مقدمة
تندرج هذه الدراسة لجمعية أطاك المغرب، عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية، وبتعاون مع مجموعة من المناضلين النقابيين بقطاع الصيد البحري، في إطار جهودها للإلمام بقضايا السيادة الغذائية المرتبطة بالموارد السمكية. لقد سبق لجمعية أطاك المغرب أن أصدرت في يوليوز من العام 2019 دراسة حول السيادة الغذائية بالمغرب في مجال الإنتاج الفلاحي ، وهي تستكمل اليوم هذا الجهد، كما وعدت بذلك، بتناول شق السيادة الغذائية المرتبطة بالموارد السمكية للصيد البحري.
لقد بات من الثابت أن المغرب بلد غير مُكتف غذائيا بالنسبة للمواد الغذائية التي يتركز عليها النظام الغذائي لسكانه، فهو يستورد معظم حاجياته من الحبوب؛ كالشعير والذرة والقمح الطري والقمح الصلب. تساهم قيمة هذه الواردات في مفاقمة عجز الميزان التجاري الغذائي. أما صادراته الفلاحية، المشكلة أساسا من الحوامض والطماطم، فلا تساهم في تغطية الواردات الفلاحية إلا بحصة تقل عن 50%. ويعبر ذلك عن تبعية غذائية محتدة. ترافق احتداد هذه التبعية مع توسع الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة في الزراعات التصديرية المتركزة في المحاور السقوية الكبرى بحفز من السياسة الفلاحية التي ركزت، لاسيما منذ الثمانينات، على تسريع وثيرة الصادرات الفلاحية. وفي مقابل تقديم مختلف الحوافز المغرية لمصدري منتجات الزراعة الكثيفة التصديرية(حوامض وطماطم)، استهدفت السياسات النيوليبرالية تهميش زراعات الحبوب والقطاني المشكلة للحصة الأكبر من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة. وفي ظل سوق مفتوحة أمام المنافسة الحرة، أرهق الفلاحون الصغار بسيطرة المنتجات الزراعية للرأسمال الكبير(المحلي أو الأجنبي) ذات الإنتاجية العالية والمدعمة بمختلف الحوافز.
وإذا كانت التبعية الغذائية تفسر، بالنسبة للقطاع الفلاحي، بعدم كفاية كمية الأغذية المنتجة لتلبية الحاجيات الغذائية الداخلية للسكان، فإن الأمر مختلف جذريا بقطاع الصيد البحري الذي يعد المصدر الثاني للغذاء. فلا ندرة، ولا قلة للأغذية السمكية، بل بالعكس، كمية هائلة وفائضة من الأسماك تجنى كمحصول سنوي يفوق الاحتياجات الغذائية للسكان بأضعاف. ورغم ذلك، يسود، ويا للمفارقة، عوز غذائي يحصد ضحايا كثر ضمن قسم واسع من السكان.
فعوض أن يظل السمك موردا غذائيا طبيعيا يشترك الصيادون والبحارة والمستهلكون المحليون في حقوق صيده واستهلاكه، تحول إلى سلعة متداولة أكثر في التجارة الخارجية، بحيث لا نجد أي مورد غذائي محلي يصدر بمثل هذه الكثافة. ولعل هذا نتيجة مباشرة وحتمية لسياسة الصيد البحري التي وجهت الصيد ببلادنا نحو التصدير الكثيف للأسماك. واليوم هناك حاجة ملحة لوضع حصيلة إجمالية لهذه السياسة من منظور السيادة الغذائية، والحفاظ على البيئة البحرية، والتوزيع العادل لمداخيل الموارد السمكية. ومن أجل ذلك؛ سنركز بحثنا الميداني وتحليلنا لسياسة الصيد البحري، على التصدير المكثف للموارد السمكية، باعتباره الغاية النهائية لهذه السياسة، كما جرى تطبيقها خلال العقود الأخيرة، لاسيما منذ بداية السبعينات.
