المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة 25 من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب: تجارب مغربية للنضال من أجل مدرسة ديموقراطية: التجربة النقابية من أجل تعليم ديموقراطي

تجارب مغربية للنضال من أجل مدرسة ديموقراطية: التجربة النقابية من أجل تعليم ديموقراطي: من البناء إلى الأزمة إلى منظورات ونضالات للتجاوز.

البناء:

مثلت الحركة النقابية دوما الشكل الأكثر تنظيما لتأطير النضال المدافع عن المدرسة العمومية وشغيلتها، وتنوعت تنظيماتها لكن ظلت مطبوعة أساسا بتنظيمين تاريخيين: الجامعة الوطنية للتعليم التابعة للاتحاد المغربي للشغل، والنقابة الوطنية للتعليم التابعة للكونفدرالية الديموقراطية للشغل.

 لكن هاته الاخيرة كانت الحاضن الأساس لأغلب كفاحات الشغيلة التعليمية، فمنذ أواسط الستينيات الى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ظلت النقابة الوطنية للتعليم تؤطر نضالات أجراء التعليم المدرسي بالمغرب، سواء باستقلال عن بيروقراطية نقابة ا.م.ش [التي تأسست في مارس 1955] او في إطار المركزية النقابية ك.د.ش انطلاقا من نونبر 1978. وهنا تكمن أهمية تتبع مسار هذه النقابة، كمفتاح لقياس حجم المقاومة النقابية لتوجهات الدولة وهجومها على التعليم العمومي وأجرائه منذ مذهب بنهيمة. لقد مثل تأسيس النقابة الوطنية للتعليم أملا كبيرا لاحتضان كفاحات رجال ونساء التعليم وقيادتهم وفق منطق كفاحي لمواجهة التوجه الرجعي للحاكمين في قضايا التربية والسياسات التعليمية وحقوق أجراء القطاع، وبقيت طويلا حاملة لراية النضال من أجل تعليم شعبي وفق فهم معين، كما تطورت داخلها مختلف الميول المتناقضة، كفاحية ولبرالية، ديموقراطية وبيروقراطية…

1 – 1 النقابة الوطنية للتعليم: سياق التأسيس والنضال المستقل عن إ م ش الى سنة 1978.          

 اتسمت الظروف التي تأسست في ظلها النقابة الوطنية للتعليم بما يلي:

  • على المستوى السياسي: تصفية جيش التحرير وتصاعد قمع الملكية لليسار الشعبوي للحركة الوطنية “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، خاصة بعد اقالة حكومة عبد الله ابراهيم ووقف اجراءاتها الوطنية وتمرير دستور 1962، وحيث اختطف المهدي بن بركة أحد أبرز قادة الاتحاد النقديين سنة 1965، ولتبرير حملة القمع وتوسيعها جرى الاعلان عن حالة الاستثناء لإجهاض كل مبادرة قد تحفز تحرك الجماهير الشعبية من أجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية.
  • على المستوى الاقتصادي والاجتماعي: تثبيت دعائم الرأسمالية التابعة لمراكز الهيمنة الامبريالية، والتي انعكست اثارها على القطاعات الاجتماعية، وفي مقدمتها التعليم، حيث الاعلان عن التوجه الجديد للدولة (مذهب بنهيمه – ابريل 1966)، والذي أعلن صراحة عن رغبته في التراجع عن قليل مكتسبات وطموح جماهيري بهذا القطاع وضرب المبادئ الأربعة (التعميم، المغربة، التوحيد، التعريب)، وقد تفجرت قضية التعليم في انتفاضة البيضاء 23 مارس 1965 التي قابلها الاستبداد بقمع دموي.
  • على المستوى النقابي: تجميد النضال منذ 1960 ولو في حدود الرؤية البرجوازية الوطنية التي حكمت الخط النقابي منذ التأسيس، عندما اختارت بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل، الارتماء في احضان الملكية والتبعية للدولة لقاء الحفاظ على امتيازات مادية ومؤسساتية وتوسيعها (بنايات، بورصات الشغل، منح مالية، التفرغ النقابي، الاشراك في جميع الهيئات التي تحضر وتقرر في القضايا العامة.. والانفصال عن الجناح السياسي لـ “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، حيث فرض أنصار بن الصديق سطوتهم على مفاصل ا.م.ش وجرى استعمال شعار “الاستقلالية “لقطع الطريق أمام محاولات قيادة الحزب الارتكاز على النقابة في صراعها مع النظام السياسي، أو تغيير مسار التعاون الطبقي والحياد تجاه المعضلات السياسية والاجتماعية الذي توغلت فيه قيادة النقابة.

