الديون

الديون كأداة للسيطرة ونقل للثروات: هل هو ظاهرة جديدة؟ 

  نشأت اللجنة الدولية من أجل إلغاء الديون غير الشرعية CADTM في عام 1990، حين كانت دول الجنوب تعيش حالة اضطراب بفعل أزمة الديون، التي يمكننا الحديث عن بدايتها أثناء فشل المكسيك في الأداء عام 1982. تميزت تلك الفترة  بتدخلات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من أجل فرض عقيدة الليبرالية الجديدة في هذه البلدان، ولكن أيضا من قبل الحركات الاجتماعية في الجنوب والشمال من كوكب الأرض المعارضة لهذه السياسات والمطالبة – من بين أمور أخرى – بإلغاء ديون البلدان العالم الثالث. إذ أظهرت هذه الأزمة بوضوح كيف أن الديون أداة للهيمنة ونقل لثروات غالبية السكان لفائدة قسمها الأكثر غنى، والظاهرة مع ذلك ليست جديدة.

ديون خاصة: تاريخ لعدة آلاف من السنين

تثبت أقدم الآثار وجود الديون في التاريخ تعود إلى الحضارة السومرية (6000-3500 قبل الميلاد)، في بلاد ما بين النهرين. لم يكن ختم العملات موجود أنذاك ، وكانت التبادلات  تتم عموما من خلال نظام القرض (وليس عن طريق المقايضة | 1 |): وكانت تكتب جميع القروض و السلفات على ألواح، وكانت تسدد الديون على فترات منتظمة. للقيام بذلك، يدفع المدينين  لدائنيهم جزء من الثروة التي ينتجها عملهم – كانت هذه  بصفة خاصة حالة المزارعين الذين يتخلون عن جزء من محاصيلهم ،عندما يكونون غير قادرين على سداد ديونهم، ويصبح المدينين – وأحيانا عائلاتهم – عبيدا لدائنيهم: وهذا ما يسمى عبودية الدين.

يمكن أيضا تتبع وجود الديون بين هذه الفترة من الحضارة السومرية واليوم |2 | .ما يثير الاهتمام ، هو أنه في هذا التاريخ القديم كانت توجد آليات إلغاء الديون قررتها المؤسسات المهيمنة لضمان السلم الاجتماعي ، عن طريق الخفض من المخاطر لفائدة صغار المنتجين (مزارعين وحرفيين) مخافة الوقوع في فخ المديونية المفرطة التي تؤدي إلى فقدان أدوات إنتاجهم، أو حتى حريتهم. ويمكن أن تكون هذه الإلغاءات دورية أو تقرر بشكل استثنائي لتهدئة الصراعات الاجتماعية.


الدين العام كوسيلة لتراكم رأس المال

إذا كانت الآليات المالية التي نعرفها اليوم (مثل البنوك المركزية أو أيضا المضاربة) موجودة قبل الرأسمالية | 3 |، فإن ظهور هذه الأخيرة ساهم في إمتدادها  وتعميمها. منذ عام 1867، في كتاب ” الرأسمال “، إهتم كارل ماركس بالدين العام كآلية لتراكم رأس المال. لقد كتب: “الدين العام، وبعبارة أخرى، فإن رهن الدولة، سواء كان إستبدادا أو دستوريا أو جمهوريا، يمثل بصمة الحقبة الرأسمالية […]. يعمل الدين العام كواحدة من أكثر العوامل حيوية للتراكم البدائي. بواسطة عصا سحرية ، فإنها تمنح  المال غير المنتج  الفضيلة التناسلية وبالتالي تحوله إلى رأسمال، من دون الحاجة إلى معاناة المخاطر، والإضطرابات المصاحبة لإستعمالاته الصناعية وحتى الإستهلاك الخاص. | 4 | “

يظهر نظام الدين العام كآلية لتراكم رأس المال البدائي في القرنين 14 و 15 في الجمهوريتين التجاريتين البندقية و جنوة، ثم أصبح واسع الانتشار في الدول الأوروبية  القوية خلال  فترة الغزوات الاستعمارية وإختراع المانيفاكتورات (من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر). خلال القرن 19، رافق الدين العام تشكيل الرأسمالية الصناعية. وسمح الدين العام للدولة “بتضييق الفجوة بين معدل الزيادة في الإنفاق العام ومعدل الزيادة البطيء في المداخيل الحكومية، ولا سيما الضرائب”. وتسدد الدولة ديونها للمؤسسات المالية الدائنة من خلال مداخيل الضرائب من جهة، ومن خلال قروض جديدة من جهة أخرى.

