المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة السابعة عشر من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية: حكامة المنظومة التربوية: تدبير مقاولاتي يجهز على استقلالية الأجراء

حكامة المنظومة التربوية: تدبير مقاولاتي يجهز على استقلالية الأجراء

هذا التحول في وظيفة التعلمات المدرسية وفي غاياتها، يستتبعه تحول في أنماط تدبير المؤسسات التعليمية. هذه الأخيرة يجب تمتيعها بمزيد من الاستقلالية للاستجابة إلى الطلب على الخدمة التي تقدمها. خدمة غير ممركزة، إنتاجها يجب أن يتحقق عن طريق تشجيع الشراكات والشبكات؛ خدمة منفتحة على المنطق الاقتصادي.

في ظل نمط التدبير الجديد الذي تنشده سلطات التعليم الليبرالي، تحت شعار اللاتمركز، يظل واقع التعليم بعيدا عما يُرَوَّج له حول تشجيع المبادرات المحلية، ودمقرطة تسيير المؤسسات عبر إعادة توزيع السلط بين الفاعلين المتداخلين في حقل التربية والتكوين. بل ما يعكسه ميدان الممارسة التربوية هو تقوية المراقبة على المدرسين ومضاعفة التعليمات الموجهة لهم.

إذا ما اعتبر التعليم سوقا أو شبه سوق، وارتبطت غاياته برهانات اقتصادية، فبالمحصلة يجب استنساخ نمط التدبير المقاولاتي من أجل تدبير المؤسسات التعليمية مع الأخذ بعين الاعتبار نوع الخدمة التي ستنتجها وتُسَوٍّقها المدرسة/المقاولة. بما أن فعالية هذه الأخيرة قابلة للقياس وكلفتها قابلة للضبط، فيجب أن يكون على رأسها مدير قادر على قيادة فريق، ومسؤول عن بلوغ الأهداف المرسومة، لكن بتوجيهات من السلطات العليا، مما يستوجب إخضاع كل المدراء لتنفيذ تعليمات تأتي من المركز. فحكامة المنظومة التربوية تدفع في اتجاه اللامركزية واللاتمركز، أولا بغاية تشجيع سوق التعليم والمنافسة، ثانيا، بغاية تدبير القطاع وفق نموذج يستلهم مبادئ التدبير المقاولاتي (التنافس، المرونة، المردودية/الكلفة..)، مع تقوية المراقبة المركزية، للتحكم في الميزانيات المعتمدة، قصد “عقلنة” التسيير في إطار سياسة تقشف عامة. مما يستوجب من جهة، تدعيم أجهزة المراقبة لتنفيذ الأوامر، ومن جهة أخرى، تعميم نموذج الضبط بواسطة عقود. يجري التعاقد على أساس مشروع خاص بالمؤسسة، تُوَضَّح فيه الأهداف، ويتضمن مؤشرات تُسَهٍّل تقييم النتائج. أصبح هذا الشكل من التعاقد يطبع كل مستويات القرار (إدارات محلية، جهوية ومركزية) بما فيها التي تخص توزيع موارد الميزانية العامة، ومن بينها الاعتمادات الموجهة لوزارة التربية الوطنية. يصاحب هذا النموذج من التعاقد استعمال متنامٍ لمؤشرات النتائج كالتي تعدها الجمعية الدولية لتقييم المردودية المدرسية التابعة لليونيسكو (TIMSS,PIRLS) أو التي تعدها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (PISA)[1] أو التي يعدها مركز الجامعات من المستوى العالمي والتي تخص التصنيف الدولي للجامعات.

هذه الحكامة المتمحورة حول النتائج عوض الموارد، تُعَمٍّم استخدام هذه المؤشرات التي تضغط بصورة متنامية على البلدان، ومن ثمة المؤسسات التعليمية لتحسين تنافسيتها، كما تضغط في اتجاه الوصول إلى مستوى معين من النتائج باعتماد موارد أقل. هذا ما يقصد به “النجاعة” في التدبير.

