن تقدم للطلاب تكوينا يساعدهم على التكيف السريع مع التغيرات المتسارعة في عالم الإنتاج وأنماط الشغل والاستهلاك… هذه التغيرات تجعل من الطلاب حشودا تركض لتمتلك قابلية الحصول على العمل وقابلية الحفاظ عليه، ومن تعب وأراد التقاط الأنفاس يُسحَق تحت أقدام الحشود الراكضة.

ولتأهيل الطلاب على التكيف المستقبلي مع حياة اقتصادية متقلبة ومع واقع أن “المهن الدائمة مدى الحياة قد ولى زمنها”، على حد تعبير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فعلى الجامعة أن تُعدَّهم لذلك وهم في “المشتل”/ الجامعة. ومن هنا الاستعارة التي جعلها كاتب افتتاحية L’economiste عنوانا لافتتاحيته: “Viviers”، أي الأحواض المجهزة لتربية الأسماك والمحار… حسب كاتب افتتاحية جريدة رجال الأعمال، يجب على الجامعة أن تتحول إلى مشتل/ Pépinière، لإنتاج عمال- ات المستقبل وحقنهم بتقنيات وقدرات التكيف مع حاجات المقاولة المتقلبة والمتغيرة.

ومن هذه القدرات العجيبة “القدرة على التكيف مع العمل بتوقيت جزئي”. ينتقد تقرير المجلس الأعلى للتعليم نظام التعليم بالمغرب كونه لم يستدمج بعد “نظام التكوين بتوقيت جزئي، بالمعنى الحقيقي للكلمة”، ويضيف: “والحال أنه أضحى ضرورة”. لكن مهلا، ضرورة لمن؟ يجيب التقرير بكل صراحة: “أضحى ضرورة يمليها تطور المتطلبات المهنية والمالية التي يتعين على الشباب المتعلم، وعلى نظام التعليم العالمي برمته، مواجهتها”.

ولتيسير ذلك التكيف يقترح تقرير المجلس الأعلى للتعليم ضرورة أن يتعود الطلاب عن “العمل بتوقيت جزئي” منذ الجامعة: “يتعين تخصيص مناصب بتوقيت جزئي (خلال سنة جامعية أو أسدس) مقابل تعويض مالي، لفائدة الطلبة، وذلك انطلاقا من سنة دراسية معينة، ووفق معايير (مثلا بالنسبة لغير الممنوحين)، وذلك قصد تكليفهم بإنجاز مهام داخل الجامعة. ونذكر من بينها على سبيل المثال: مسؤولية تنشيط ورشات ثقافية، مساعدة الطاقم المكلف بتدبير المكتبة، تقديم المساعدة داخل المختبرات العلمية، المساعدة في تدبير الدراسة، الخدمة الاجتماعية، استقبال الطلبة الجدد واحتضانهم”. هكذا لا تخدم الجامعة مطالب المحيط الاقتصادي المباشر فقط (أي المقاولة)، بل أيضا متطلبات التقشف المفروضة من الثنائي البنك العالمي/ صندوق النقد الدولي. ويوفر بذلك عملُ الطلاب بتوقيت جزئي النفقات الموجهة للمنح، ويقلص أيضا كتلة الأجور عند قيام الطلاب بمهام كانت ستفرض توظيف من يتكلف بها… وهي الصيغة الجامعية لبرنامج “أوراش” في المدرسة العمومية.

لكن يبقى الأهم هنا هو تلبية طلب المقاولة ليد عاملة مرنة ولينة قادرة على التكيف السريع مع متطلباتها المتقلبة. وهو ما وصفه تقرير المجلس الأعلى للتعليم بقول: “إنه [أي عمل الطلبة بتوقيت جزئي مؤدى عنه] يسمح أيضا، وبشكل أساسي، بتطوير حس المسؤولية لديهم، واكتساب تجربة الانتقال إلى الحياة العملية، والتحضير للاندماج المهني، والتمرس على الاستقلالية، وتشجيع حركية الطلبة والباحثين. وبإمكان الجامعة أن تطور، بشكل مسبق، في إطار انفتاحها وشركاتها مع المحيط، لائحة محددة سلفا، تخص المؤسسات التي يمكن للطالب، في نهاية سلك الإجازة أو الماستر مثلا، أن يقوم فيها بنشاط مؤدى عنه، ويكون أيضا محتسبا ضمن الغلاف الزمني للوحدات التي سيتم اكتسابها”.