وسنتناول بالنقد والتحليل، الانعكاسات الاجتماعية والبيئية لسياسة التصدير المكثف للغذاء السمكي، وفي المقدمة: المسألة الغذائية، والصيد المفرط المستنزف للموارد الطبيعية البحرية. ولذلك، سنسعى لتوضيح كيفية تدمير سياسة التصدير المكثف للأسماك لركائز السيادة الغذائية، بعد أن نحدد غاياتها الأساسية ولصالح من وضعت. وقبل عرض عواقب الصيد المفرط، ومساهمته في احتداد الأزمة البيئية البحرية، هناك حاجة ملحة لتحديد كمية تقريبية للمحاصيل السنوية للأسماك المصطادة. فالإحصائيات الرسمية مُخادعة، وخادمة للمصالح الاقتصادية للمصدرين. فبدون إحصائيات صحيحة، أو قريبة إلى الدقة، يستحيل الجواب عن أسئلة بسيطة، من قبيل: ما هي الكمية الفعلية المصدرة من الأسماك سنويا؟ وما الكمية الموجهة للاستهلاك الداخلي؟ وما توزيع حصص الصيد، ومداخيل الثروة بين أساطيل الصيد الثلاثة؟ هذا إلى جانب أسئلة أخرى أكثر أهمية، سيتيح تقديم أجوبة واضحة عنها، وضع حصيلة إجمالية لهذه السياسة. وسنحاول تقديم ما يكفي من البراهين؛ لإثبات أن سياسة الصيد البحري الحالية عقبة رئيسية في وجه تملك أغلبية الشعب المغربي لثرواته البحرية، وفي سياق ذلك سنبين كيفية استخدام تلك السياسة من قبل الأقلية الحاكمة كأداة لتوزيع غير عادل للمداخيل. وقد بتنا اليوم نتجرع عواقبها المباشرة الكارثية على أحوال البحارة، وأحوال أنظمتنا البيئية البحرية، ونلمس إسهامها في لاعدالة غذائية على مستوى استهلاك السمك؛ حيث يظهر النقص الغذائي، في ظل الوفرة السمكية. ولذلك، هناك ضرورة اليوم لطرح بديل شعبي جذري يُقوّضُ نظام سلب وهدر الغذاء السمكي، الذي تجسده سياسة التصدير المكثف للسمك. وسنسعى، من أجل هذه الغاية، لطرح عناصر أولية للنقاش؛ نقاش المحاور الأساسية لمشروع السيادة الغذائية السمكية، الذي ليس إلا مكونا أساسيا من مشروع السيادة الغذائية الإجمالية، الذي يشترط أولا القطع مع سياسة تصدير الموارد الغذائية الفلاحية والبحرية.
إن التحليل النقدي لسياسة الصيد البحري المنتهجة، والاستنتاجات الرئيسة المتوصل إليها، والمقترحات المقدمة للقراء حول محاور صيد بحري بيئي بديل متوافق مع تملك الغذاء السمكي ومع غايات إرساء عدالة غذائية، هي نتيجة لمنهجية البحث المتبعة لإنجاز هذه الدراسة. فقد حرصنا أن تنصب جهودنا الدراسية على الحصيلة الفعلية الإجمالية لسياسة التصدير المكثف للإسماك. وفي سبيل ذلك، كان لا بد من اتباع مقاربة تزاوج بين التحري الميداني، والقراءة التحليلية للحصيلة الفعلية لسياسة الصيد البحري، انطلاقا من المعطيات الرسمية. وقد أولينا أهمية خاصة لإنجاز دراسة ميدانية حول أوضاع بحارة الصيد البحري. فمن خلال الاستجوابات داخل الموانئ حول أحوال البحارة؛ كظروف الإبحار، والمداخيل، والمحاصيل، وأنواع السمك المصطاد، والتسويق وغيرها؛ نستطيع رسم صورة أولية حول مجمل التحولات التي شهدها الصيد البحري على امتداد العقود الأخيرة. وجاء ضمن استنتاجاتنا الرئيسة سيطرة الصناعة التصديرية للسمك على محاصيل الصيد الساحلي، لاسيما صنف السردين. فهي لا تكتفي بفرض أسعار جد متدنية على إمدادات المادة الأولية، وإنما تقف وراء استنزاف مخزونات العديد من الأنواع السمكية. وفي سياق تركيزنا على سرد التحولات في مداخيل البحارة، ركزنا على تدقيق متوسط أجور البحارة في الوقت الراهن، وأجرينا مقابلات، بهذا الصدد، مع عدد من بحارة الصيد الساحلي؛ صنف السردين. وبجانب هذا التقرير حول الأجور، أنجزنا تقريرا إجماليا آخر حول النشاط النقابي للبحارة؛ حيث نستعرض مظاهر استغلالهم، وتجارب تنظيماتهم النقابية؛ للدفاع عن أنفسهم اتجاه أرباب البواخر والمصانع التصديرية للسمك على امتداد عقود.