في هذا الإطار،وبإيعاز سياسي من قيادة ” الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، كانت الأطر والطلائع النقابية المناضلة بالعديد من القطاعات ووحدات الانتاج تتمرد ضد القيادة البيروقراطية، خاصة بعد إلغاء الاضراب العام بالوظيفة العمومية سنة 1961. تشكلت “لجنة التنسيق لنقابيي التعليم ” في إطار التحضير للاستقلال النضالي عن قيادة ج.و.ت/ ا.م.ش، وتأتي هذه المبادرة بعد تمرد جامعة البريديين “الجامعة الوطنية للبريد” ضد قيادة امش سنة 1963، حيث استقطبت القاعدة التعليمية وخاضت معركة “التمثيلية” ضد البيروقراطية في اكتوبر 1965، وتمكنت من الفوز ب 50% من المقاعد و60% من الأصوات في انتخابات اللجن الادارية المتساوية الاعضاء. وفي 26 فبراير 1966، انعقد جمع عام للجن الاقليمية للتنسيق تحت اشراف اللجنة الوطنية للتنسيق، قصد تحضير تأسيس النقابة الوطنية للتعليم والذي جرى فعلا في المؤتمر الأول يومي 6 و7 يوليوز 1966 بالرباط.

 لم تنجح محاولة التوافق حزبيا ونقابيا خلال صيف 1967، حيث جرى السعي للتوحيد، خصوصا بعد اعتقال المحجوب بن الصديق بسبب تصريحاته حول هزيمة يونيو “العربية”، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، لتبدأ مرحلة استقلال النقابة الوطنية للتعليم مع نقابة البريد عمليا عن الاتحاد المغربي للشغل، علما أن عمر بن جلون ظل متشبثا بعدم تمزيق النقابة والاستمرار في النضال ضد البيروقراطية ومن أجل الوحدة.

كانت الشعارات النضالية للمؤتمر الأول، إلى جانب تحسين وضعية اجراء التعليم ودمقرطة القطاع دمقرطة حقيقية، ودعم نضالات المدرسين وحركات التحرر الوطني عبر العالم بما فيها فلسطين، ربط نضال ن.و.ت بنضال حركة التحرر الوطني المغربية، اي نضال حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو ما سيحدد أفقا في استراتيجيتها ومناوشاتها لسياسة الدولة في التعليم (جلها بيانات اجتماعات أو مؤتمرات ) وتجاه مطالب أجرائه: رفض الاصلاح الاداري لسنة 1967، اضرابات ليوم واحد بالتعليم الأصيل دجنبر 1971 وبالتعليم الثانوي وبالتعليم الابتدائي 5 و21  دجنبر 1972 كل على حدة ، واضرابات عامة سنة 1974 و20 أبريل 1977، واضرابات ليومين في ماي 1977 وفبراير وأبريل 1978، هذا فضلا عن مقاطعة الامتحان المهني يونيو 1972 ومقاطعة مداولات الباكالوريا دورة يونيو 1976 واصدار “الكراسة الحمراء ” حول فساد التعاضدية العامة للتربية الوطنية، تنظيم ندوة حول التعليم 23 مارس 1975.

بالنظر لشراسة القمع وتواطؤ بيروقراطية ا.م.ش عبر جامعتها بالتعليم، المتقلصة قاعدتها، مع الدولة في هذه المرحلة (مثال توقيع بروتوكول مع الادارة يوم 20 دجنبر 1972 لإجهاض اضراب التعليم الابتدائي)، فقد تمكنت ن.و.ت من تحقيق الهيمنة في الانتخابات المهنية سنة 1976 وبعض مكاسب في الترقية للمعلمين سنة 1973 والزيادة في الأجور والتعويضات سنة 1975، لكنها مكاسب بعيدة عن تحقيق جوهر الطموحات الشعبية وضمنها تلك الخاصة بأجراء التعليم في عهد “الاستقلال” وتضحيات انتفاضة مارس 1965.     

