المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الحادية عشرة من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب: مأسسة الرؤية الليبرالية للتعليم

الحلقة الحادية عشرة

السعي لمأسسة الرؤية الليبرالية للتعليم: دستور 2011 والرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار

  • دستور 2011: نحو التأسيس الدستوري لانسحاب الدولة من تمويل التعليم

الإطار رقم 5

المقتضيات الدستورية الأساسية ذات الصلة بالتعليم

استطاع واضعو دستور 2011 التقاط اللحظة التي أتتهم من أجل وضع مواد دستورية تمتح من التصور النيوليبرالي لوظيفة الدولة. فلم يعد التعليم حقا مطلقا، بل أضحى التعليم الأساسي فقط هو الحق، ولم تعد مسؤولية تلبية ذلك الحق على الدولة، بل على الأسرة ابتداء، ولم تعد للدولة من مسؤولية إلا تيسير أسباب الاستفادة من الخدمات التعليمية والتكوينية، على قدم المساواة مع الجماعات الترابية (المجالس الجهوية والإقليمية والمحلية) والمؤسسات العمومية (مثال على ذلك الأكاديميات الجهوية). لقد كان النص الدستوري دقيقا -الفصل 31 – في التشريع لإلقاء مسؤولية تلبية عدد من الحاجيات الأساس (صحة وتعليم وتشغيل وترفيه وماء وبيئة وتنمية مستدامة) بعيدا عنها، وحصر دورها في العمل “على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين” من تلك الحاجيات، وحتى حديث الدستور عن حق التعليم (الأساسي فقط) جاء في فصل يتحدث عن الأسرة، في إشارة إلى أن أمر تلبية هذا الحق هو أساسا على عاتق الأسرة.

لم يغير دخول الدستور الجديد لحيز التطبيق من طبيعة رؤية الحاكمين لقضايا التربية والتعليم، بل شكل سندا ذا طبيعة سامية للرؤى الليبرالية المطبقة ومُؤسسا لدستورية منظوراتها : ماليا من خلال دسترة مبدأ “عدم المساس بتوازن مالية الدولة” في الفصل 77، واقتصاديا من خلال جعل الخصخصة آلية لعمل القانون محصنة بالدستور بموجب المادة 71،  وتدبيريا من خلال اعتبار مبدأ الحكامة الجيدة مبدأ دستوريا (الباب الثاني عشر)، هذا المبدأ الذي يمثل رمز معاداة الليبرالية الجديدة لكل دور أساس للدولة في الاقتصاد وفي الخدمة العمومية والمعلي من شأن “التدبير” المستند على طريق وحيد عنوانه الفعالية التقنوية في مواجهة “السياسة” كمجال لتمثيل مصالح الطبقات وبالتالي كفضاء لعرض وصراع رؤى وطرق متعارضة، وتفعيلا له يجري إحداث هيئات سميت هيئات الحكامة الجيدة (الفصل 159) وفي سياقها هيئات “النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة ” وعلى رأسها : المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (الفصل 168)، الذي جاء امتدادا لسلفه، لكن وفق رؤية لبرالية واضحة معززة بالدستور.

  1. الرؤية الاستراتيجية: رؤية فوق لبرالية للقطاع

ضمن سياق ما بعد تبني دستور 2011 وفقدان الحركة الاجتماعية/السياسية الشعبية لنفَسها وصعود إسلاميي العدالة والتنمية المستعدين لخدمة الطبقات السائدة وفق الرؤية النيوليبرالية للاقتصاد المتساوقة مع رؤية الحكام الفعليين والمؤسسات المالية الدولية والدائنين، وأمام وضوح تواضع أثر السياسات المتبعة منذ تبني الميثاق الوطني للتربية والتكوين، سواء على المستوى النوعي، المتميز بتدنٌّ حاد في مستوى التعلمات، عبرت عنه كثير من التقارير والدراسات التقويمية، أو على المستوى الكمي من خلال تفاهة نسب استكمال “جيل الميثاق” لمساره الدراسي :

الجدول رقم 18

توزيع التلاميذ حسب الكفايات الاربعة سنة 2011 حسب دراسة TIMSS

الجدول رقم 19[1]