لقد وصف ارنست ماندل منذ زمن بعيد الطالب بكونه “عاملا متعلما ذهنيا”، وذلك في إطار سجاله مع من كانوا يصنفون الطلاب ضمن “البرجوازية الصغيرة”. ويبدو أن وصفه هذا ينطبق كثيرا على الطالب الذي يريد المجلس الأعلى للتعليم أن تحتضنه الجامعة المغربية: طالب معدل وراثيا ومهجن. و”الهجينة هي العبارة التي استعملها كاتب افتتاحية L’economiste: “لتلبية احتياجات مهن المستقبل، يحتاج شبابنا إلى مزيد من المهارات الهجينة والمتطورة”. “المعارف متوفرة في كل مكان” حسب كاتب افتتاحية جريدة رجال الأعمال، لكن ليست ذات فائدة للطلاب الذي يريدون أن يعدوا أنفسهم لـ”مهن المستقبل”. لذلك لا فائدة من دراسة الفلسفة والشعر والتاريخ والفن ومجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية، فهذه أمور لا تنفع في المهمة رقم 2 “التحضير والإعداد للشغل”، بل المهمة رقم 3 “تكوين المفكرين”، أي قادة الدولة الاقتصاد. إن أردت مستقبلا مهنيا عليك بـ”المهارات الهجينة” هذه هي رسالة أرباب العمل لطلاب اليوم/ شغيلة المستقبل.

ج. محور الأستاذ

الخلاصة إذن أن أرباب العمل ومؤسساتهم يطلبون من الجامعة حصر تكوين طلاب اليوم/ شغيلة المستقبل في مهارات تجعلهم قادرين على التكيف السريع مع تقلبات عالم المقاولة والمهن وتغيراتهما المتسارعة. لكن أرباب العمل ومؤسساتهم يصطدمون بعقبة كأداء: “الأستاذ”. فلا يمكن جعل الجامعة مكانا لتلقين الطلاب الكفايات الهجينة ومهارات التكيف، إذا كان الأستاذ غير مقتنع بذلك.

وهنا نسجل أن ما وقع في المدرسة بأسلاكها الثلاث، يجري تحضيره للتعليم العالي. جرى ترويج أن الجيل القديم من الأساتذة ذو عقلية محافظة ومقاومة للتغيير، والتغيير هنا يُقصَد به الحاجات الجديدة للمقاولة والمحيط الاقتصادي. لذلك طرح تقرير المجلس الأعلى للتعليم مهمة “تجديد هيئة التدريس” بما يجعلها قابلة وملائمة للمهمة الجديدة للجامعة ومقتنعين بها بما يجعلهم قادرين على إقناع الطلاب بها.

أورد تقرير المجلس الأعلى للتعليم مقتطفا من تقرير الهيئة الوطنية للتقييم، حول النظام الجامعي ذي الاستقطاب المفتوح، هذا نصه: “أظهر [التقرير] أن المهام الموكلة إلى الأساتذة الباحثين، تتسم بالعمومية، وبعدم وضوح نمط اشتغالهم وممارستهم… كمثال على ذلك، لا يوجد أي ترتيب يقتضي من المدرس تطوير طرائقه البيداغوجية، أو اقتراح أنشطة مع الطلبة، خارج الدروس. كما لا يوجد ترتيب يجبر أساتذة التعليم العالي على تأطير أطروحات الدكتوراه، وتهيئ مشاريع للبحث التنموي وتدبيرها”.

مفهوم “العمومية” الخاص بمهام الأستاذ الباحث، هي أنها غير محددة بدقة، ما يمنح هامشا من الحرية والاستقلالية للأستاذ في علاقته مع التكوينات التي يقدمها للطلاب. والمهمة هنا إذن- بالنسبة للمجلس الأعلى للتعليم- هي إطار تشريعي جديد “يجبر” الأساتذة على ملائمة ما يقدمونه من دروس مع متطلبات “البحث التنموي”، أي متطلبات المحيط الاقتصادي”. لقد تبخرت بغتة مفاهيم “الاستقلالية” و”روح المبادرة”، حين تعلق الأمل بإجبار الأستاذ الجامعي على الاستجابة لمتطلبات المقاولة/ المحيط الاقتصادي.

وللنجاح في إجبار أساتذة التعليم العالي على ذلك، يطرح تقرير المجلس الأعلى للتعليم هذه المهمة: “يجب أن يضع التعليم العالي التميز والاستحقاق في صميم النهوض بهيئة التدريس. ويتعين إرساء آليات وإجراءات للانتقاء، تضمن تجديد هيئة التدريس وتعزيزها بأطر قادرة على رفع تحدي الجودة وإنجاح الإصلاحات. إن جودة البحث، والكفايات البيداغوجية، والتحكم في اللغات، وقابلية العمل ضمن فريق، مع الابتكار والانفتاح على المجال الدولي، هي جميعها خصائص يجب أخذها بعين الاعتبار بالنسبة إلى كل منتسب للمهنة. لذلك، وجب اعتماد توظيف قائم على التميز، مع فتح بعض المناصب أمام الأجانب”.

يشترط المجلس الأعلى للتعليم على هيئة التدريس الجامعي أن تقبل “رفعَ تحدي الجودة وإنجاح الإصلاحات” لكي تستجيب الدولة لمطلب “النهوض بهيئة التدريس”. وهي مفاهيم- للأسف- استبطنها القسم المنظم نقابيا، سواء أساتذة المدرسة أو الجامعة. ففي البلاغ المشترك بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والنقابة الوطنية للتعليم العالي الموقع بتاريخ 14 فبراير 2014 ورد ما يلي: “ألقى السيد الكاتب العام للنقابة كلمة باسم مكتبها الوطني سجل فيها التلاقي الحاصل بين النقابة والوزارة حول ضرورة إصلاح شمولي للمنظومة يروم إلى جعلها قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا، مجددا التأكيد على أن التنفيذ الأمثل لأي مشروع للنهوض بها رهين بتوفير الشروط المادية والمعنوية والانخراط التام لحامليه بالصفة والوظيفة وهم الأساتذة الباحثون”.

إذا قمنا بتفكيك شفرة هذه اللغة الخاصة بالمجلس الأعلى للتعليم، فسنجدها بسيطة جدا: 1) تنويع أشكال التوظيف/ تنويع الأوضاع القانونية لشغيلة القطاع؛ 2) ربط الأجور والترقيات بالمردودية.

1) تنويع أشكال التوظيف:

هناك تفاوض بين النقابة الوطنية للتعليم العالي ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وجرى توقيع اتفاق بينهما في أكتوبر 2022. ومن بين الأمور تستعد الوزارة لتضمينها في مشروع النظام الأساسي الجديد: “الاستعانة متى استلزمت الحاجة ذلك بأساتذة عرضيين أو أساتذة زائرين أو أساتذة مشاركين، ويتقاضون تعويضا عن الدروس أو المهام البحثية التي يقومون بها… يوظَّف الأساتذة المشاركون كأطر مكملة من طرف المؤسسة الجامعية بموجب عقد محدد المدة لا تتعدى سنة واحدة قابلة للتجديد، من بينهم أساتذة باحثين مغاربة أو أجانب أو العاملين بجامعات أو مختبرات بحث أجنبية أو خبراء متخصصين أو مهنيين مغاربة أو أجانب، للقيام بمهام تعليمية بحثية معينة، غير أنه لا يمكن في جميع الحالات أن يؤدي هذا العقد إلى ترسيم المعني بالأمر ضمن هيئة الأساتذة الباحثين”.

هكذا سيؤدي إغراق الجامعة بمختلف الأساتذة مختلفي الوضعيات القانونية (عرضيين، مشاركين، زائرين) وتنوع أصولهم (مغاربة أو أجانب، عاملين بجامعات أخرى، مهنيين…) واختلاف مهامهم، وبعقود لا تخول ترسيمهم ضمن هيئة الأساتذة الباحثين، سيؤدي كل هذا إلى تسهيل مراجعة البرامج والمناهج الجامعية لتلائم متطلبات المحيط الاقتصادي. والأستاذ- ة بعقد مؤقت أقل حرصا على المضامين التي يُدرِّسها وأقل مقاومة للإصلاح البيداغوجي مقارنة بأستاذ- ة باحث- ة مرسم- ة مطمئن- ة لوضعه- ها النظامي. لذلك فمقاومة العقلية المحافظة الرافضة للتغيير، حسب الدولة هي في إزالة ذلك الوضع النظامي القار وتعويضه بأشكال متنوعة للوضعيات القانونية. ومع مرور الوقت ستتفوق أعداد الأساتذة- ات الزائرين- ات والمشاركين- ات والعرضيين- ات على أعداد “هيئة الأساتذة الباحثين”، كما جرى مع المفروض عليهم- هن التعاقد مقارنة بالنظاميين- ات مع وزارة التربية الوطنية.

