الديون

هل المنتدى الاجتماعي العالمي مؤهل للنضالات الشعبية؟

هل المنتدى الاجتماعي العالمي مؤهل للنضالات الشعبية؟

سمير أمين
هل تعد صيغة المنتديات الحالية ملائمة لهذه النضالات؟
-1-إن الإنجازات غير المنكورة التي حققها المنتدى الاجتماعي العالمي  بدءا من الدورة الأولى في بورتو أيجري  حتى الدورة الأخيرة  هذه الإنجازات تثبت أن صيغة المنتديات قد لبت حاجة موضوعية لمسها الكثير من المناضلين والحركات المنخرطة في النضالات ضد النيوليبرالية والعدوانية الإمبريالية (بما فيها العدوان العسكري باالطبع). وقد تمكنوا في خضم نضالاتهم من تجديد وابتكار أشكال التنظيم والتعامل الفعال في المجتمع.
نعم لقد اتصفت الثقافة السياسية لليسار في القرنين 19 و 20 بالأفكار والممارسات والممارسات المبنية على مبدأ التنظيم التراتبي العمودي للأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات. بيد أنها استطاعت في ظل تلك الظروف نفسها تطوير العالم في اتجاه موائم بشكل عام للطبقات العاملة، وذلك من خلال التحولات الاجتماعية الراديكالية والإصلاحية، والثورات، وحركات التحرر الوطني.
بيد أن حدود وتناقضات أشكال النضال تلك بدأت تكشف عن نفسها بسفور في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وكان القصور الديمقراطي الملازم لأشكال التنظيم بمثابة الجذر الحقيقي لكل الخيبات التي وقعت في ما بعد، فالإصلاحات والثورات التي قادتها قوى أعلنت عن نفسها “كطلائع” متسلحة بالمعرفة “العلمية” والاستراتيجية “الفعالة المنيعة”… جاءت إلى السلطة بنظم حكم أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها أخلفت بالكثير من وعودها، وغالبا ما أصابها التهتك، بل واتخذت منحى إجراميا في بعض الحالات. وبسبب هذه الإخفاقات استطاع رأس المال المسيطر والإمبريالية استعادة القدرة على الهجوم في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
-2- شن رأس المال والإمبريالية هجومهما تحت رايات النيوليبرالية والعولمة، على أن لحظة الفورة التاريخية لهما قد جاءت قصيرة الأجل حيث استمرت من 1990 إلى 1995 فقط. وسرعان ما عادت الطبقات العاملة إلى حلبة النضال لصد هذا الهجوم.
صحيح أن الموجة الأولى من نضالات المقاومة قد بنيت بوجه عام على أرضية رد الفعل ضد الهجوم متعدد الأبعاد، بدءا من مقاومة سياسات النيوليبرالية الاقتصادية، إلى مقاومة الانقضاض على المكاسب الاجتماعية، إلى مقاومة القمع البوليسي، وانتهاء بالتصدي للاعتداءات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وماتزال هذه النضالات متواصلة وآخذة في الاتساع وفق الظروف المحلية والتحديات المختلفة التي تواجهها الشعوب.
وفي هذا الصدد لم يعد ممكنا فك عرى الترابط بين المطالبة بضبط الأسواق، وإرساء حقوق النساء، وحماية البيئة، والدفاع عن الخدمات العامة، والنضال من أجل الديمقراطية، والمقاومة المسلحة ضد العدوان الذي تمارسه الولايات المتحدة وحلفاؤها في الشرق الأوسط (العراق، فلسطين، لبنان…).
لقد مارست الشعوب التجديد في غمار نضالاتها. علما بأن الكثير من القوى السياسية القديمة لليسار المنظم قد تباعدت عن تلك النضالات الأولية، وأظهرت الكثير من التردد في مواجهة العدوان، بل إنها في بعض الحالات انحازت للخيارات الليبرالية والإمبريالية. وهكذا فقد بدأت الحركة على أيدي “قوى جديدة” و”بشكل عفوي” في بعض الأحوال. وفي غضون اتساع هذه النضالات طورت تلك القوى المبدأ الأصيل في الممارسة الديمقراطية، والذي يرفض التراتبية الرأسية ويشجع أشكال التعاون الأفقية. ويجب علينا الاعتراف بأن هذا الوعي الديمقراطي قد مثل تقدما  “حضاريا”. كما يجب أن نقر بأن انعكاس هذا المبدأ على المنتديات الاجتماعية جاء “مفيدا” حقا من زاوية تطوير النضالات.