 بعيدا عما يعتقده البعض من تحويل لمجموعة من السلطات لفائدة المؤسسة التعليمية، تتيح اللامركزية للدولة الحفاظ على سلطتها عبر الارتكاز على بنيات وسيطة لمراقبة تنفيذ هذه السياسات. فالاستقلالية ممكنة ما دامت لا تقوض سلطات الإدارة المركزية. هذه الأخيرة تعمل على إعداد وتثبيت “موظفين لسلطة القرب”[2] ، منفذين أوفياء للأوامر ومراقبين مداومين للمُدَرٍّسين وموجودين في اتصال مباشر مع المركز باستخدام نظام معلوماتي يجعل تكنولوجيا الإعلام في خدمة تنزيل السياسات التعليمية المقررة من فوق. يُبعد هذا التنظيم المدراء من تقوية ثقتهم بمبادرات المدرسين وخياراتهم مقابل البحث فقط عن تطابق الممارسة مع التعليمات. أدوار المدير كقائد، منشط، مدبر، موجه للفريق، كلها توحي بتدبير تشاركي مزعوم لتمويه غياب الديمقراطية بالمنظومة التربوية والإجهاز الكلي على الاستقلال المهني للأجراء. هذه الأشكال من ممارسة السلطة، لا تهدف إلى التداول في سياسة مستقلة بل إلى تعبئة الموارد الفردية من أجل “نجاعة” التدبير “العمومي”. يُمَوه هذا التنظيم مصدر السلطة ويجعل المدرس، معتقدا أن كل النزاعات داخل المؤسسة ناتجة عن ميولات فردية أو عن تعدد الانتماءات النقابية أو بكل بساطة نزاعات طبيعية وسطحية.

يحسم هذا الشكل من التدبير مع الفصل بين ما هو إداري وبيداغوجي، والذي كان متاحا نتيجة كفاحات هيئة التدريس. أصبحت هيئات المراقبة البيداغوجية خاضعة للنظام الإداري، حيث فقدت هيئة التفتيش التربوي استقلاليتها النسبية وأصبحت أكثر تبعية للمنطق الإداري المتمثل في عقلنة تدبير الموارد البشرية. هيمنة التدبير على حساب التعليم، يدفع في اتجاه مهننة المدرسين وإبعادهم عن الحفاظ على وعيهم الجماعي الخاص بهم. في إطار هذا التدبير الجديد، يجب على المدراء أن يركزوا على المؤشرات القابلة للقياس كعدد الفروض وعدد ساعات غياب المدرسين والتلاميذ، ثم تعبئة كل الإحصاءات داخل النظام المعلوماتي، بدلا من التركيز على أبعاد عديدة تخدم الممارسة البيداغوجية داخل الفصل الدراسي. يجب أن يستوعب المدراء أنهم على رأس مؤسسة لها غايات أخرى لها الأولوية عوض تعلم المعارف. فمهام المدرسة أصبحت تُعَلم كفايات عرضية وسلوكية.  في المؤسسات التعليمية التي تستقبل عددا كبيرا من أبناء القرى وأبناء الطبقات الدنيا، يجري تحريف الممارسة البيداغوجية نحو الأنشطة الأقل ارتباطا بالمواد المُدَرسة، التي يجري تصنيفها في خانة المواد المملة، وحيث يُسَلَّم بتفوق القلة/النخبة في تعلمها. يعد تشجيع الأنشطة المدرسية وتفعيل الأندية والمشاركة في المسابقات التنافسية إحدى الأولويات التي يقوم عليها تقويم أداء المؤسسة، ويُطلب من المدرسين مزيد من المرونة والتأقلم مع المتطلبات الجديدة للمستفيدين من المدرسة وشركائها. يُصَنَّف المدرسون الذين يرفضون الانسياق بسلاسة مع هذا التدبير الجديد ضمن الفئة المتزمتة، الرافضة للتحديث والتغيير، المقاومة للانفتاح وللتقدم.  تتقلص سلطة هيئة التدريس التي تصبح مسايرة لأولويات الشركاء وخاضعة لرغبات الجماعات المحلية وأوامر السلطة الإدارية.     

إن سقوط المغرب مبكرا في كماشة المديونية، وعدم تحرره من سطوة الدوائر المالية العالمية وإخضاع اقتصاده للسياسات الليبرالية خدمة للرأسمال المحلي والعالمي اللذان يستأثران بالحصة العظمى من ثروات البلد، أدى إلى بؤس التعليم بالبلد وسيؤدي إلى حصر أهداف التربية والتكوين في تكريس الخضوع إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم. وهذا ما سنحاول التطرق إليه بشيء من التفصيل فيما سيلي من هذا الفصل.


[1]   وقع المغرب ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يوم 15 يونيو 2015 مذكرة تفاهم  تفيد أحدمقتضياتها بأنه سيجري توسيع PISA   ليشمل المغرب.    

[2] Christian LAVAL. « L’école n’est pas une entreprise. Le néo-liberalisme à l’assaut de l’enseignement public ». Edition La découverte,2004.  

زر الذهاب إلى الأعلى