بعد المؤتمر الاستثنائي، الذي أفرز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، وبعد الحسم النهائي مع تيار الفقيه البصري  والقطع مع ما وصف بالشعبوية، وبناء على العلاقة السياسية الجديدة مع الحكم وما عرفته من توافقات حول الموقف من الصحراء والانتخابات البرلمانية، وفقدان عمر بن جلون ذي الفهم الفريد للمسالة النقابية بالحزب الجديد/القديم، جرى السير نحو قرار الإعلان عن مركزية نقابية جديدة  تكون ذراعا جماهيريا للحزب [ا.ش.ق.ش] في نضاله “الديمقراطي” المؤسساتي، والتي ستكون النقابة الوطنية للتعليم عمودها الفقري سنة 1978، حيث سترفع من وتيرة اضراباتها التصاعدية بعد مؤتمرها الرابع في دجنبر 1976 وضمن سياق اضرابات منفلتة من قبضة بيروقراطية ا.م.ش كعمال النقل والسائقين ومستخدمي “مكتب التسويق و التصدير” وعمال لاسمير وتقنيي الطيران…

كان فاتح ماي 1978 مناسبة لعقد عدة تجمعات مشتركة، وكانت أهم محطة في سياق التحضير النهائي للمؤتمر التأسيسي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل هي ندوة النقابات الوطنية الست لـ (التعليم، البريد، الفوسفاط، الصحة، السككيين، السكر، الشاي) بتاريخ 15و16 يوليوز 1978، وصولا الى مؤتمر التأسيس في 25 و26 نونبر.. 1978 حيث انتخب على رأس الكونفدرالية ككاتب عام مدرس هو ” محمد نوبير الأموي”، هكذا أصبحت النقابة الوطنية للتعليم النواة الصلبة “لبديل” نقابي عن الاتحاد المغربي للشغل بمنظور يخدم مشروع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

 1 – 2 إضراب 10 و11 أبريل 1979 بقطاع التعليم: لحظة حاسمة في التأسيس الميداني للنقابة الوطنية للتعليم.

بتأسيس كدش، قدمت ن.و.ت تضحيات جسام استمر تضميد جراحها طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لكن مع السير على هدى الاتحاد الاشتراكي في سلوكه تجاه سياسة الدولة التقشفية في سياق أزمة المديونية.

لقد كان نجاح 10و11 أبريل 1979 لن.و.ت/ك.د.ش، بعد اضرابات متقطعة، دليلا ميدانيا على مرحلة جديدة في تاريخ الحركة النقابية المغربية، إذ جرت الدعوة الى خوض إضراب قابل للتمديد كل 48 ساعة الى غاية تحقيق المطالب، وقد جرى الإضراب في سياق موجة نضالات غير مسبوقة قادتها المركزية الجديدة [ك.د.ش]، و نخص بالذكر اضراب عمال عدد من المؤسسات الصناعية تضامنا مع عمال المكتب الوطني للكهرباء في يناير 1979. وفي 4 يناير جرى خوض اضراب لا محدود لحوالي 10000 سككي. ومثله خاضه في 30 يناير عمال الدوكيرات بميناء الدار البيضاء، وفي فبراير خيض اضراب لـ 4000 عامل بمناجم جرادة مدة أسبوعين، واضراب 2000 عامل بمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية لـ 4 ايام، ثم اضراب 30 مارس 1979 تضامنا مع الشعب الفلسطيني …الخ

في هذا السياق العمالي الكونفدرالي، جاء الاضراب التاريخي لشغيلة التعليم، كرد طبيعي على سياسة تجميد الأجور خلال أكثر من 10 سنوات، والارتفاع المهول للأسعار بنسبة مئة في المئة من سنة 1973 الى سنة 1979. وللذكرى انضمت نقابة حزب الاستقلال “الجامعة الحرة للتعليم” الى جمعيات “الآباء” في موقف عدائي من الاضراب، فضلا عن التزام قيادة نقابة ا.م. ش الصمت واستنكافها عن أي تضامن يذكر سعيا إلى عزل الك.د.ش.

اما الحكم، فقد شن حملة قمع وترهيب شرسين ضد النقابيين وعموم المضربين، كان ضحيتها 584 معتقلا و708 مطرودا، من أجل رسم الحدود للنقابة الفتية وارجاعها- وخلفيتها السياسية- الى جادة صواب “السلم الاجتماعي والتعاون الطبقي”، وقد عمل على افراغ المدارس من التلاميذ وتعويضهم بعناصر الشرطة وخلق حالة عامة من القمع والترهيب والخوف. وفي محاولة منه لوقف التمرد العمالي، دعت الحكومة المركزيات النقابية إلى مفاوضات، استجابت لها بيروقراطية ا.م.ش وأوقفت اضراب مستخدمي الأبناك، وأقصيت منها الكدش التي دعت إلى اضراب شغيلة الصحة يوم 7 مارس، وقد نال هؤلاء الشغيلة كذلك حظهم اعتقالا وطردا. 