-3- لقد حققت نضالات المقاومة انتصارات حقيقية لا مراء فيها، حيث بدأت (وفقط بدأت) في إلحاق الهزيمة بالهجوم الرأسمالي والإمبريالي.
ومن الواضح أن المشروع الأمريكي للسيطرة العسكرية على الكوكب تحت مظلة الحروب “الاستباقية” (غزو أفغانستان والعراق، احتلال فلسطين، العدوان على لبنان…)، والذي اعتبر ضروريا لضمان نجاح العولمة …هذا المشروع العسكري يواجه الآن عقبات متصاعدة في طريق تنفيذه الفعال.
أما المشروع الاقتصادي والاجتماعي المسمى “بالنيوليبرالي”، والذي يستهدف تأمين قاعدة قوية ومستقرة لتراكم رأس المال (ضمان تحقيق أقصى معدلات الربح بكل الوسائل الممكنة) فقد أصبح عاجزا عن فرض شروطه كاملة باعتراف حتى الهيئات التي صممته مثل البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية. ومن مظاهر “تعثر” هذا المشروع الطريق المسدودة التي وصلت إليها جولة مفاوضات الدوحة في إطار منظمة التجارة العالمية، كما يعاني صندوق النقد الدولي من أوضاع مالية متردية…إلخ. بل يلوح في الأفق شبح حدوث أزمة اقتصادية ومالية مفاجئة.
-4-
ومع ذلك لا مجال لتهنئة أنفسنا على تلك النجاحات، لأنها ماتزال غير كافية لتغيير موازين القوى الاجتماعية والسياسية لمصلحة الطبقات العاملة، ومن ثم تظل هذه النجاحات مهددة بالارتداد مالم تنتقل الحركة من حالة المقاومة الدفاعية إلى حالة الهجوم، فالهجوم وحده هو الذي يمكن أن يفتح الطريق أمام بناء بديل إيجابي تحت شعار “عالم آخر ممكن”، والمقصود بالطبع : عالم أفضل.
إن التحدي الذي تواجهه الشعوب يكمن بالكامل في مدى استعدادها للإجابة عن السؤال الذي صاغه “فرنسوا أوتار” في عبارة محكمة عن كيفية الانتقال من مرحلة الوعي الجماعي بالتحديات إلى مرحلة بناء القوى الاجتماعية الفعالة والضرورية لإحداث التحول.
فإلى أي حد يجد هذا الوعي الجماعي تعبيرا عنه في المنتديات الاجتماعية ؟ إنه موجود بالتأكيد، ولكن بدرجات متفاوتة من النضج – كما هو معهود تاريخيا- وذلك حسب اختلاف الزمان والمكان والحركات المعنية. ثم هل تسهم المنتديات الاجتماعية في تحقيق هذه النقلة والارتقاء الضروري للوعي وبناء قوى التغيير؟ بل ما مدى انعكاس هذا الوعى الجماعي داخل المنتديات؟ … هذا هو نوع الأسئلة التي نحاول الإجابة عنها هنا.
لقد كانت هذه النقة، وستظل، صعبة لأنها تتطلب أولا اتخاذ النضالات طابعا راديكاليا، وثانيا تحقيق التلاقي بين هذه النضالات مع الحفاظ على تنوعها (حسب صياغة المنتدى العالمي للبدائل) في خطط مشتركة للعمل تنطوي على رؤية سياسية استراتيجية، مع تحديد للأهداف القريبة والأبعد (أي “المنظور” الذي يحدد البديل).
