المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الثامنة عشر من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية: تعليم بئيس مُوَجَّه لاقتصاد ينتج مزيدا من الفقر والبؤس

3 تعليم بئيس مُوَجَّه لاقتصاد ينتج مزيدا من الفقر والبؤس

انقياد التعليم بالمغرب خدمةً للسياسات الاقتصادية المملاة من قبل المؤسسات المالية العالمية، يجعل من المدرسة مؤسسة وظيفتها تُختزل في إعداد يد عاملة لاقتصاد تابع يخدم استبداد الرأسمال المحلي والأجنبي. فمطلب تحرر المدرسة كان ولا يزال مطلبا لكل القوى التواقة إلى بناء مجتمع ينتفي فيه الاستغلال، والتواقة لتأسيس اقتصاد يلبي حاجيات المجتمع، اقتصاد متحرر من سطوة الشركات المتعددة الجنسيات، وبديل عن اقتصاد السوق.

يروج حكام المغرب الادعاء بكون الاستراتيجيات الجارية التنفيذ من شأنها الرفع من معدلات النمو والاسهام في الإقلاع الاقتصادي، وأن على التعليم أن يلعب دوره في مواكبة كل المخططات الاقتصادية ومد سوق الشغل بالكفاءات اللازمة والمغرية للاستثمارات الأجنبية. ما يجري إخفاؤه، هو خدمة كل هذه المخططات لمصالح رأس المال – على سبيل المثال، لا الحصر، السياسات الضريبية المنتهجة، والتي تفقر ميزانية الدولة وتستلزم التقشف في النفقات العمومية – وخضوعها لسيرورة التراكم الرأسمالي عالميا، مما يجعلها حبلى بالتناقضات التي تحد من إمكاناتها للرفع من النمو الاقتصادي، بالمستوى الذي يتيح تحويل جزء مهم من القيمة المضافة لهذا النمو من أجل الرفع من المستوى التعليمي للعموم وخفض  نسب البطالة.

يستدعي الكشف عن هذه التناقضات العودة إلى السياسات الاقتصادية لمغرب ما بعد الاستقلال، والبحث بتفصيل أكثر  في أوجه سياسات التقويم الهيكلي وامتداداتها إلى حدود اليوم (سبق لنا استعراض بعض أوجه تلك السياسات في الفصل السابق من زاوية نظر تاريخية نقدية).

2 – 3 -1 السياسات الاقتصادية لمغرب ما بعد الاستقلال

كرست السياسات الاقتصادية التي انتهجها المغرب منذ الاستقلال، التبعية للدول الامبريالية والاندماج في الرأسمالية العالمية، من موقع الخادم لمصالح الرأسمال الأجنبي، والرأسمال المحلي الذي بدأ يتوسع ويتقوى منذ سبعينيات القرن الماضي عند اعتماد سياسة المغربة التي مكنته أيضا من التغلغل إلى القطاع البنكي وقطاع التأمينات.

فمنذ السنوات الأولى لما بعد الاستقلال، ظل القطاع الحديث متحكَّما به من قبل الشركات الفرنسية، وظل بنك باريس والأراضي المنخفضة يحتفظ بدوره المهيمن، كما ظلت الرساميل فرنسية بنسبة حوالي 90 في المئة[1] . بموازاة مع ذلك لم يستفد من الاستقلال سوى فئات اجتماعيــــــة تشكل الأقليــة، اتجه جزء منها إلى بعض أشكال النشاط الرأسمالي، ولاسيما في الزراعة، التجارة، العقار وفي الصناعات التحويلية[2]  بالإضافة إلى أخذ بعض الأسهم في الأعمال التي يراقبها رأس المال الأجنبي. شكلت هذه البرجوازية إلى جانب البرجوازية البيروقراطية، أوليغارشية تسير جهاز الدولة وتوسع روابطها مع رأس المال الأجنبي[3]. لقد كان الرهان على التوظيفات الأجنبية كعنصر أساس للتطور وعدم وجود نية للدولة لإزالة رأس المال الأجنبي من الفروع الحيوية التي كان يحتلها في الاقتصاد، أحد العوامل التي جعلت قطاع الدولة عاجـــزا عن جر الاقتصاد نحو تطور سريع ومستقل، حيث حُرم هذا القطاع من وسائل التطور الأساس التي كان من شأنها أن تجعله يلعب الدور الحاسم في انطلاق مجموع الاقتصاد[4].

أدى هذا التوجه الاقتصادي إلى تفاقم مديونية المغرب منذ السنوات الأولى للاستقلال وإلى خضوعه لوصاية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. نتيجة تراكم عجز الموازنة العامة، وقع المغرب سنة 1964، اتفاقية مع صندوق النقد الدولي ليمنحه قرضا بقيمة 1.3 مليون دولار مقابل اعتماده لسياسات ليبرالية مملاة من قبل البنك العالمي، والتي كانت إطارا موجها للمخطط الثلاثي لسنوات 1965- 1967 والمخطط الرباعي الثاني لسنوات 1968-1972، حيث أعطيت الأولوية للزراعة المخصصة للتصدير، وجرى تقليص الاستثمارات الموجَّهة للقطاعات الاجتماعية[5].  نما حجم الدين الخارجي بسرعة من 256 مليون دولار في عام 1963 إلى 566 مليون دولار بحلول نهاية عام 1968[6].  أدى تسديد الديون، تحويل الأجور ومداخيل رأس المال، وتفاقم العجز التجاري، ثم تهريب الرساميل، إلى نزيف في احتياطي البلد من العملة الصعبة الذي أصبح يعادل سنة 1968 شهرا واحدا فقط من الواردات، مما اضطر المغرب إلى السحب من صندوق النقد الدولي[7]. نجد من بين البلدان المقرضة للمغرب، الولايات المتحدة، فرنسا وألمانيا إلى جانب البنك العالمي[8].