رغم سياسة النظام القمعية فإن الوضع السياسي والنقابي بالبلد كان عاملا مساعدا للنقابة الوطنية للتعليم في إطار المركزية النقابية الجديدة لإنجاح هذا الإضراب. فمن جهة، كانت الساحة النقابية تعيش وضعية جمود جراء تواطؤ القيادة البيروقراطية ل إ. م. ش مع الدولة وأرباب العمل، وكانت الحاجة ماسة إلى نضال نقابي مدافع عن قضايا الشغيلة، ومن جهة أخرى هيمنة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على قيادة ك.د.ش، الحزب الذي كان محتاجا لأداة نقابية ضاغطة ومناوشة للنظام، من أجل بناء قاعدة انتخابية والتواجد بالمؤسسات وتقاسم السلطة مع الملكية خدمة لاستراتيجية الحزب إثرانخراطه في “المسلسل الديمقراطي” الذي أطلقه الحسن الثاني بعد 1975.

 1 -3 النقابة الوطنية للتعليم بين خياري التصدي لسياسة الدولة في قطاع التعليم وسياسة التحكم في النضال.

 واصلت النقابة الوطنية للتعليم، العمود الفقري للك.د.ش، نضالاتها بصورة حازمة رغم سياسة القمع التي تلت اضرابات سنة 1979 وشارك مناضلوها في الاضراب الذي قررته نقابة ا.م.ش بالبيضاء يوم 18 يونيو 1981 والاضراب العام ليوم 20 يونيو 1981 الذي قررت الكونفدرالية الديموقراطية للشغل خوضه في مواجهة الزيادة في الاسعار، وتجددت موجة القمع، باعتقال المئات من مناضلي ن.و.ت وطرد آخرين، بل اعتقال قيادة كدش.

 لم تمنع حملة القمع الشديد من تنظيم حملة تضامن فريدة في تاريخ الحركة النقابية بالمغرب من قبل الك.د.ش، اضطرت معها الدولة الى تقديم تنازلات أهمها: إلغاء الزيادات في أسعار المواد الأساس، الرفع من الأجر القانوني بالقطاع الخاص وزيادة 15 % في رواتب الموظفين، الإرجاع التدريجي للنقابيين المطرودين بقطاع التعليم والصحة الى عملهم، ادماج بعض الفئات وترقيتها إلى سلم أعلى (العرفاء، المعلمون المنتدبون بالثانوي)، إقرار مبدأ الكفاءة الواحدة عند تغيير الإطار، العمل بالفصل 5 من قانون الوظيفة العمومية عند الادماج، المساواة في التعويضات بين مدرسي المواد العلمية ومدرسي المواد الأدبية. وفي شروط بالغة السوء من حيث ميزان القوة، جرى اقرار نمط للترقية الداخلية في إطار النظام الأساسي لسنة 1985 سيخلف ضحايا بعد حين، واقرار نظام تعويضات نتاج “تحكيم الملك” في 18 فبراير1988.

  • في الطريق إلى الأزمة:

رغم تحولها إلى قطب جذب لطاقات النضال التي عاشت عقودا من الجمود إبان هيمنة قيادة بيروقراطية ا.م.ش على الحركة النقابية، فقد كانت المرحلة إلى حدود 1989 فترة تضميد جراح القمع الأهوج واعادة ترميم التنظيم وتلمس القيادة خطة جديدة للنضال متحكم بها على هدى استراتيجية ا.ش.ق.ش الذي لجأ إلى تصفية ما تبقى من أصوات نقدية لنهجه الجديد (أحداث 8 ماي 1983 ) وشارك في حكومة 1984، وهي الفترة نفسها التي شهدت هجمات الدولة، في سياق برنامجها للتقويم الهيكلي، على التعليم و أجرائه : منع الشغيلة من متابعة الدراسة الجامعية (1982 ) و الزيادة في ساعات العمل الأسبوعية  بمبرر التضامن في تكاليف حرب الصحراء والتي أضحت رسمية إلى اليوم…

  فبعد المؤتمر الوطني السادس لن.و.ت سنة 1989، سيبدأ فصل جديد من “النضال المسؤول”، حيت جرى التقارب بين النقابة الوطنية للتعليم والجامعة الحرة للتعليم تنفيذا لقرارات التنسيق بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومركزتيهما النقابيتين. مهد لهذا التنسيق بعودة حزب الاستقلال إلى المعارضة البرلمانية بعد انتخابات 1984، وامتعاض الحزبين من قرار الملك تمديد عمر البرلمان سنة 1989 وسعيهما للاستجابة لملتمسات اصلاحات دستورية وانتخابات تشركهما في التسيير الحكومي.