ولا يقصد براديكالية الحركات الشعبية مجرد إضفاء الطابع الراديكالي على خطابها اللفظي، وإنما أن تتمفصل هذه الحركات مع المشروع البديل الذي تقترحه ليحل محل أنساق السلطة القائمة، أي بناء هيمنات اجتماعية (تحالفات طبقية) تفرض نفسها كبدائل للهيمنات الاجتماعية الحاكمة (أي هيمنات التحالفات التي يسيطر عليها رأس المال والإمبريالية وكذا الطبقات الكمبرادورية المحلية القائمة على خدمتها).
وبعد موجة من “تنسيق” النضالات (أو حتى ببساطة تبادل وجهات النظر) والتي لا تمكنها من تجاوز حالة التشتت (ومن ثم الضعف)، لا يتحقق الالتقاء الفعلي إلا كنتيجة “لتسييس” (بالمعنى الصحيح والرفيع للكلمة) الحركات المبعثرة. وهو المطلب الذي يلقى المقاومة من أيديولوجية “المجتمع المدني اللاسياسي” المسوردة رأسا من الولايات المتحدة، والتي ما زالت تلحق الضرر بالحركات الاجتماعية.
إن الالتقاء مع التنوع، وراديكالية النضالات، سيجدان التعبير المناسب عنهما في مسار طويل لا بد أن يمر بمراحل متتالية (وهو التعبير الذي لا يحب البعض مجرد سماعه لأنه مرادف في نظرهم للمساومة والانتهازية) تسمح أولا بتحقيق تقدم في عملية الدمقرطة (منظورا إليها كعملية متواصلة وليس “كمخطوط” منسوخ من نموذج الديمقراطية السياسية التمثيلية الغربية) يكون مرتبطا (وليس منفصلا) عن التقدم الاجتماعي. وثانيا تؤكد في الوقت نفسه على سيادة الدول والأمم والشعوب، وصياغة أشكال للعولمة القابلة للتفاوض وليست المفروضة على نحو أحادي من جانب رأس المال والإمبريالية.
ومن المؤكد أن التحديدات السابقة لمحتوى عملية بناء البديل ليست مقبولة من الجميع. فالبعض يظن أن الديمقراطية (التعددية الحزبية والانتخابات الدورية) غير المرتبطة “بالمسألة الاجتماعية” (والخاضعة من ثم لعمل السوق) هي “أفضل من لا شيء”. غير أنه لا يبدو أن شعوب آسيا وأفريقيا بوجه عام يمكن أن تكترث بنضال من أجل هذا الشكل من الديمقراطية إذا كان منعزلا عن التقدم الاجتماعي (وفي الحقيقة أنه يأتي الآن مرتبطا بالردة الاجتماعية). بل قد نجد هذه الشعوب تفضل الاحتشاد وراء الحركات الموصوفة بالدينية/ العرقية والتي لا تنطوي إلا على القليل جدا من الديمقراطية. وهذه الأخيرة لا يمكن أن تصدرها أوربا أو تفرضها الولايات المتحدة. وإنما لا يمكن أن تتحقق فعلا إلا نتيجة لانتصار شعوب الجنوب في نضالاتها من أجل التقدم الاجتماعي، بالضبط مثلما كان ومايزال الحال في أوربا.
إن مجرد ذكر كلمات مثل الأمة أو الاستقلال أو السيادة الوطنية يثير القشعريرة عند البعض الذي يصنفون “السيادة” على أنها “من مخلفات الماضي”، وأن الأمة يجب أن تلقى في صندوق المهملات بعدما أصبحت بالية بفعل عمليات العولمة. وهي أطروحة تتمتع بشعبية كبيرة بين الطبقات المتوسطة في أوربا (لأسباب واضحة تتعلق بمشكلات بناء الاتحاد الأوربي) إلا أنها لا تجد صدى لها في بلدان الجنوب (ولا حتى في الولايات المتحدة أو اليابان!).
إن مرحلية التحول لا تعنى مطلقا استبعاد التأكيد على الأفق طويل الأمد. ويرى البعض – ومنهم كاتب هذه السطور- أن هذا التحول يتمثل في “اشتراكية القرن الحادي والعشرين”، بينما يرفض آخرون الحديث عن الاشتراكية التي يعتبرونها ملوثة تماما بممارسات القرن الماضي.
