المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الرابعة عشر من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب: الاستثمار في الرأسمال البشري: إجهاز على التعليم العمومي وإخضاع للتربية لسطوة الرأسمال

الحلقة الرابعة عشر

1-1 ما علاقة الوضعية الراهنة للاقتصاد الرأسمالي بما آلت إليه المدرسة؟

غيرت شروط التراكم الرأسمالي لما بعد أزمة سبعينيات القرن الماضي منظومات التربية والتعليم، لتدخل هذه الأخيرة مرحلة جديدة عرفت فيها بنيات المنظومة والمناهج والبرامج الدراسية والممارسات البيداغوجية تحولات عميقة.

ترتكز دينامية الرأسمالية على الرفع من وتيرة الإنتاجية، كما جرى التطرق إليه سابقا، وأمام عجز التطور التكنولوجي المتمثل في التوسع الهائل للتكنولوجيا الرقمية لحل معضلة تباطؤ هذه الوثيرة، يسعى الرأسمال للحفاظ على معدلات ربح مرتفعة ، من جهة، عن طريق تقليص الأجر، و البحث عن ملاذات للأجور المتدنية وللإعفاءات الضريبية، و من جهة أخرى، تكثيف استغلال الأجراء و تحسين “إنتاجيتهم” بواسطة التكوين و التعليم اللذان يوافقان حاجيات المقاولة المتغيرة باستمرار، في بيئة اقتصادية تطبعها حدة المنافسة التي تستلزم استخداما متناميا للتطور التكنولوجي وللأنماط الجديدة لحكامة المقاولات. ولضمان توسع مستمر لحقول الاستثمار، تهيء الدول المناخ المناسب لخصخصة الخدمات العمومية.

1-2 الاستثمار في الرأسمال البشري: إجهاز على التعليم العمومي وإخضاع للتربية لسطوة الرأسمال

للإجابة على معضلة تباطؤ معدلات النمو، أسست النظريات الاقتصادية الليبرالية (مدرسة شيكاغو في بداية الستينيات) فرعا من الاقتصاد سمي “باقتصاد التربية”، وقد كانت “نظرية رأس المال البشري”[1] أهم نتائجه. تَخْلص هذه النظرية إلى ما مفاده أن الإنسان يمكن أن يعتبر كمادة خام تُشَكَّل وتُحَوَّل وفقاً لاحتياجات الاقتصاد وسوق الشغل. كانت هذه النظرية الليبرالية ومشتقاتها، ولا تزال، موجٍّها لكل السياسات التعليمية المملاة من قبل المؤسسات المالية والمنظمات الاقتصادية العالمية الراعية لمصالح رأس المال.  رغم الذهاب بعيدا في تنزيل خلاصات هذه النظرية على أرض الواقع، لم يساهم الاستثمار في “رأس المال البشري” – هذا الاستثمار الذي أتاح الفرصة للتجارة في التعليم – في الرفع من الإنتاجية، بل انحصرت نتائجه في الحفاظ على المستوى المتدني لتلك الانتاجية، مع تفادي حالة الانهيار. فقد أوكلت لهذا الاستثمار، من جهة، مهمة تكييف قوة العمل والأجراء مع أساليب وتقنيات الإنتاج التي طورتها القفزة الرقمية، وتدريب الأجراء على الانضباط للأشكال الجديدة لتنظيم المقاولة. ومن جهة أخرى، مهمة تهيء النخب المتخصصة في حكامة المقاولة والكفاءات التي تدير الجانب المالي والتقني للشركة اضافة إلى الاستشاريين، الفاحصين المدققين، المحللين الماليين، المبرمجين، الأخصائيين في التسويق وأطر البحث والتطوير. أي تكوين النخب القادرة على الرفع من أرباح المساهمين والإبداع في تنويع أساليب الاستغلال.

كما رأينا في الفصل السابق، يعتبر مفهوم الرأسمال البشري مفهوما أساسا للرؤية الليبرالية للمدرسة، تُعَرٍّف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية “رأس المال البشري” بما هو مجموع المعارف والمؤهلات والكفايات وغيرها من الصفات التي يمتلكها الفرد والتي تهم النشاط الاقتصادي[2].