و بالتالي فإن الدين العام يسمح بظهور فئة معينة من الطبقة الرأسمالية:  تلك التي على رأس المصارف الخاصة. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن العديد من أكبر البنوك اليوم هي من البنوك التي نشأت في القرن الـ 19: وهذا هو حال على سبيل المثال: BNP Paribas  في فرنسا أو JPMorgan  في الولايات المتحدة الأمريكية. وكما هو الحال اليوم، فإن تراكم رأس مال أقلية ضمن القوى الرأسمالية الوليدة هو على حساب الشعب، ولا سيما الشعوب الواقعة على هامش النظام الرأسمالي.

أقرضت،على سبيل المثال، في سنوات 1820، بنوك القوى الاقتصادية الأوروبية (تبرز في المقام الأول المملكة المتحدة وفرنسا) دول أمريكا اللاتينية المستقلة حديثا الساعية لتمويل تنميتها. أدى هذا اللجوء إلى الاقتراض الخارجي إلى تعليق أداء أول دفعة في أمريكا اللاتينية، بعد الأزمة بسبب انفجار فقاعة المضاربة في لندن في عام 1825 – والتي انتشرت بسرعة إلى مراكز مالية أخرى ما دفع المصرفيين الأوروبيين إلى رفض منح قروض جديدة لدول أمريكا اللاتينية. أما أسعار الفائدة التي تم تطبيقها فكانت فاحشة، في حين أن المبالغ المحولة فعليا أقل بكثير من المبالغ المقترضة (بسبب العمولات التي يأخذها المصرفيون أو عمليات الاحتيال الحقيقية) |6|.

وعلى الرغم من حالات العجز عن الأداء المؤقت، فإن المبالغ التي سددتها الدول المدينة  كانت مذهلة. وتتم هذه التسديدات في معظمها بسبب اللجوء المتكرر إلى التهديد بالتدخل العسكري من جانب السلطات الدائنة وتوجه الطبقات الحاكمة المحلية.

الدين العام كأداة استعمارية

نفذت هذه التهديدات ، في حالة المكسيك. بعد أن رفض الرئيس بينيتو خواريز الديون غير الشرعية في عام 1861، وافقت القوى الدائنة الرئيسية على التدخل عسكريا في البلاد. في يناير 1862، غزت فرنسا المكسيك ثم دخلها في عام 1864 أميرا نمساويا أخذ لقب ماكسيميليان الأول، إمبراطور المكسيك. و اعترف بالديون التي تم رفضها في عام 1861، ووقع على الجديدة التي تبلغ قيمتها الإجمالية 560 مليون فرنك، منها 34 فقط وصلت فعليا إلى المكسيك. وفي عام 1867، سمح أخيرا النصر العسكري للقوات المكسيكية الموالية لبنيتو خواريز  بالرفض الفعلي لهذه الديون.

في القرن التاسع عشر لم تكن أمريكا اللاثينية، المنطقة الوحيدة ، ضحية هذه السياسات التي تقودها القوى الرأسمالية الأوروبية وبنوكها. إن استحالة سداد البلدان الواقعة على هامش أوروبا القروض التي تمثل عمليات خداع حقيقية سمحت للإمبراطوريات الأوروبية بإخضاعها لهيمنتها. في حالة اليونان – التي كانت قد أخذت قروضا لتمويل حرب استقلالها ضد الإمبراطورية العثمانية – تذرعت المملكة المتحدة، وفرنسا وروسيا  بتعليق أداء  الدولة المستقلة حديثا لتضع على عرشها أمير ألماني مهمته الرئيسية هي التعهد  بأداء ديون البلاد | 7 | ثم، منذ عام 1898، تم إنشاء “لجنة مالية دولية” من قبل القوى الأوروبية الكبرى، من أجل وضع اليونان تحت إشراف مالي كامل لضمان سداد الديون  غير الشرعية | 8 |.

في تلك الفترة، وضعت القوى الأوروبية تلك السلطات المالية الرقابية في بلدان أخرى: تم تأسيس ” إدارة الدين العام” في الإمبراطورية العثمانية عام 1881 لضمان سداد ديونها المعاد هيكلتها بعد فشلها في الأداء عام 1875 | 9 | . وكان التقصير المصري في الأداء عام 1876  ذريعة لإنشاء “صندوق الدين العام” | 10 | . في حين أنشئت “لجنة مالية دولية” في تونس في عام 1869 لتسديد الديون الكريهة المتعاقد عليها قبل سنوات قليلة |11­|.