وحتى عندما يصبح مبدأ التوافق على ما سبق مقبولا فإن تطبيقه يظل صعبا، حيث يتوقف أولا على التقدم في الممارسة الديمقراطية الذي يتححق في غمار النضالات (شرط التخلص من الحنين إلى القيادة “الطليعية” الأوامرية للحركات)، وثانيا على مدى الاحتياج إلى وحدة العمل والذي يتوقف بدوره على الأوضاع المحلية (الوطنية).
إن مبدأ التوافق الضروري ليس مقبولا من “الجميع”. فهو بالتأكيد مرفوض مثلا من التيارات المسماة “أوتونومية”[1] والتي تستوحي أفكارها بدرجات متفاوتة من صياغات “ما بعد الحداثة”. ولا بد بالطبع من احترام هذه الحركات على ما هي عليه، لأنها تعد بالفعل جزءا من الجبهة النضالية. ويمضي البعض إلى مدى أبعد حينما يؤكدون أن هذه الحركة – على تشتتها- تبني البديل بنفسها، بل قد يصل الأمر إلى حد الادعاء بأن “الذات الفردية” في طريقها لأن تصبح بالفعل وسيط التحول (راجع رؤية “نيجري” Negri  النظرية). ويؤكد مفكرو هذه التيارات “الأتونومية” على قدرتهم في تغيير العالم دون حاجة إلى أخذ السلطة. وسوف يخبرنا التاريخ عن احتمالات تحقق هذا الوهم. ومن الممكن أن يكون هذا أيضا هو الحال عند كثير من الحركات الجماهيرية المنخرطة في نضالات عظيمة. كذلك قد تتصور (أو تأمل) أن تحول المنظمات الموروثة من الماضي (الأحزاب والنقابات…الخ) نفسها هكذا باتجاه الممارسة الديمقراطية المطلوبة.
وعلى أية حال فإن الصراع – سواء كنا نتحدث عن “منظمات ضخمة” أم “صغيرة”- يتطلب وضع “منطق النضال” (الذي يركز على الاحتياجات النضالية) قبل “منطق التنظيم” (الذي يلح على المصالح الخاصة “للقيادة” الحالية، أو لمن يتطلعون إلى تبوء هذه القيادة، والمشاركة في السلطة القائمة، ومن ثم تشجيع “الانتهازية”).
ولن يتسنى بناء التوافق على المباديء المذكورة على المستويين العالمي والإقليمي ما لم يتحقق أولا على المستويات الوطنية لأنها هي التي تحدد – سواء أردنا أم لم نرد- وتواجه التحديات الملموسة، ولأن عندها أيضا سيبدأ تحول ميزان القوى الاجتماعية والسياسية لمصلحة الطبقات العاملة.
-5-
وها نحن نشهد حاليا تقدما تجاه إحداث البديل في أمريكا اللاتينية، بينما على العكس من هذا نجد غيابا كاملا أو تقريبيا لتقدم مماثل في أوربا وآسيا وأفريقيا. فالنجاحات في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وبوليفيا وإكوادور وبيرو ونيكارجوا… قد تحققت – وعلى وجه الدقة- نتيجة لمنطق حركات تمكنت من بناء نفوذ جماهيري كبير وتوافق سياسي فعال. وهي نجاحات “ثورية” بمعنى أنها رجحت موازين القوى الاجتماعية والسياسية لصالح الطبقات العاملة. ويرجع السبب الرئيسي في نجاحها إلى الجواب العملي والواقعي الذي قدمته في ما يتعلق بديمقراطية “إدارة الحركات”، والتوجه السياسي لمشروعاتها، وكذا التغلب على وضعية التشتت السائدة في أماكن أخرى.