هكذا كان التنسيق النقابي محكوما بخلفية الطموحات السياسية لأحزاب المعارضة البرجوازية، ولم يكن مناهضا لسياسة التقويم الهيكلي وسياسة القمع والتقشف التي كرسها النظام بإيعاز من المؤسسات المالية العالمية منذ بداية الثمانينيات،

اتضح أن السعي لإرساء استجابة لمطالب سياسية تخص حزبي المعارضة البورجوازية الرئيسين؛ “الاتحاد” و”الاستقلال”، كان الهدف الحقيقي من الاضراب العام الوطني لـ 14 دجنبر 1990 الذي دعت إليه المركزيتان (ك.د.ش) والاتحاد العام للشغالين بالمغرب (ا.ع.ش.م). ما يزكي هذا السعي، أنه لو كانت دواعي الاضراب هي المطالب الأربعة الرئيسة المدونة في نداء النقابتين، لكانت التعبئة له حقيقية، ولما طُلِبَ من العمال المضربين ملازمة بيوتهم.. ولما تُرِكَ كاسرو الاضراب يتصرفون بحرية.. والشباب المنتفض أعزل أمام آلة القمع. كان الإضراب العام الوطني ذاك، مناوشة وضغطا محسوبا لدفع الحكام نحو تنازلات مبتغاها الأخير تحسين وضع الحزبين في اللعبة الديموقراطية، في تناغم تام مع سياسة التوافق والتراضي مع الاستبداد والاستغلال.

وفي هذا السياق، خاضت نوت، وبتنسيق احيانا مع الجامعة الحرة للتعليم بالتلازم مع حديث عن “التناوب” سلسلة اضرابات متقطعة سنوات 1991 و1992 و1993 و1996 و1999 مرفوقة احيانا بوقفات أمام الوزارة أو النيابات. وكان مؤتمرها الوطني السابع في يوليوز 1995 مترجما لمسلسل انحطاطها البرنامجي والبيروقراطي. وقد دعا المؤتمر في بيانه الى “ضرورة ربط التعليم بالتنمية …و تفعيل المجلس الأعلى للتعليم وصولا إلى ميثاق وطني حقيقي يصبح التعليم فيه عاملا أساسيا و حاسما في التنمية “، هكذا، يجري استثمار 30 سنة من النضال لصالح طموحات الحزب المهيمن، فحلت لغة النقابة المؤسسة  المراهنة على الحوار والاندماج في مؤسسات الدولة، محل نقابة حازمة مناهضة للسلم الاجتماعي وساعية الى توسيع المبادرة القاعدية على قاعدة الديمقراطية العمالية والوحدة كما ورد في البيان التأسيسي للك.د.ش. عمقت ك.د.ش هذا التوجه من خلال اتفاق فاتح غشت 1996، ومقررات مؤتمرها الوطني الثالث سنة 1997 ومجرياته، والذي أسس ل”نقابة الشراكة الطبقية”، مستندا إلى ذات الاتفاق الذي لا يزال دليل المركزية إلى اليوم. وليس غريبا، ما رافق انتخاب المؤتمرين من ذبح   للديمقراطية لصالح أعضاء ا.ش.ق.ش (جريدة الزمن – عريضة 27 اكتوبر1995 جمد بموجبها 35 مناضلا من فرع سيدي سليمان عضويتهم)، واللجوء الى خنق الفروع المكافحة، مثال، قرار تجميد 8 فروع مكافحة بإقليم ورززات سنة 1996 ردا على نجاح اضرابهم الاقليمي المنفلت من رقابة القيادة البيرقراطية، وطرد اعضاء مكتب فرع اسفي الكفاحيين سنة 1998 وحل الفرع لوقف ديناميته النضالية والإعلامية.

 1 – 4 النقابة الوطنية للتعليم وتحديات المنعطف الليبرالي

ومع انتقال حزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1997 من حزب ظل يساير فعليا سياسة التقويم الهيكلي والتكيف  مع متطلبات العولمة الرأسمالية، مع نقد لفظي ومعارضة برلمانية شكلية، إلى مسؤول بحكومة يقودها الحزب  نفسه وتطبق سياسة دولة  الاستبداد وصندوق النقد الدولي مباشرة، ستشارك الن.و.ت ضمن كدش في أشغال ” اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1999 ” وتصادق كغيرها من النقابات و الأحزاب الملتفة حول الملكية على  وثيقة “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” ، الميثاق الليبرالي المؤسس لكل الهجمات الجارية إلى اليوم المنتظرة كذلك، على التعليم العمومي وعلى أهم مكاسب أجرائه منذ 1958/1985- 2003: الشغل القار والترقية.