  وفي سياق خطاب مؤسساتي من أعلى مستوى يعترف بفشل الوصول إلى المتوخى[2]، ويتطلع إلى استمرارية مبنية على فشل الإجراءات المتبعة من أجل اجتراح أخرى، لا تقطع مع السابقة، بل تتوغل في ذات الطريق، وفق الشعار التالي : فشلت السياسات الليبرالية لكوننا لم نحسن تطبيقها، فلنبحث عن سبل تحسين تطبيقها بتعميق إجراءاتها. فالقضية وفق الحاكمين ليست قضية حكم (برامج سياسية) بل قضية حكامة (تدبير). ضمن هذا السياق جاء تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول تنفيذ مضامين الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومعه البرنامج الاستعجالي[3]. اشتغل التقرير وفق منهجيات “مستلهمة من الأعمال والمنشورات الدولية المعترف بها في مجال تقييم التربية والتكوين مستقاة من كبريات المؤسسات الاقتصادية العالمية كمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE” [4]، ووقف بشكل مفصل وشبه دقيق على مكامن الفروق ما بين ما نص عليه الميثاق وبين واقع الانجاز الفعلي، وقدم معطيات إحصائية غزيرة حول حال “منظومة التربية والتكوين” ابتداء من التمويل و”الحكامة” وصولا إلى “العرض التربوي” و”أداء النظام التعليمي” وانتهاء بتحديد “المكتسبات والنقائص وتحديات المستقبل”، مستخلصا دروسا عديدة ومقدما توصيات من ذهب لكل من يريد السير وفق ذات النهج الإصلاحي على الطريقة النيولبرالية.

كان التقرير، المرتكز على الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والجاري وفق آليات حددها ذات الميثاق في المادة 157[5]، ممهدا للشروع في سياسة جديدة/قديمة تستهدف الوصول إلى المدرسة النيولبرالية قبل أن تصبح سرابا. وهو ما شرع في العمل عليه داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وبموازاته أصدرت وزارة التربية الوطنية برنامج عمل أسمته “التدابير ذات الأولوية” ليشكل جسرا واصلا بين محطة البرنامج الاستعجالي ورؤية الدولة لقضايا استمرار “إصلاح التعليم”.

كانت تلك التدابير تتمحور حول تيمة أساسية تتمثل في كيفية جعل المدرسة المغربية مشتلا للأيدي العاملة، من خلال إفراد التكوين المهني بموقع أساس ومحوري فيها وكذا استدماج مكون “ثقافة المقاولة” كمكون أساس وغاية كبرى من غايات التعليم بالمغرب، حتى أن تلك الثقافة وجب أن يجري استنباتها في تلاميذ المغرب منذ المرحلة الابتدائية. أفصحت التدابير ذات الأولوية عن وجهة الحاكمين لربط المدرسة بالمقاولة والسوق بوضوح أكبر، وتوجت مسيرة طويلة على طريق فصل المدرسة عن ممكناتها التحررية ودمجها في السياق الوحيد الذي تراه المنظورات الليبرالية: مدرسة المقاولة.

هكذا جاءت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030، واعتبر واضعوها بأن جوهرها يكمن في إرساء مدرسة جديدة قوامها:

  • الإنصاف وتكافؤ الفرص
  • الجودة للجميع
  • الارتقاء بالفرد والمجتمع[6]

وتوخت حل إشكالية استعصاء الإصلاح (الليبرالي) للمدرسة المغربية، معتبرة أن ذلك “يتطلب انخراطا جماعيا حاسما من أجل إقامة قطيعة مع الفجوة القائمة بين التنظير والتفعيل، مع ابتكار حلول ناجعة وعملية لتحقيق التغيير المنشود داخل مؤسسات التربية والتكوين”[7]. ليس المشكل إذن في التصور بل في التطبيق، ليست المشكلة في السياسة بل في الحكامة. وبناء على ذلك استعادت الرؤية الاستراتيجية دون تجديد كبير كل ما نص عليه الميثاق، لكن مع تدقيقات اقتضاها “نضج الرؤية” بعد عقد ونيف من التجريب، بما فيه نضج تمثل المفاهيم المؤطرة للإصلاح الجديد والتي كثفها شعار الرؤية الاستراتيجية: من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، وهو ما يستدعي وقوفا نقديا سريعا على المفاهيم النظرية الأساس التي تستند عليها رؤية الدولة لقضايا التعليم، مفهوم الرأسمال البشري، ومفهوم فرعي حول الإنصاف، وكلاهما يجران وراءهما مفهومي تكافؤ الفرص والارتقاء.


[1]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي- الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي/ تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013: المكتسبات والمعيقات والتحديات، صفحة 88.

https://www.csefrs.ma/wp-content/uploads/2017/10/R_analytique_ar.pdf

[2]  خطاب الملك محمد السادس بتاريخ 20 غشت 2013

[3]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي- الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي/ تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013: المكتسبات والمعيقات والتحديات.

https://www.csefrs.ma/wp-content/uploads/2017/10/R_analytique_ar.pdf

[4]  نفس المرجع صفحة 175

[5]  الميثاق الوطني للتربية والتكوين المادة 157 ” يخضع نظام التربية والتكوين برمته للتقويم المنتظم من حيث مردوديته الداخلية والخارجية، التربوية والإدارية “

[6]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، “من اجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015 – 2030 ” صفحة 9

[7]  نفسه، صفحة 6

زر الذهاب إلى الأعلى