2) نقل آليات تدبير الموارد البشرية من القطاع الخاص إلى الجامعات:

هناك عبارة شائعة في صفوف الأساتذة الباحثين الجامعيين مفادها أن وضعهم الاعتباري جعلهم في منأى عن مراقبة هيئة التفتيش كما هو الحال مع أساتذة الأسلاك الأخرى. لكن الدولة تُعد ما هو أخطر من هيئة التفتيش: ربط الحوافز والترقيات بمردودية الأستاذ الباحث. ورد في تقرير المجلس الأعلى للتعليم: “ينبغي أيضا أن ترتكز الأجرة والترقية في المسار المهني على جودة الأداء، الذي حُددت معاييره من خلال المهام الجديدة للمدرس (مشروع بيداغوجي ناجح؛ أنشطة وإنتاجات علمية، ابتكار؛ تثمين…)”. ولم يعدم التقرير وسائل مراقبة أداء تلك المهام: “وضع آلية للمساءلة: تقارير الأنشطة، ودفاتر وصفية للمنهاج الخاص بالمواد والوحدات”.

وكما هو شأن تقرير “مهنة الأستاذ” الصادر عن وزارة التربية الوطنية والرياضة سنة 2021، فإن تقرير المجلس الأعلى للتعليم حول إصلاح التعليم العالي وآفاق المستقبل، يتحدث بدوره عن “إدراج تعريف جديد للمهنة، وإرساء معايير جديدة لتقييم مسار الأستاذ الباحث”. وكلها مفاهيم لإخفاء القطع الجذري مع معايير التوظيف والأجر والترقية الجماعية، وتعويضها بمعايير فردية، تقوم على الاستحقاق والأداء الفرديَّين، ما يزرع التنافس بين هيئة الأساتذة الباحثين “للبرهنة على كفاءتهم البيداغوجية” كما ورد في تقرير المجلس، أي أيهم أكثر استحقاق للحوافز والتعويضات، بدل التكتل الجماعي والمنظم من أجل تحصين حقوقهم وشروط عملهم.

ولتسهيل القبول بمعايير التوظيف والأجر والترقية هذه، اقترح المجلس الأعلى للتعليم نفس ما قامت به وزارة التربية الوطنية بالنسبة لهيئات الإدارة التربوية وهيئة التدريس: زرع تلك المعايير في عقولها وهي في مراكز التكوين: “تُعتبر المهننة شرطا يضمن تأهيل الفاعلين التربويين وفق مقومات الجودة، وفي انسجام مع انتظارات المجتمع. وهو ما يستلزم مراجعة النصوص المنظمة لمجالي التكوين الأساس والمستمر… وتحديد شروط التكوين… ومن ثم، تبدو ضرورة مأسسة التكوين المهني البيداغوجي، خاصة بالنسبة للمدرسين المساعدين الجدد، خلال السنتين الأوليين بعد ولوجهم الجامعة”.

من أجل منظور أجمالي بديل للجامعة البرجوازية

تتجلى قوة الدولة في منظورها الإجمالي وشموليته: إذ الجامعة ليست إلا حلقة من سلسلة البنية الفوقية التي يجب إعادة تكييفها مع المتطلبات المتجددة والمتغيرة للرأسمال. وحتى في الجامعة فإن منظورها جامع، يلفها خيط ناظم يمر عبر حلقات السلسلة كلها (المؤسسة الجامعية، الطلاب- ات، الأساتذة- ات الباحثون، المناهج والبرامج، التقويم والامتحانات… إلخ)، وهذا الخيط الناظم هو ذاته: تكييف الجامعة مع متطلبات المقاولة/ المحيط الاقتصادي.

أما بالنسبة للقطب الآخر فمشتت، كل حسب موقع حلقته في السلسلة: فالطلاب يتصارعون من أجل المنح وشروط التدريس، في حين تطالب نقابة التعليم العالي بتحسين شروط هيئة التدريس المادية كي يتمكنوا من الانخراط في الإصلاح، أما أسر الطلاب- ات فلا رأي لها في الأمر.