لقد أظهرت هذه السياسات أن المغرب لازال خاضعا لوصاية مستعمريه وأن نظامه السياسي لن يحقق له تنمية اقتصادية واجتماعية، بل سيعمل على خدمة مصالح البرجوازية المحلية ومصالح رأس المال العالمي، بمد هذا الأخير بما يحتاجه من منافذ للسلع ومده بالموارد الطبيعية الضرورية للإنتاج وأيضا بيد عاملة غير مُكلِفة. لقد ظلت المديونية، والتبادل غير المتكافئ، وتحويل الأرباح وتهريب الأموال، أهم قنوات ترحيل القيمة المُنْتَجة من قبل كادحي البلد إلى الخارج.

 خلال المرحلة الممتدة من سنة 1964 إلى 1972، اتُبعت سياسة تقشف، ساهمت في تخفيض عجز الموازنة العامة من 9 في المئة من الناتج الداخلي الخام سنة 1964 إلى 2.8 في المئة سنة 1971، ثم إلى 1.9 في المئة سنة 1973. في هذه المرحلة ازدادت حدة التفاوتات الاجتماعية وانخفضت بصورة كبيرة النفقات العمومية، مما زاد من تفاقم أزمة عدة قطاعات اجتماعية. فمثلا، بين سنتي 1960 و1971، انتقلت حصة نفقات الاستهلاك للعشرة في المئة من الأسر الأكثر غنى من 25 في المئة إلى 37 في المئة، وانخفضت عند 10 في المئة من الأسر الأكثر فقرا من 3.3 في المئة إلى 1.2 في المئة[9]. كما أن نسبة التمدرس انخفضت بنسبة 25 في المئة في العالم القروي بين سنتي 1964و1971[10].

أواخر الستينيات، بدأت موجة التوسع الرأسمالي لما بعد الحرب العالمية الثانية تدخل طور انحصار، مما دفع بالدول الإمبريالية إلى تقديم قروض لبلدان الجنوب من أجل دفعها إلى استهلاك بضائعها ومدها بالمواد الأولية والمنتجات الزراعية التي تلزمها. من جهتها، جعلت البنوك الخاصة من هذه البلدان منفذا لودائعها من البترودولارات التي أُقرِضت اياها بمعدلات فائدة متغيرة وجد منخفضة. موجة الاستدانة المفرطة في هذه الحقبة كانت بتوجيه من البنك العالمي الذي قام أيضا بإقراض دول بلدان الجنوب لإنجاز مشاريع ضخمة، بداعي تهيئة البنى التحتية الضرورية للرفع من الصادرات الكفيلة بضخ العملة الصعبة التي ستمكن من تسديد الديون. وجدت أنظمة بلدان الجنوب في سياسة البنك العالمي فرصة لتنمية ثروات البرجوازية المحلية ووسيلة لتمويل أدوات سيطرتها على الحكم، راهنة بلدانها بتبعية مطلقة للدوائر الإمبريالية. عند بداية انحصار الرأسمالية العالمية، أُقرِض فائض النقد المتراكم في الودائع الأجنبية لبلدان الجنوب بمعدلات فائدة جد منخفضة، مما سيفتح المجال إلى الرفع من معدلات نمو اقتصاداتها لسنوات قليلة، قبل أن تنفجر الفقاعة عند اشتداد أزمة الرأسمالية، والتي أدت إلى انهيار أسعار المواد الأولية في السوق الدولية وإلى ارتفاع معدلات الفائدة سنة 1979.

ارتفع حجم الدين العمومي الخارجي في المغرب بنسبة 220 في المئة بين سنتي 1968 و1975، حيث انتقل إلى 1800 مليون دولار سنة 1975 (20 في المئة من الناتج الداخلي الخام) ثم إلى 12337 مليون دولار سنة 1982 أي ما يمثل 80 في المئة من الناتج الداخلي الخام[11]. تغيرت خلال هذه الفترة بنية الدين العمومي الخارجي لترتفع نسبة الدين الخاص من 6 في المئة سنة 1973 إلى 38 في المئة سنة 1983[12].


[1] D.NOIN, « L’évolution économique du Maroc », L’Information Géographique ,  Année 1959, pp. 139-143

[2] Abdelkader BERRADA et Mohamed SAID SAADI, « LE GRAND CAPITAL PRIVE MAROCAIN », LE MAROC ACTUEL, Editions du CNRS, Paris, 1992. 

[3]عبد العزيز بلال، الأزمة التركيبية للاقتصاد المغربي ومقتضيات تطور اقتصادي سريع،

[4] نفس المصدر

[5] H. EL MALKI, « Trente ans d’économie marocaine, 1960-1990 », éditions du CNRS, 1989.

[6] Abdel Aziz BELAL et Abdeljalil AGOURRAM, « L’économie marocaine depuis l’indépendance », Avril-Mai 1970

[7] نفس المصدر

[8] نفس المصدر

[9] H. EL MALKI, « Trente ans d’économie marocaine, 1960-1990 », éditions du CNRS, 1989.

[10] A. LAMRINI, « 50 ANS DE DÉVELOPPEMENT HUMAIN & PERSPECTIVES 2025 : Systèmes Educatifs, Savoir, Technologies et Innovation », rapport thématique,2005.

[11] M. BOUSSETTA, « La dette publique au Maroc : évolution, contraintes et perspectives », Critique économique n° 2, 2000      

[12] نفس المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى