المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة السادسة عشر من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية: تحكم السياسات الاقتصادية المملاة من قبل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي في أولويات التعليم بالمغرب

  1. تحكم السياسات الاقتصادية المملاة من قبل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي في أولويات التعليم بالمغرب

تُحدد السياسات الاقتصادية الليبرالية بنية النمو الاقتصادي ومستواه، الذي يحدد بدوره ديناميكية التشغيل وخصائصه. لتفعيل هذه السياسات، توضع الإطارات التشريعية المحفزة لها، وتجري مواكبة هذه الأخيرة باستراتيجية لتأهيل ما يلزم من أطر وعمال، حيث يجب إغراق سوق الشغل بالمؤهَّلين، حتى تصبح كلفة تشغيلهم أدنى ما يمكن. من هنا تأتي ضرورة تكييف النظام التعليمي، بشقيه العام والمهني، مع متطلبات النمو.

في البلدان النامية، تُملى السياسات الاقتصادية الهادفة إلى الرفع من أرباح رأس المال والحفاظ على سيرورة تراكمه من قبل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحكام البلدان الرأسمالية الكبرى التي تنهب شركاتها ثروات البلدان النامية. ضمن هذا الإطار، تحدد المؤسستان الماليتان استراتيجيات التربية والتكوين المفروض تطبيقها، خدمة لنموذج اقتصادي واجتماعي موجَّه لتسديد القروض ورفع كل العراقيل التي من شأنها أن تقف حاجزا أمام الاستثمارات الأجنبية، وموجَّه كذلك لتحرير الأسواق وفتحها أمام البضائع والسلع.

استراتيجية البنك الدولي للإجهاز على التعليم العمومي 

في دراسة تحت عنوان “أولويات التعليم واستراتيجياته ” صدرت سنة 1995، كان البنك العالمي واضحا منذ الصفحات الأولى للدراسة حيال أولويات التعليم التي تحَتٍّمها الضرورات الاقتصادية: “يؤدي حاليا تطور التقنيات والإصلاحات الاقتصادية إلى قلب لبنية الاقتصادات والصناعات وأسواق الشغل، تقريبا في جميع أنحاء العالم. يساهم التزايد السريع للمعارف ووتيرة تطور التقنيات في إمكانية خلق نمو اقتصادي مطرد، مع تغييرات متكررة لمناصب الشغل خلال الحياة النشيطة. هذه التطورات خَلقت أولويتين أساسيتين للتعليم: الاستجابة للطلب المتنامي على عمال لهم القدرة على التحول سريعا، ثم دعم توسع المعرفة يركز التعليم الأساسي على الكفايات العامة مثل اللغة والعلوم والرياضيات، وكذلك التواصل، ويشمل أيضا اكتساب الاستعدادات الذهنية اللازمة لممارسة شغل ما. تختص المستويات العليا من النظام التعليمي بنقل المعارف النظرية والمهنية.  يجري تحيين الكفايات عبر التكوين الميداني والتكوين المستمر المرتبط بالشغل”[1]. تحقيقا للأهداف الاقتصادية الليبرالية، وتنفيذا لاستراتيجيات البنك العالمي الرامية إلى إخضاع المنظومات التربوية بالبلدان النامية، يمنح البنك قروضا لهذه البلدان لتمويل المشاريع الرامية إلى تغيير البنيات والمناهج ونظام الحكامة.

يؤكد البنك على ضرورة توجيه الموارد العمومية المخصصة للتعليم في البلدان التابعة، البعيدة عما يسمى ” الحد التكنولوجي”، نحو التعليم الابتدائي والإعدادي (إلزامية التعليم إلى حدود 15 سنة). حسب بحوث خبراء البنك، الاستثمار العمومي في هذا المستوى التعليمي سيكون له انعكاس إيجابي على إنتاجية اليد العاملة. إضافة إلى ذلك، هذا التعليم له انعكاسات ايجابية لا تخص الفرد المتعلم بصورة مباشرة، بل يستفيد منها المجتمع، كالحفاظ على النظام العام الذي يلزمه حد أدنى من القراءة والكتابة والحساب وحد أدنى من القيم المشتركة.

أما عن التعليم الثانوي والجامعي، فمردوديته الخاصة – أي ما سيجنيه الفرد مستقبلا عند ولوجه سوق الشغل- أعلى من مردوديته الاجتماعية، لذلك يجب على الفرد أن يتحمل تكاليف هذا المستوى التعليمي. وبهدف تحقيق “الإنصاف”، يجب ألا تستمر الدولة في تمويل ما سيستفيد منه الأغنياء على حساب الفقراء. فتحمل الدولة، مثلا، لنفقات التعليم الجامعي سيستفيد منه أبناء الأغنياء الذين لهم القدرة على متابعة الدراسة دون الالتحاق سريعا بسوق الشغل. زد على ذلك، لا فائدة من إنفاق أموال طائلة لتكوين أطر رفيعة المستوى بأعداد وفيرة، فتركيبة اقتصاد الدول التابعة وتطورها التكنولوجي لا يسمحان بالاستفادة من التكوين الذي استفادوا منه. أسفر التقاطب المتنامي لسوق الشغل[2] عن تضخم في الدبلومات العليا التي لا تناسب مناصب الشغل المتوفرة والتي لا يلزمها سوى الحد الأدنى من التكوين. حسب مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط[3]، فــ “أصحاب الديبلومات العليا لا يبدو أنهم ملحاحون، حيث إن 38.6 ٪ منهم على استعداد لقبول راتب أقل من 2600 درهم شهريا”. لذلك يجب تشديد سياسة الانتقاء والتفييء داخل منظومة التعليم. يدخل في هذا الإطار خلق مؤسسات أو أقسام “التميز” للقلة التي استطاعت أن تثبت جدارتها في التكيف مع البيداغوجيات المعتمدة، واستئثار نسبة ضئيلة منها بتكوين يُمَكن من دمجها في مواقع متقدمة من المجتمع الرأسمالي مقابل تجميع الغالبية “الفاشلة” من مدرسين وتلاميذ في مؤسسات بئيسة تعمل على توجيه المتعلمين في وقت جد مبكر إلى تكوين مهني قصير الأمد. من هذا المنطلق، يجب أن تقتصر الدولة في المغرب على دعم التعليم الإلزامي مع إخضاعه لتدبير يرتكز على التعاقد، وتبني تمويل مرتبط بالأداء والنتائج، مما يساير اعتماد سياسة مالية للدولة تخفف من العبء الضريبي على الشركات والأرباح.

 يصاحب انسحاب الدولة من الإنفاق على التعليم بجميع أسلاكه، من جهة، تفكيك للمنظومة ككل والدفع بوحداتها وبكل مكوناتها إلى التنافس من أجل البقاء على قيد الحياة، ومن جهة اخرى، تحفيز الخواص للاستثمار في التعليم، وتنويع الشراكات بين القطاعين؛ العام والخاص. وثانيا، يجب أن يتجه المغرب إلى دمج أكبر بين التعليم العام والتكوين المهني، وهذا ما تعكسه خطة تأهيل عرض التكوين المهني وتنويع المهن التي جرى عرضها خلال شهر أبريل من هذه السنة، وتثمينها، ويعكسه كذلك تقرير المجلس الأعلى للتعليم حول التكوين المهني، الذي صدر شهر مارس من سنة 2019[4]. يوصي التقرير الأخير بإدماج كامل للتكوين المهني في منظومة التعليم. ففي المرحلة الابتدائية، يجب دمج الأبعاد التطبيقية بالتعلمات، وتقديم مبادئ أولية للأنشطة والأعمال اليدوية وتحسيس التلاميذ بمختلف الميادين المرتبطة بهذه الأعمال. أما في مرحلة الإعدادي، فيلزم التأليف بين تعليم نظري وآخر تطبيقي وميداني بهدف إعطاء المتعلمين منطلقات مهنية أولية، مع تشجيع التلاميذ على الاتجاه نحو التكوينات المهنية. في مرحلة أخرى، يوصي التقرير بالرفع من عدد الشعب الخاصة بالباكالوريا المهنية وبسلك التعليم بالتناوب بين الثانوية والمقاولة. أما التعليم الجامعي فسيتجه أكثر نحو منح ديبلومات الإجازات المهنية، الماسترات المتخصصة وديبلومات تقني متخصص[5].

من بين مرامي المدرسة الإعدادية كما جاء في ميثاق التربية والتكوين والتي تضمنتها المادة 68: اكتساب الكفايات التقنية والمهنية والرياضية والفنية الأساسية، المرتبطة بالأنشطة الاجتماعية والاقتصادية الملائمة للمحيط المحلي والجهوي للمدرسة؛إنضاج الوعي بالملكات الذاتية والتهيئ لاختيار التوجيه، وتصور وتكييف المشاريع الشخصية سواء قصد الاستمرار في الدراسة أو الالتحاق بالحياة المهنية؛التخصص المهني، قدر الإمكان، خصوصا في مجالات الفلاحة والصناعة التقليدية والبناء ومختلف قطاعات الخدمات، بواسطة التمرس الميداني أو التكوين بالتناوب بين الإعدادية والوسط المهني، في أواخر هذا السلك. أما المادة 69 فمضمونها: يتوج إتمام التعليم الإعدادي بدبلوم التعليم الإعدادي ينص فيه، عند الاقتضاء، على ميدان التمرس وعلى التخصص التقني والمهني الذي حصله المتعلم.  

[1] « Priorités et stratégies pour l’éducation ». Étude de la banque mondiale, publiée dans le cadre de la série « Le développement à l’œuvre ». 1995

[2] التقاطب الحاد، من جهة، بين مناصب شغل تحتاج إلى تكوين مهني سريع وحد أدنى من المعارف، ومن جهة أخرى، مهن توفر مناصب شغل يلزمها تكوين من مستوى عال كالمهندسين الماليين ومصممي برامج الحاسوب والروبوتات أو مسيري ومدراء الشركات

[3]HCP, Note d’information, « Le marché du travail au Maroc : défis et opportunités », Novembre 2017.

[4]Conseil supérieur de l’éducation, de la formation et de la recherche scientifique, «La formation professionnelle initiale : Clés pour la refondation ». Rapport N° 4/2019. Mars 2019.

[5] يكثف نظام الباكلوريوس الذي سيجري العمل به انطلاقا من الموسم الجامعي المقبل (2020 – 2021) المنظورات الليبرالية التي جرى التطرق لها في هذا الفصل. سيفتح الجامعة للاستثمار ومقاولة لإنتاج تعليم على مقاس حاجيات الرأسمال.

زر الذهاب إلى الأعلى