يعتبر التعليم والتكوين استثمارًا، يجب على الفرد أن يدبره بطريقة عقلانية من أجل بناء رأسمال منتج لا يمكن فصله عن شخصه. يمكن للمتعلم أن يستثمر لزيادة مخزونه من رأس المال البشري، عبر طلبه للتعليم الذي يزيد من إنتاجيته، كما تستثمر الشركة لمراكمة رأس المال المادي.  التكاليف النسبية للحصول على هكذا رأسمال نوعان : أولا، تكلفة الفرصة البديل، أي الراتب والمزايا التي يمكن للفرد المطالبة بها إذا كان يعمل بدوام كامل، والتي يجب أن يتخلى عنها لتحرير نفسه من أجل متابعة دراسته. وثانيا، التكاليف والرسوم المطلوبة لتكوينه. يُقاسُ معدل العائد على الاستثمار في رأس المال البشري بفارق الأجر الذي لم يكن باستطاعة الفرد الحصول عليه لو لم يستثمر.  واتباعا للمبدأ الليبرالي الذي يؤكد أن المبادرة الفردية والبحث عن المكاسب الشخصية يعود بالنفع على الاقتصاد ككل، وعلى المجتمع، فإن سعي المرء إلى المكسب من الاستثمار في رأس ماله البشري يلعب نفس دور الاستثمار في رأس المال المادي، حيث إن مراكمة سنوات عديدة من الدراسة، يرفع من الإنتاجية عن طريق الابتكارات التكنولوجية وحسن استخدامها، مما يدعم النمو على المدى البعيد. فالادخار المُسْتَثمر في تكوين الأفراد أحد أهم العوامل المسَرٍّعة للنمو.

أما فيما يتعلق بمسألة تمويل العرض التعليمي ودور الدولة، تؤكد نظرية رأس المال البشري على الحاجة إلى إبقاء الإنفاق الاستثماري على التعليم خاضعا للسوق الحرة. فإذا كانت الأسواق تنافسية، وإذا كان الأفراد يحكمون ب “عقلانية” بين ما سيخصصونه من دخلهم ومعدلات العائد المتوقعة، فإن الإنفاق الاجتماعي على التعليم سيكون الأمثل وسيكون ناتج الخدمات التعليمية “فعالاً ” قدر الإمكان. لن يُسمح بتدخل الدولة إلا في حالات التالية: حث الآباء على الاستثمار في رأس المال البشري لأبنائهم، تحفيز سوق القروض المخصصة للتعليم، تقديم الدعم للتعليم الإجباري الذي من شأنه المساعدة على الانضباط للنظام العام، والإنفاق على التكوينات اللازمة للموظفين المكلفين بتثبيت النظام السياسي والاقتصادي الراعي لمصالح رأس المال.

خلاصات هذه النظرية الموجهة في الوقت الراهن للسياسات التعليمية ليست بجديدة. فمنذ ظهور النظريات الاقتصادية الليبرالية الأولى كان تبضيع التعليم أحد أولوياتها، ولنا في بعض مما ورد فيها، نفس التحليل ونفس الحجج. فيما يلي بعض ما جاء في مؤلف أدام سميت (1776) ” بحوث في طبيعة ثروات الأمم وأسبابها”: “عندما ننشئ آلة باهظة الثمن، نأمل أن الكمية الهائلة للعمل الذي ستنجزه قبل أن تكون خارج الخدمة تمامًا، ستُعَوِّض رأس المال المستخدم في إنشائها، مع تحقيق أرباح عادية على الأقل. الرجل الذي ينفق الكثير من الوقت والعمل ليصبح لائقا لمهنة تتطلب مهارة وخبرة هائلتين، يمكن مقارنته لواحدة من هذه الآلات الباهظة الثمن. يجب أن نأمل أن الوظيفة التي يستعد لها، ستُعَوٍّضه، زيادة عن أجور العمل البسيط، عن جميع نفقات تعليمه، بالإضافة إلى ما لا يقل عن الأرباح العادية لرأس مال من نفس القيمة. يجب أيضا أن يتحقق هذا التعويض خلال فترة زمنية معقولة، بالانتباه إلى المدة غير المؤكدة لحياة البشر، تماما كما نأخذ في الاعتبار مدة صلاحية الآلة، هذه المدة التي تكون أكثر يقينا”. وفي نفس السياق، يؤكد على هذه المقاربة كالآتي: “إن اكتساب المواهب من قِبل السكان أو أفراد المجتمع دائمًا ما يكلف مصاريف حقيقية تنتج عن صيانة الشخص الذي يكتسبها، أثناء وقت تعليمه، أو تدربه أو دراسته، وهذه النفقات هي رأس مال مُثَبَّت ومحقَّق، إذا جاز التعبير، في شخصه. إذا كانت هذه المواهب تشكل جزءً من ثروته، فإنها تشكل أيضًا جزءً من ثروة المجتمع الذي ينتمي إليه. يمكن اعتبار البراعة المُحسَّنة داخل العامل، من وجهة النظر نفسها، كآلة أو أداة صناعة تُسَهٍّل العمل وتختصره، وعلى الرغم من النفقة التي تكلفها، تعَوَّض هذه النفقة إضافة إلى ربح”. وبخصوص الدور المنوط بالدولة القيام به، فيحدده المؤلف عند صياغته الفقرة التالية: ” ولكن على الرغم من أنه في أي مجتمع متحضر، لا يمكن لأبناء الشعب أن يتعلموا جيدًا مثل الناس الذين ولدوا في الثراء، فإن الأجزاء الأساسية في التعليم كالقراءة والكتابة والعد، هي معارف يمكن اكتسابها في سن مبكرة، حتى أن معظم المتجهين إلى أدنى المهن يكون لديهم الوقت لأخذ هذه المعارف قبل البدء في أعمالهم. مقابل نفقة صغيرة للغاية، يمكن للدولة أن تسهل وتشجع اكتساب هذه الأجزاء الأساسية من التعليم بين جماهير الشعب، وبشكل ما تجبرهم على ضرورة اكتسابها.

يمكن للدولة تسهيل اكتساب هذه المعارف، من خلال إنشاء مدرسة صغيرة في كل أبرشية أو منطقة حيث يتم تعليم الأطفال مقابل رسوم صغيرة، يمكن للعامل البسيط أن يقدمها؛ يجري الدفع للمُعَلم جزئيا، ولكن ليس بالكامل من طرف الدولة، فإذا كانت تدفع له الدولة كليا أو تدفع له الجزء الأكبر، قريبا سيأخذ العادة على إهمال مهنته [….] يمكن للدولة أن تشجع على اكتساب هذه الأجزاء الأساسية من التعليم، من خلال إعطاء جوائز صغيرة أو بضع علامات تميز صغيرة لأبناء الشعب الذين سيتفوقون هناك […] إن شَعبا متعلما وذكيا يكون سلوكه دائمًا أكثر تهذيبا ويكون أكثر امتثالا للنظام من شعب جاهل وغبي. كل فرد من هذا الشعب – المتعلم- لديه شعور أكثر بما يستحقه والالتزامات التي يحق له أن يتوقعها من رؤسائه الشرعيين، وبالتالي فهو أكثر استعدادا لاحترامهم. يصبح الشعب في حالة لا تسمح له باحترام شكاوى الساخطين والفاسقين؛ لا يصبح قادرا على الرؤية بوضوح من خلال استنكارهم؛ لهذا السبب، يقل احتمال جره إلى معارضة عشوائية أو غير مجدية لتدابير الحكومة. في البلدان الحرة، حيث يعتمد هدوء الحكومات إلى حد كبير على رأي الناس المساند لها، بالتأكيد ومن المهم للغاية ألا يكون الشعب على استعداد لإصدار أحكام بشكل أرعن وغير مدروس”.

لا يتردد مختلف الاقتصاديين الليبراليين، عند اعتبار “إنتاج” قوة العمل كصناعة مماثلة للصناعات الأخرى. يأخذ هذا “الإنتاج” مسميات مختلفة تحمل أسماء لها دلالتها مثل “إنتاج المعرفة” أو “المنتوج التعليمي” وكلها تشير إلى تبضيع التعليم الموجه لاستغلال العمل. أصبح من الطبيعي في النظام الرأسمالي أن ينتقل رأس المال إلى هذا المجال الجديد للإنتاج خصوصا أن مدة صلاحية المنتوج أضحت جد قصيرة، والسوق يجب أن تزود المقاولات باستمرار بالبضائع المتنوعة واللازمة لسيرورة الإنتاج. فمطلوب من العامل أن يؤدي مهاما متغيرة باستمرار تجعل منه في كل مرة عاملا غير ” صالح للاستعمال” عند انقضاء مدة قصيرة يتوجب بعدها تغيير تنظيم وتقنيات العمل.

تعتبر النظريات والسياسات النيوليبرالية التعليم سلعة خاصة قيمتها قبل كل شيء اقتصادية. لم يعد المجتمع يضمن لكل أفراده الحق في التثقيف بل على الافراد السعي نحو رسملة موارد خاصة – معارف وكفايات – يضمن لها المجتمع بعد ذلك المردودية المستقبلية. تغليب الفردانية والاستقلالية لتثمين خزان الفرد من التعلمات من أجل الرفع من مداخيله، يلزمه في المحصلة مؤسسات غاياتها تقديم خدمة للمصلحة الخاصة. جَعْلُ المعرفة أداة لتحقيق المنفعة الخاصة يَحْصُرُ، أكثر من أي وقت مضى، دور المؤسسة التعليمية في مد المقاولات برأس المال البشري الذي تحتاجه ويُخْضِعُ إنتاج خدماتها لميكانيزمات السوق.

فالفرد يمتلك موارد خاصة به، يحملها معه، ويبحث طيلة حياته على المزيد للرفع من إنتاجيته، وبالتالي من دخله. الاستثمار مثلا، في تكوين يوصل إلى دكتوراة في الطب، لا يهم فيه سوى مستوى الدخل الذي تدره مهنة الطبيب، والذي سيُمَكٍّن هذا الأخير من الترقي في السلم الاجتماعي. لذلك يجب أن يكون هذا التكوين خصوصيا، لأنه يعود بمردودية خاصة عالية. اختيار المهنة في نظرية رأس المال البشري، اختيار فردي، لا يتحكم فيه سوى بعد واحد هو الدخل المتَوقَّع الذي يَلْزَمه استثمار قبلي. ليس المتحكم في اختيار المهنة تلبية حاجة كل أفراد المجتمع لكل الخدمات العمومية الضرورية، عبر تخطيط واع، قبلي، جماعي وبصورة ديموقراطية، بل المتحكم هو المردودية الفردية والسوق.

إن تحكم نسبة الكلفة/المردودية في تمويل التعليم يضرب في العمق دمقرطة هذا الأخير. فالمتعلمون الميسورون ماديا أو المتميزون دراسيا من مصلحتهم الاستثمار في رأس مالهم البشري لأنه سيكون ذا مردودية عالية، في حين أن المتعثرين والأقل تميزا ليس من مصلحتهم متابعة دراستهم، فكلفة ذلك لن تغطيها المداخيل المستقبلية. وكنتيجة لهذا التحكيم بين الكلفة والمردودية، من مصلحة هذه الفئة الأخيرة تلقي، تكوين مهني سريع، يُمَكٍّنُها مبكرا من طلب الشغل.

من جهة أخرى، ليس من مصلحة المتعلمين في البلدان النامية الرهان على تعليم عال، يعد أطرا عليا متخصصة، فكلفة هذا الأخير لا تناسب المداخيل المستقبلية التي سيذرها الشغل في قطاعات إنتاجية بعيدة عن التكنولوجيا العالية، والتي تحتاج إلى يد عاملة منفذة لا يلزمها سوى تأهيل متواضع.

تعد هذه الرؤية مصدر تأكيد السلطات التعليمية على تنويع مصادر التمويل. هذا التنويع من شأنه أن يعمق الفوارق بين المتعلمين ويقوي تبعية البلدان النامية للبلدان الرأسمالية، خدمة لمصالح الشركات الأجنبية.


[1] للاطلاع على عرض حول اقتصاد التربية يمكن الإحالة إلى المقال التالي:

Francois Orivel, « Les économistes et l’éducation », Iredu/CNRS, Université de Bourgogne. 2005

[2] OCDE, (1998), « L’investissement dans le capital humain : Une comparaison internationale »

زر الذهاب إلى الأعلى