 وبالموازاة، تصدع حزب الاتحاد الاشتراكي إثر مؤتمره السادس سنة 2002 وانتقال صراع المصالح الى قيادة مركزيته ك.د.ش وبيروقراطييها، الماسكين بتنظيمها. عموديا أفضى سياسيا الى ميلاد حزب ك.د.ش “المؤتمر الوطني الاتحادي”، وكل ما تراكم من عسف بيروقراطي تنظيميا خلال عقد التسعينيات، واستسلام برنامجي ونضالي كثفه المؤتمران القطاعي سنة 1995 والمركزي سنة 1997، والتأشيرعلى ميثاق التربية والتكوين 1999، واتفاق 2003 مع وزارة التربية الوطنية مع ما رافقه من تذمر كثير من فئات أجراء التعليم والمتعلق بموضوع الترقية، ستسير النقابة الوطنية للتعليم نحو الإضعاف وساحة النضال التعليمي نحو أكبر تشظٍّ نقابي كانت أبرز سماته كما يلي:

 -تأسيس الاتحاد الاشتراكي لمركزية نقابية جديدة “الفدرالية الديمقراطية للشغل” سنة 2002 وعمودها الفقري نقابة التعليم التي احتفظت بنفس الاسم “ن.و.ت” التي سارت على هدى الحزب في التطبيل لمخططات الدولة في القطاع، ومأسسة السلم الاجتماعي والسعي لتحطيم ك.د.ش. كما برزت تجربتان : تأسيس أساتذة الاعدادي ل”الهياة الوطنية للتعليم” سنة 2005. وعلى نفس الدرب أسس أساتذة الابتدائي “النقابة المستقلة للتعليم الابتدائي” وهما التجربتان اللتان لطمتا الحائط و عمقتا النفور واللاجدوى من التنظيم النقابي، مع تذكير بتأسيس بيروقراطيين “كدشيين” منشقين مركزية “المنظمة الديمقراطية للشغل” بعد انسحاب ممثليهم من المؤتمر الثامن لن.و.ت/كدش صيف 2006 .

 –      استئناف انسحابات، ضيقة الأفق، لمناضلين ممتعظين من غياب الديمقراطية والكفاحية، وكمثال لا الحصر، رسالة وعريضة مفتوحتين سنة 2006 من جهة مراكش-تانسيفت-الحوز في 15 يونيو ومن مدينة خنيفرة 20 يونيو…حيث غذى معظمهم محاولة بعث الروح في الجامعة الوطنية للتعليم – ا.م.ش، وانفجار النضال الفئوي إلى اليوم، عبر لجن وتنسيقيات، بدءً بالعرضيين سنة 2000 والمقصيين من الترقية الاستثنائية سنة 2003 …

  • منظورات للتجاوز

 1 – 5  سبل تفادي الإفلاس التاريخي.

   كانت الآمال معلقة على المؤتمر الثامن للنقابة الوطنية للتعليم المنعقد بالبيضاء أيام 17و18و19 يوليوز 2006 للتقدم في بناء نقابة مناهضة للهجمات المتصاعدة من قبل الدولة، لكن القيادة لم تستبدل الخط السياسي للنقابة، خط ربيبتها ن.و.ت /ف.د.ش في خدمة “حكومة التناوب” وما بعدها، ببديل ديمقراطي و كفاحي حقيقي، فقد استمرت على خط التعاون الطبقي مع الدولة والقطاع الخاص مع نقد لفظي. لم تجر القيادة لحد الآن أي نقد ذاتي بخصوص موقفها من ميثاق التربية والتكوين الذي صادقت عليه كمثيلاتها سنة 1999، كما أن إعلان الحرص، عبر الندوات (بوركون) والبيانات والبلاغات وحتى القراءة النقدية اليتيمة للمخطط الاستعجالي، على الدفاع عن مكاسب شغيلة التعليم والمدرسة العمومية، لم تجر مصاحبته بالنضال الحازم الذي يوازي حجم التعدي غير المسبوق، بقدر الحرص على استعادة التمثيلية في “اللجن الادارية المتساوية الاعضاء” والتفرغات. والاستنكاف، ضمن المركزية ك.د.ش، على الانخراط الفعلي في دينامية 20 فبراير 2011. هكذا تقدمت خصخصة القطاع بنسب عالية خلال السنوات الأخيرة، إذ وصلت عدد المؤسسات التعليمية الخاصة 2779 مؤسسة تضم 654 ألف تلميذ حسب احصائيات الوزارة لسنة 2017، دون أن ينعكس ذلك على نضالات النقابة الوطنية للتعليم، واكتفت النقابة بقراءة نقدية للمخطط الاستعجالي سنة 2009، كما تمت الاشارة اليه، متميزة بذلك عن جميع النقابات. لكن محاور اعتراض النقابة لم تمس جوهر المخطط، إذ استمر موقف القبول بخصخصة القطاع، مع شرط احترامه القواعد والقيم وأخلاقيات المبادرة الحرة القائمة على الاعتماد على الذات…[1]. كما ركزت القراءة كثيرا على نقد عدم إشراك النقابة في صياغته.