ولا أحد ينكر أن السلطات التي أنتجتها هذه النجاحات تواجه مشكلات من قبيل خطر التراجع تحت ضغوط الخارج والعراقيل التي تضعها في طريقها الطبقات المحلية المميزة. ومن ثم ينبغي أن تنفتح هذه التغييرات في السلطة على الحركات الجماهيرية، لأن هذا وحده هو الذي سوف يسمح باطراد التقدم القائم على الربط (وليس الفصم) بين تأكيد الاستقلال الوطني (إزاء الولايات المتحدة) والدمقرطة والتقدم الاجتماعي.
غير أن الصورة ليست واعدة بهذه الدرجة في أماكن أخرى من العالم، دون أن نغمط النضالات الموجودة هناك حقها. ففي أوربا تعطى الأولوية “لبناء الاتحاد الأوربي” مما يشجع على الانحدار نحو الليبرالية الاجتماعية، والأوهام التي تحييها رطانة “الطريق الثالث” و”الرأسمالية ذات الوجه الإنساني”. فهل ستنجح “الحركة” في التغلب على تلك العقبات دون التخلي عن الأولوية التي تضفيها على الاستمرار في البناء الأوربي؟ إنني شخصيا أشك في هذا شكا قويا، وأعتقد أن الشرط الضروري في تحقيق الهدف هو إجراء تغييرات حاسمة في توجه السلطات السياسية الوطنية، وخاصة في ما يتعلق بالانفصال عن الأطلنطية (انطلاق من الاقتناع بأن حلف الناتو عدو حقيقي للشعوب الأوربية). ولكن آخرين لا يشاركونني هذا الاعتقاد. ففي أوربا الشرقية مثلا تأخذ هذه الأوهام أبعادا أكبر، خاصة أن المنطقة قد أصبحت من حيث علاقاتها الواقعية مع ألمانيا وأوربا الغربية في وضع يماثل الوضع الذي كانت عليه (وما تزال) أمريكا اللاتينية إزاء الولايات المتحدة.
أما في آسيا وأفريقيا، فإننا نلاحظ اللحظة التاريخية الراهنة انتشار ما نصفها بالمشروعات “الثقافوية” والتي تغذي وهم المشروعات “الحضارية” المزعومة المبنية على أساس تجمعات توصف بالدينية والعرقية، وغالبا ما تؤدي هذه النزعات الانعزالية إلى طرق مسدودة. وقد يتمتع هذا الخطاب بمعاملة متسامحة (وربما مشجعة) من القوى الرأسمالية والإمبريالية.
إننا مطالبون بالمزيد من التعمق في فهم لماذا وقعت التطورات التقدمية في أمريكا اللاتينية، وأن “نعرف” أسباب الجمود النسبي للحركا في مناطق أخرى، وأسباب انهيارها أو هزيمتها في بعض الحالات. وهذ هو الاتجاه الضروري الذي يجب أن يتخذه الجدل الواسع في المنتديات الاجتماعية وغيرها. علما بأن المنتديات الاجتماعية العالمية هي بالدرجة الأولى أماكن للتلاقي، ولا تستطيع توفير أطر ملائمة لتعميق جدل كهذا. بينما يمكن لهذا العمل أن يجد أرضية مناسبة في المنتديات الوطنية (وكذلك الإقليمية).
-6-
إن المقترحات الواردة في “نداء باماكو” (يناير 2006) قد أتت استجابة لمتطلب ضرورة إيلاء اهتمام أكبر لتعميق ذلك النوع من الجدل. وهي مجرد “مقترحات” وليست “قرارات” مفروضة (فحتى من يتجرأ على تصرف كهذا لن يجد السلطة الفعالة لتنفيذه!). ولكن هذه المقترحات تعرضت للرفض من حيث المبدأ من جانب التيارات الأوتونومية المتطرفة ومجموع المنظمات غير الحكومية “اللاسياسية”. إلا أنها تمكنت من شق طريقها في مسارات ومواقع أخرى.
إن ميثاق المنتدى الاجتماعي العالمي لا يمنع مبادرات من ذلك النوع الوارد في نداء باماكو الذي صدقت عليه مجالس الحركات. إلا أن المبادرة قد أزعجت “سكرتارية” المنتدى الاجتماعي العالمي. لماذا؟ قد يكون السبب هو عدم مشاطرة السكرتارية لمضمون المقترحات الواردة في النداء. فهل يمكن أن نفهم من هذا أن السكرتارية قد انحازت إلى صف المنظمات غير الحكومية “اللاسياسية” (وربما أيضا التيارات الأوتونومية المتطرفة) بإغلاق مجال العمل في المنتدى في وجه أي تيارات أخرى؟ ونحن لا ننكر أن الوثيقة التي نتحدث عنها (أي نداء باماكو الذي صاغه مائتا مشارك خلال لقاء دام يوما وليلة) بها بالفعل بعض أوجه القصور، وربما التناقض أيضا. ولكن هل يبرر هذا كله أن يوجه الاتهام إلى واضعيها “بالغطرسة” الفكرية لأصحاب مواقف “طليعوية” بالية، بل وحتى الادعاء بأنها تنطوي على مواقف سياسية خطرة؟
هل تنتج التيارات الأوتونومية المتطرفة مشروعا دقيقا ومتماسكا بالاكتفاء بالتعبير المباشر عن الجماهير؟ ألا يوجد لديها “المفكرون” الذين يصوغون الأطروحات لها؟ ألا تعتمد المنظمات غير الحكومية “اللاسياسية” أفكارا ذات مغزى سياسي واضح حينما تصوغ مفردات خطابها باستلهام منظور مؤسسات المنظومة الرأسمالية (تقليص الفقر، الحكم الصالح، الثقافوية المتصاعدة…).
-7-
إن المنتديات العالمية لها تاريخها، ولها أيضا تاريخ سابق على تبلورها، فهي لم تظهر هكذا فجأة وبدون مقدمات. وقد فصّل “فرنسوا أوتار” Francois Houtart  و”برنار كاسان” Bernard Cassen  المراحل الأساسية لهذا التاريخ بدءا من التحركات المناهضة للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 1999 وغيرها من المبادرات المماثلة.
وليس من أهداف الورقة الحالية الشروع في “تقييم” انتشار المنتديات خلال السنوات السبع الأخيرة. وحتى لو رأينا أن نجاح تلك المنتديات مؤكد، وأن أثرها حقيقي (وهو ما نراه بالفعل) فإن علينا ألا ننغمس في تهنئة الذات بقدر ما نركز على جوانب الضعف.
إن “السلطات” المسئولة عن الإدارة الفعلية للمنتدى متعددة (السكرتارية، المجلس الدولي، “قيادات” الحركات الرئيسية والمنظمات غير الحكومية الممثلة). وينصب اهتمامها دائما – وبحكم تعريفها نفسه- على السلطة (وسيكون من السذاجة أن نتجاهل هذا). وغالبا ما يسيطر على انشغالاتها تقييم الذات حسب معايير الأداء الداخلي ذات الطبيعة السطحية في العادة (مثل كم المشاركين، وربما نوعية المناقشات، والمسائل المادية المباشرة في التنظيم). أما معايير التقييم الحقيقية فلا نجده إلا “خارج” تلك الهيئات، مثل : هل تسهم المنتديات في تيسير تقدم النضالات (وليس جمودها أو تراجعها) ؟ ولكم نرغب أن يجد هذا النوع من الأسئلة صدى أكبر في الاجتماعات واللقاءات التي تنظمها تلك “السلطات”.