لا يمكن الدفاع عن جامعة عمومية جماهيرية دون وضعها ضمن إطار إجمالي للتغيير الاجتماعي، يدافع عن مصالح من هم- هن في أسفل الهرم الاجتماعي وحقهم- هن في الحياة، بدل منظور الدولة المدافع عن منهم في أعلى الهرم الاجتماعي (الرأسماليون، الشركات، المقاولة… إلخ).

يرتبط موضوع التعليم العالي- كما ورد أعلاه في متقطف من تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي- بكل قطاعات المجتمع، من فلاحة وصناعة وطاقة وتكنولوجيات وخدمات. وهي قطاعات تملك لها الدولة رؤية شاملة وإجمالية ضمنتها في وثيقة “تقرير النموذج التنموي الجديد”. هذا النموذج القائم على أولوية ومركزية القطاع الخاص والاستثمار الرأسمالي، الذي يجب أن تتدخل الدولة عبر المالية العمومية لحفزه وتجهيزه بالبنية التحتية وتكوين اليد العاملة الملائمة لمتطلباته.

ودون الاهتمام بالتعليم العالي في إطار أشمل يستحضر باقي قطاعات المجتمع، ستتبدد نضالات الطلاب في مناوشات من أجل مطالب جزئية جدا، وتتورط نقابة التعليم العالي في مقايضة فتات جزئي [تغيير الإطار، رفع الاستثناء عن حملة الدكتواره الفرنسية، تحسين الأجور… إلخ] بالقبول بالإصلاح الجامعي الذي يربط الجامعة بمصالح المقاولة، ويربط حقوق الأساتذة- ات بقدرتهم- ات على الأداء.

يستدعي هذا الدفاع عن تعليم يخدم مصالح شرائح الشعب (أجراء-ات وصغار المنتجين- ات بالمدن والقرى…) وأبنائها وبناتها من تلاميذ- ات وطلاب- ات، ولن يتأتى هذا دون الدفاع عن منطق الخدمة العمومية في جميع القطاعات، ومنع الرأسمال الخاص من الولوج للاستثمار في المشترك والمشاع الجماعيين، سواء تعلق الأمر بخدمات عمومية أو اجتماعية أو بثروات الأرض (من فلاحة ورعي وطاقة ومعادن… إلخ).

فقط في اقتصاد اجتماعي تضامني يستبعد الربح ويخدم مطالب السواد الأعظم من الشعب، وليس الأقلية المتربعة على عرش اقتصاد الربح الخاص، فقط في هذا الاقتصاد يمكن الحديث عن ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي، بطريقة تخدم المجتمع.

علي أموزاي

أصل المقال مداخلة أُلقيت باسم جمعية أطاك المغرب في ندوة نظمها فصيل الطلبة القاعديين التقدميين بكلية العلوم القانونية والاجتماعية- جامعة عبد المالك السعدي، مارتيل- تطوان بتاريخ 16 ماي 2023


[1]– «Viviers», Mohamed Ali Mrabi, L’economiste, Numero 659, 19- 20- 21 Mai 2023.

[2]– «Les modèles économiques disruptifs : innovations de rupture», https://shorturl.at/hrBCI.

[3] – “تغيير النموذج المعتمد من أجل بناء صناعة دينامية في خدمة تنمية مطرِدة ومدمِجة ومستدامة”، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 30/2017، ص 12.

[4]– “بلترة العمل الذهني”، ارنست ماندل، https://shorturl.at/uyCOQ.

[5] – “يمكن أن يؤدي الاستثمار في مصادر الطاقات المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة… إلى خلق… نحو %9 من فرص العمل السنوية… التي يحتاج إليها الاقتصاد المغربي. ولتحقيق هذه الأهداف، سيتعين توفير التعليم العالي والتدريب (التكوين) المهني على نحو مناسب من أجل إعداد القوى العاملة لهذه الوظائف الجديدة… من الضروري إعداد العمال لهذه الفرص من خلال وضع حوافز في أنظمة التعليم والتدريب (التكوين) المهني لإعادة توجيه البرامج نحو التحول في الاحتياجات من المهارات”. “الجودة المجهولة، أزمة المياه غير المرئية”، موجز واف، ريتشارد دامانيا، سيباستيان ديسبورو، أودي صوفي روديلا، جيسون رايس، إيشا زافيري، مجموعة البنك الدولي، 2019.

[6] – المحاور الثلاثة لتحويل المدرسة إلى سلعة”، نيكو هيرت، https://shorturl.at/abh78.

زر الذهاب إلى الأعلى