يرتبط استخدام الدين العام كأداة للسيطرة ونقل الثروات بتاريخ التطور الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر.

لقد أتاح الدين العام أخيرا استعمار الدول التي لم يكن الإشراف المالي بها كافيا لضمان سداد أموال الدائنين الأوروبيين. هذا ما حدث ،على سبيل المثال لتونس في 1881 والمغرب في عام 1912 (التي أصبحت في هذه التواريخ مستعمرات فرنسية)، أو لمصر بفعل  الغزو الفرنسي ـ البريطاني لعام 1882 (الذي مثل بداية السيطرة الاستعمارية البريطانية على البلاد).

إن استخدام الدين العام كأداة للسيطرة و نقل للثروات التاريخ غير مرتبط بصعوبة أداء القروض بالنسبة للمكسيك في عام 1982، ولكنه يرتبط بتاريخ تطور الرأسمالية منذ القرن ال19.

 

حماية الدائنين في التاريخ المعاصر

إن المرحلة النيوليبرالية للرأسمالية التي بدأت في السبعينات، والتي تتزامن مع الانتقال من الاستعمار إلى الاستعمار الجديد (الذي يتميز بالسيطرة غير المباشرة)، تكرس هيمنة رأس المال المالي في الاقتصاد العالمي. إن قواعد اللعبة  الجديدة التي وضعتها الطبقات الحاكمة والمؤسسات المالية الدولية تقدم تسديد الديون كالتزام لا يمكن أن يكون له أي استثناء فعليا: فالدائنون هم المحميون، حتى لو كان سلوكهم مفترسا ( على سبيل المثال عن طريق إقراض الديكتاتوريات سيئة السمعة أو الإقراض بأسعار فائدة ضارة) وحتى لو أدى السداد إلى أزمات تكون عواقبها كارثية للسكان.

6 أكتوبر :Nathan Legrand

تعريب : وحيد عسري

Notes


|1| David Graeber, entre autres, montre dans son livre Dette : 5 000 ans d’histoire (Les Liens qui Libèrent, Paris, 2013), que le crédit a existé depuis aussi longtemps qu’existent des traces écrites de civilisation, et que la monnaie comme instrument de mesure du crédit n’est apparue que plus tard (vers 600 av. J.-C.).

|2| Voir par exemple : Toussaint É., « Briser le cercle vicieux des dettes privées illégitimes », cadtm.org, 28 mars 2017. URL : http://www.cadtm.org/Briser-le-cercle-vicieux-des ; Toussaint É., « Briser les chaînes des dettes privées illégitimes », cadtm.org, 10 avril 2017. URL :http://www.cadtm.org/Briser-les-chaines-des-dettes

|3| La fameuse « crise de la tulipe » du 17e siècle dans les Provinces-Unies (territoire actuel des Pays-Bas) est un exemple de crise liée à l’éclatement d’une bulle spéculative.

|4| Marx K., Le Capital, Livre 1, 1867. Cité dans Millet D., Toussaint É. (sous la direction de), La Dette ou la Vie, Éditions Aden, Bruxelles, 2011, pp. 244-245.

|5| Mandel E., « La dynamique infernale de la spirale de l’endettement », Inprecor, n° 217, avril 1986.

|6| Toussaint É., « La dette et le libre-échange comme instruments de subordination de l’Amérique latine depuis l’indépendance », cadtm.org, 21 juin 2016. URL : http://www.cadtm.org/La-dette-et-le-libre-echange-comme

|7| Éric Toussaint, « La Grèce indépendante est née avec une dette odieuse », 12 avril 2016. URL :http://www.cadtm.org/La-Grece-independante-est-nee-avec

|8| Éric Toussaint, « Grèce : La poursuite de l’esclavage pour dette de la fin du 19e siècle à la Seconde Guerre mondiale », 9 mai 2016. URL : http://www.cadtm.org/Grece-La-poursuite-de-l-esclavage

|9Ibid.

|10| Éric Toussaint, « La dette comme instrument de la conquête coloniale de l’Égypte », 20 mai 2016. URL : http://www.cadtm.org/La-dette-comme-instrument-de-la

|11| Éric Toussaint, « La dette : l’arme qui a permis à la France de s’approprier la Tunisie », 31 mai 2016. URL : http://www.cadtm.org/La-dette-l-arme-qui-a-permis-a-la

زر الذهاب إلى الأعلى