   وسيرا على منوال سابق، واصلت قيادة النقابة الوطنية للتعليم استراتيجيتها النضالية الموروثة عن التجارب السابقة المتمثلة في اضرابات موسمية متحكم فيها، بهدف تسجيل الموقف وحسب، دون التأثير أو الضغط على دولة تواصل الهجوم على جميع الجبهات، فجرى تكبيل حق الاضراب باللجوء للاقتطاع من الأجر، كما جرى التراجع عن الترقية بالشهادة، وإحالة المضربين على المجالس التأديبية، وجرى اضفاء الشرعية على العمل بالعقدة سنة 2016 بعد التأكيد عليها بكافة المخططات بدءً من “ميثاق التربية والتكوين” وصولا إلى “الرؤية الاستراتيجية”، دون أن يشكل ذلك كله حافزا لتعبئة استثنائية وخوض نضال حازم في حينه. واكتفت قيادة النقابة الوطنية للتعليم بدعم نضالات الفئات التعليمية ومعارك الأساتذة الجدد الذين فرض عليهم التعاقد، ومساندتها، وفي أحسن الاحوال الاستجابة لضغط القاعدة النقابية.. وبالتالي الدعوة لخوض بعض الاضرابات والمشاركة في مسيرات مقررة سلفا من قبل التنسيقيات لرفع الحرج.

إن مواصلة قيادة النقابة الوطنية للتعليم سياسة الإعلان اللفظي عن رفض سياسة الدولة في قطاع التعليم والاستمرار في استجداء الحوارات الفارغة والامتناع عن خوض نضال جدي وحازم موحد لكافة أصناف الشغيلة التعليمية ومدافع فعلا عن المدرسة العمومية في لحظة حسمت الدولة فيها ترددها في إنزال آخر تعدياتها لتفكيك الوظيفة العمومية، يشكل تهديدا واضحا لتجربة نقابية انتهى المشروع السياسي الذي شكل خلفية وجودها الى الهاوية، وسيجر النقابة الوطنية للتعليم- وعبرها الك.د.ش- إلى الإفلاس، ما لم يتحمل مناضلو ومناضلات الخط الديمقراطي-الكفاحي المناهض للبيروقراطية مسؤوليتهم والتسلح بسياسة نقابية بديل، تتمثل عناوينها العريضة في:

       ا – القطع مع جميع أشكال ربط نضالات الشغيلة بالاستجداءات السياسية خدمة لأجندة التوافق والشراكة.

      ب- بناء التنظيم النقابي على أسس الديمقراطية والكفاح. فالنقابة، رغم اشعاعها وتمثيليتها، فهي من الناحية التنظيمية كباقي النقابات بمثابة هرم مقلوب، حيث أضحت القيادة النقابية مصدر القرارات، وقد تأتى لها ذلك عن طريق تفويض الصلاحيات.. كما أن المجالس الوطنية “التقريرية” تحولت إلى مجالس للإنصات للقيادة. بهذا تحولت التنظيمات الجهوية والإقليمية الى أجهزة شبيهة بالمركز لا تأثير لها على مجريات الحياة النقابية.

 وتبقى مهمة إعادة بناء النقابة على أسس ديمقراطية، كفاحية ووحدوية عاملا حاسما في الرقي بأداء النقابة الوطنية للتعليم. وهذه مهمة رهينة بتطور درجات النشاط السياسي والوعي الطبقي لدى الشغيلة واقتناع المناضلين المخلصين لقضاياها بملحاحيه هذه المهمة.

         ج- قيادة النضال الحازم ضد مخطط التعاقد نقطة حاسمة.