أما الشق الثاني الرئيس لهذا البحث، فقد خصصناه لنقد سياسة الصيد البحري، التي ترمي لحفز التصدير الكثيف للموارد السمكية. وسنوضح هنا أن هذه السياسة تخدم المصالح الاجتماعية للمصدرين، وغايتها منذ عقود إرساء نظام لسلب وإهدار الأغذية السمكية؛ متسببة في مفاقمة توزيع غير عادل للثروات البحرية. وفي ظل الفيض الهائل من الغذاء السمكي المصدر، هناك العوز الغذائي الأشد وقعا في أوساط شرائح واسعة من السكان، وبالتالي ضرورة إيجاد سياسة بيئية وغذائية واجتماعية بديلة، لوقف هذا المنطق العبثي الذي يقود سياسة الصيد البحري منذ مُدّة، وذلك بطرح مطالب رئيسة؛ لتملك الغذاء السمكي وتوفير الشروط الأولية لعدالة غذائية سمكية، وسياسة بيئية للصيد البحري موجهة لخدمة الاستهلاك المباشر للسكان، وليس المصالح الأنانية الضيقة للصناعات السمكية.
وإذا كان الصيد المفرط والمستنزف للمخزونات السمكية، هو أحد الأوجه الملازمة لسياسة التصدير المكثف، فإن مساهمته في الأزمة البيئية البحرية ثابتة. لكن، بجانب عامل الصيد المفرط، نجد عاملين آخرين يفاقمان الإضرار بالبيئة والمخزونات البحرية: فهناك عامل عواقب الاحترار المناخي الذي يؤدي إلى ارتفاع حرارة البحار والمحيطات، ويضغط على التوازنات الفيزيائية والكيميائية للأنظمة البيئية البحرية، التي ترتهن بها حياة الكائنات البحرية. وهناك أيضا عامل رمي النفايات السائلة للنشاط الزراعي الكثيف، والمعامل الصناعية في المياه البحرية. هكذا، يُسهِمُ هذا التلويث في تدمير المنظومات البيئية للسواحل المغربية. إن هذه العوامل الثلاثة مجتمعة مسؤولة عن الأزمة البيئية البحرية التي نلمس عواقبها في تهديد المخزونات السمكية، و التنوع الإحيائي البحري بمجمله. وقد رأينا كيف أفضى استنزاف المصايد إلى انهيار مخزونات الرخويات، وهو الآن بصدد تهديد مخزونات الأسماك السطحية الصغيرة نفسها، التي شكلت دوما الحصة الأكبر ضمن المحاصيل المصطادة. ونعرض، في ختام هذا الفصل، تقريرا شاملا عن الاستثمارات الكبيرة المتخصصة في صيد التونة الحمراء بالمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط.
وكي يبرر برنامج أليوتيس رفع وثيرة سياسة نهب وسلب الغذاء السمكي، والإضرار بالبيئة البحرية، تبنى استراتيجية لتنمية تربية الأحياء البحرية. إن هذه الاستراتيجية، في نظرنا، تشكل تهديدا إضافيا مباشرا للبيئة البحرية بالسواحل المغربية. وسيجد القراء تحليلا شاملا يستعرض وجهة نظرنا، ويطرح حججا كافية للبرهنة على صحة طرحنا المُدعّم بتجارب بلدان أخرى، وبالعديد من الدراسات العلمية.
ونختم هذه الدراسة بتناول اتفاقيات الصيد البحري، التي يبرمها المغرب مع القوى الإمبريالية. وسنكتفي هنا، بالتركيز على تلك المبرمة مع الاتحاد الأوربي نموذجا لنظام الهيمنة المفروض على بلدنا، ضمن المنظور الاستعماري القديم نفسه؛ حيث تسخر ثرواتنا الطبيعية لخدمة المركز الرأسمالي المسيطر، إذ تقدر المحاصيل السنوية التي يصطادها أسطول الاتحاد الأوربي كل سنة بمئات الآلاف من الأطنان. وبذلك تشكل هذه الاتفاقيات جزءا من نظام سلب وهدر الغذاء السمكي الذي حللناه وعرضنا عواقبه في هذه الدراسة. وإذن، فلا سيادة غذائية ولا عدالة ولا حفاظ على أنظمتنا البحرية دون القطع مع هذه الاتفاقيات.