وإذا مضينا في نقدنا هذا إلى الأمام قليلا، يستطيع المرء القول بأن المنتديات العالمية تعاني من عدم توازن (متزايد) في حضور المشاركين. فنظرا لكون المشاركة مكلفة ماليا وتتطلب جهودا فكرية كبيرة، نجدها تستقطب في المقام الأول المنظمات غير الحكومية (وهي مكرسة في بعض الأحيان لدعم النضالات) والغنية بالموارد البشرية والمالية، ولا ينطبق هذا على المنظمات الشمالية منها، وإنما يشمل أيضا “زبائنها” في الجنوب. وذلك على العكس تماما من حال حركات اجتماعية منخرطة في صراعات كبرى. فمئات الألوف من الفلاحين الذين يخوضون نضالات شرسة، وشعوبا بأكملها تواجه مدافع وقنابل المحتل الإمبريالي، قد يستطيعون بالكاد إسماع صوتهم في “حلقة نقاشية” تعقد هنا أو هناك. بينما نجد منظمات أخرى كثيرة، قد لا تكون مهمة في مجال نشاطها، تستطيع عقد “عشر حلقات”على سبيل الدعاية لنفسها. ودعونا نتكلم بصراحة ونقول إن بعض هذه المنظمات جزء لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية (وتعمل “كصمامات أمن” لها) وهي بالطبع لا يمكن أن تكون جزءا من البديل. وإن مسألة “انفتاح المنتديات” (وهو المبدأ الذي لا نتشكك فيه) قد أضحت إشكالية بالفعل، ومن ثم ينبغي توجيه اهتمام أكبر للإدارة المناسبة لهذا الانفتاح.
وربما شهدت المنتديات الوطنية “إخفاقات” مماثلة، ولكن في هذه الحالة نجد أن التلاحم المباشر للقوى المنخرطة في الصاع مع النظم القائمة يدفع – أو على الأقل يحمل إمكانية الدفع- نحو التغلب على هذه الإخفاقات. وتتوقف إيجابية النتائج على الشروط المتحققة على الأرض، وعلى طبيعة المعوقات (مثل المنافسة السياسية على الصعيد الوطني)، وكذلك على عوامل أخرى مواتية (مثل اتسام النضالات بالطابع الراديكالي).
-8-
إن إعادة بناء “جبهة بلدان وشعوب الجنوب” تعد من الشروط الأساسية لنشأة “عالم آخر” ليس مؤسسا على السيطرة الإمبريالية. وبدون التقليل من أهمية التحولات المختلفة في مجتمعات الشمال في الماضي والحاضر، فإنها ماتزال مربوطة حتى الآن بعربة الإمبريالية. وليس هناك ما يدعو إلى الدهشة في أن التحولات العالمية الكبرى قد انبثقت من تمرد الشعوب في الأطراف، مثل الثورة الروسية (“الحلقة الضعيفة” في تلك الفترة) والثورة الصينية، وجبهة عدم الانحياز (إعلان باندونج).. وهي التحولات التي أجبرت الإمبريالية على “التكيف” مع المطالب التي اعترضت مسار توسعها. ولكن هذه الصفحة التاريخية (كتلة باندونج وحركة القارات الثلاث 1955- 1980 والتعددية القطبية) قد طويت الآن.
ولما كانت العولمة تحول دون “إعادة بناء باندونج” فإن الطبقات الحاكمة في بلدان الجنوب تحاول في الظرف الحالي اللحاق بهذه العولمة، على أمل أن تتمكن من تغييرها لصالحها، وإن كانت غير مستعدة بالطبع للقتال من أجل هذا الهدف. وتنقسم هذه البلدان إلى مجموعتين : البلدان التي لديها مشروع “وطني”، طبيعته رأسمالية من حيث الجوهر، وتختلف في ما بينها من حيث كم التنازلات المقدمة للطبقات العاملة، ومع ذلك فهي منغمسة في صراعات سافرة أو مكبوتة مع الاستراتيجيات الإمبريالية، ومن ثم يجب التعامل معها حالة بحالة. ومن أمثلة هذه البلدان الصين وبلدان الاقتصادات البازغة في آسيا وأمريكا اللاتينية. أما المجموعة الثانية فتضم البلدان التي لا تملك مشروعا، وتقبل بالتكيف مع مطالب التوسع الإمبريالي، وتغلب الطبيعة الكمرادورية على طبقاتها الحاكمة.
وتتشكل تحالفات بين دول (حكومات) الجنوب داخل منظمة التجارة العالمية. وينبغي عدم التقليل من الإمكانيات التي تمثلها هذه التحالفات بالنسبة لحركات الطبقات العاملة، وإنما ينبغي النظر إليها بعين اليقظة الكاملة.
فهل تستطيع جبهة “شعوب الجنوب” أن تتجاوز تلك التقاربات بين الطبقات الحاكمة؟ إن بناء هذه الجبهة ما يزال عملا بالغ الصعوبة، ويتعرض لكثير من العراقيل، مثل المبالغات “الثقافوية” المشار إليها آنفا، وما تثيره من مواجهات وسط شعوب الجنوب (على أسس دينية وعرقية مضللة). غير أن بناء هذه الجبهة قد يصبح أقل إشكالية إذا كان لدى الدول “مشروع” يتطور على نحو أكثر حسما ضد الإمبريالية، تحت ضغط الشعوب أساسا. أي مشروعات تتخلص من وهم أن القوى “الرأسمالية الوطنية” في وضع يمكنها من التأثير في العولمة الإمبريالية بما يحقق مصلحتها نفسها، ومن ثم الاشتراك في صياغة المنظومة العالمي، وليس مجرد التكيف معها على نحو أحادي.
وما تزال هذه الأوهام الكبيرة تلقى الدعم من الخطاب القومي، والرطانة التي تحدو “دول الاقتصادات البازغة” (والتي تزعم أنها في سبيل “اللحاق”)، والتي تروجها مؤسسات تعمل في خدمة الإمبريالية وتلعب دورها في تغذية الأوهام. ولكن مع اتساع دائرة الحقائق التي تدحض تلك الأوهام، ستكون التكتلات الوطنية الشعبية والمعادية للإمبريالية قادرة على تجاوز هذه الأوهام وتمهيد الطريق أمام أممية الشعوب. ومن المأمول أن تتفهم القوى التقدمية في الشمال تطورا كهذا، وأن تدعمه.
-9-
في الختام يمكن القول بأن “مستقبل المنتديات” سوف يتوقف على ما يحدث “داخلها” بدرجة أقل من توقفه على تطورات تحدث في أماكن أخرى، وبالتحديد في نضالات الشعوب وجيوستراتيجية الدول. ولا يقودنا هذا الاستنتاج إلى أي تشاؤم بشأن المنتديات، وإنما يدعونا إلى الاعتدال عند تقييم منجزاتها.
وفي تواز (وليس تناقض) مع استمرار الأنشطة النضالية للمنديات، هناك ضرورة ملحة لأشكال أخرى تسمح بتعميق الجدل في ما يتعلق بالأعمال المشتركة (أي بما يتجاوز “يوم” الاحتجاج العالمي على الديون، أو الحروب الاستباقية، أو تأكيد حقوق النساء، أو الحق في النفاذ إلى المياه…الخ).
وهو الطريق الذي مضى فيه بالفعل المنتدى الاجتماعي للبدائل منذ إنشائه عام 1997 ، والذي يمثل شبكة تضم عددا كبيرا من “مراكز البحث والتفكير” المتمفصلة بشكل مباشر مع قوى سياسية واجتماعية تناضل ضد المنظومة الرأسمالية. وهو يشجع تكوين جماعات للعمل المشترك ( وليس فقط لتبادل الآراء). ومنها على سبيل المثال جماعات النقابيين (“إعادة بناء الجبهة الموحدة للعمل”) والحركات الفلاحية (فرض حق الفلاحين في الحصول على الأرض) والقوى السياسية المناهضة لسياسات رأس المال والإمبريالية العالمية (العمل على مسائل القانون الدولي أو إصلاح منظومة الأمم المتحدة ونظم الإدارة الاقتصادية للعولمة..الخ).
وهناك الكثير من “الشبكات” الوطنية والإقليمية والعالمية الأخرى التي تضطلع بجهود تستحق التحية في مجالات أخرى. ولا يتسع الحيز هنا لذكرها جميعا، ولكن نذكر منها على سبيل المثال ما تمثله جماعة “أتاك” في فرنسا، أو نشاط جماعة “فوكس أون جلوبال ساوث” و”أرينا” وغيرها.. وسيكون من المرغوب فيه تماما أن تنعكس هذه البرامج في دعم وزيادة فاعلية المنتديات

زر الذهاب إلى الأعلى