يعد التشغيل بموجب عقود مخططا استثنائيا لاعتبارات عدة؛ أهمها أنه يهدد مستقبل “الوظيفة العمومية ” برمتها وكافة المكتسبات التاريخية لأجرائها، ومستقبل علاقات الشغل بها. فالنجاح في فرضه يعني اجتثاث أسس بنيت عليها الحركة النقابية، كونه يضفي المشروعية على الهشاشة وفرط الاستغلال. واستمرار قيادة النقابة الوطنية للتعليم – كدش، كغيرها، في التعامل مع ملف التعاقد على أنه كباقي الملفات، هو خطأ استراتيجي سيهدد النقابة الوطنية للتعليم وباقي النقابات بالعزلة القاتلة.

إن الموقف إزاء النضالات الاستثنائية الجارية بالنسبة للنقابة الوطنية للتعليم مسألة حاسمة، فإما مطابقة الأقوال بالأفعال والدعوة للنضال الكفيل بفرض تراجع الدولة عن التعاقد بقطاع التعليم، وإما الانزواء في حالة من التناقض والتردد والسلبية وبالتالي الخذلان، وتحمل مسؤولية الهزيمة التاريخية أمام أعين شغيلة الحاضر والمستقبل.

         د- صياغة ملف مطلبي موحد لشغيلة التعليم:

   إن إمكانات وشروط قيام نقابة مناضلة، ناهضة بأدوارها كمنظم جماعي للشغيلة وموحد لنضالاتها لاتزال قائمة وممكنة، على اعتبار أن الوضع المزرى الذي أصبح يعيشه موظفو التعليم أصبح غير يطاق، فإذا استثنينا النضالات الفئوية وبعض النضالات النقابية المعزولة، فالمطالب الجوهرية لشغيلة التعليم لم تكن موضوع نضال نوعي وواسع. لهذا يلزم تجميع المطالب الحقيقية من خلال جموعات عامة للشغيلة، وفي هذا الصدد يمكننا استعراض بعض المطالب التي قد تكون رافعة لنضال موحد وشامل:

  • احترام الحريات النقابية: التراجع عن كافة الاقتطاعات، التوقف عن الاستفسار أو العقاب عن خوض الاضراب، رفض أي قانون مكبل للإضراب.
  • التراجع عن مخططي التعاقد وتخريب التقاعد وإدماج الشغيلة بكل فئاتهم بالوظيفة العمومية وبالصندوق المغربي للتقاعد: المفروض عليهم التعاقد – عمال الحراسة والنظافة.
  • الرفع من الأجور وإعادة تفعيل ظهير السلم المتحرك للأسعار والأجور الذي جرى تجميده منذ 1963.
  • تخفيض ساعات العمل والتوقف عن مضاعفة الأعباء.
  • توفير شروط عمل لائق من مرافق صحية وقاعات للأنشطة وشروط الأمن والصحة والسلامة والطمأنينة.
  • الاهتمام بطب الشغل بالمدرسة العمومية والاعتراف بالأمراض المهنية والتعويض عنها.
  • احترام كرامة العاملين من خلال تفكيك أجهزة الإكراه والتهديد والحد من الشطط من استعمال السلطة والزيارات الفجائية بهدف نزع الثقة في الشغيلة.
  • اعتماد نظام ترقي عادل ومنصف يضمن الترقية الاستثنائية والترقية بالأقدمية والشهادة والمرور إلى خارج السلم للجميع.
  • التوقف عن خصخصة القطاع وإدماج كافة الأعوان والأطر.
  • تعديل النظام الأساسي بما يجعله منصفا وعادلا وموحدا، وضامنا معالجة كافة الملفات الفئوية، واضعا حدا لأسبابها، محصنا الوظيفة التعليمية بصورة تجعلها عمومية حصرا، مانعا كل متطفل من امتهانها..
  • اعتماد تدبير ديموقراطي فعلي لكل بنيات التعليم: من المؤسسة المدرسية وصعودا، عبر إعطاء مجالس المؤسسة – المعدة أساسا للتخلص من الواجبات التمويلية وتحميل الشغيلة أعباء زائدة- صلاحيات تقريرية واسعة على المستوى البيداغوجي والتدبيري مع استمرار المالية العمومية تحمل الإنفاق على المؤسسات والقطع مع منطق استدرار الصدقات عبر ما يسمى “الشراكة” مع إحداث آلية ديموقراطية فعلية لمشاركة الأسر في جوانب من التسيير والتقرير، دونما ربط لذلك بأية مساهمة مالية.

[1] أنظر القراءة النقدية للبرنامج الاستعجالي التي قدمها الأستاذ علال بن العربي الكاتب العام للنوت لأشغال المجلس الأعلى للتربية والتكوين.

زر الذهاب إلى الأعلى