الديون

المديونية أقوى آلية للسيطرة في حرب الأغنياء ضد الشعوب

المديونية أقوى آلية للسيطرة في حرب الأغنياء ضد الشعوب

الكاتب: جون زيلر *

قبل بضع سنوات، صرح وارن بوفيه Warren Buffet، أحد أغنى أغنياء العالم حسب مجلة فوربيس الأمريكية، لقناة س.ن.ن قائلا:»بالطبع هناك صراع طبقات، لكن طبقتي- طبقة الأغنياء- هي المبادرة دوما، وهي التي تربح في هذه الحرب «(1).

» نحن شعوب الأمم المتحدة … «بهذه الكلمات استهلت الأمم المتحدة ديباجة ميثاقها. وقد وضعت منظمة الأمم المتحدة – أو بالأحرى دول الحلفاء الذين وقعوا على ميثاقها يوم 26 يونيو 1945 في سان فرانسيسكو – على عاتقها مهمة حماية وضمان المصالح المشتركة للشعوب والرخاء العالمي. إن هذه المصالح اليوم مهددة من كل حدب وصوب من قبل طبقة الأغنياء؛ طبقة وارين بوفيه. لقد أفرغت الدول من قدرتها المعيارية وفعاليتها وتلقت ضربة قاضية قبل أصحاب رأس المال المالي المعولم.

إن معركتي الأخيرة، داخل الأمم المتحدة، التي أخوضها ضد “الصناديق الجشعة fonds vautours“(2) توضح  هذه الحقيقة بجلاء. أعترف أني لم أكن ابدا محايدا خلال عملي منذ عام  2008 كعضو في اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة(3). فحقوق الإنسان سلاح قوي في أيدي أولئك الذين يريدون تغيير العالم والتقليل من معاناة الآخرين ولي ذراع المفترسين. ومن أجل التقدم في كسب هذه المعركة من الضروري عقد تحالفات.

في ظل صراع الطبقات على المستوى العالمي.. في ظل حرب الأغنياء ضد الشعوب بـ”مبادرة من وارين بوفيه” ومن معه.. لا بد للمرء أن يختار معسكره.

إن شعوب البلدان الفقيرة تقتل نفسها في العمل لتمويل تنمية البلدان الغنية. الجنوب يمول الشمال لاسيما الطبقات المسيطرة في الشمال. إن خدمة الدين هي أقوى وسيلة للسيطرة اليوم. إن تدفق رأس المال من الجنوب إلى الشمال أكبر من تدفقه في المنحى المعاكس. فما يسمى دولا “فقيرة” تدفع سنويا للطبقات الحاكمة في الدول الغنية أكثر بكثير مما تتلقاه منهم في شكل استثمارات وقروض ومساعدات إنسانية أو ما يسمى “المساعدات من أجل التنمية”. إن خدمة الدين تبقي الشعوب مستعبدة وتنهب مواردها.

وقد تفاقمت هذه السرقة في العقود الأخيرة مع ظهور الصناديق الجشعة، وهي صناديق مضارباتية  في الجنات الضريبية متخصصة في شراء الديون بأقل من قيمتها الفعلية، وذلك بهدف جني أكبر قدر من الأرباح. هذه الصناديق المضارباتية مملوكة لأفراد فاحشي الثراء، هم المفترسون الأكثر فظاعة في النظام الرأسمالي، يحوزون كنوز حرب بقيمة مليارات الدولارات، وتحيط بهم كتائب من المحامين قادرة على رفع دعاوى في القارات الخمس لمدة عشر أو خمس عشرة سنة إذا لزم الأمر.

الصناديق النسور تقتل..هاكم مثالا. في العام 2002، وبعد جفاف رهيب، تسببت المجاعة في وفاة عشرات الآلاف من الناس في ملاوي. وكان 7 ملايين شخص من سكان هذا البلد الأفريقي الـمقدرة بـ 11 مليون شخص، يعانون من سوء تغذية حاد. وكانت الحكومة غير قادرة على مساعدة الضحايا لأنها قبل بضعة أشهر كانت مضطرة لبيع مخزونها من الذرة (40،000 طن!) لتؤدي مستحقات احد الصناديق النسور، الذي حصل على حكم محكمة بريطانية يقضي بأن تدفع له ملاوي عشرات ملايين الدولارات …

لا يمكن بأي حال وصف مارتن وولف  Martin Wolf صحفي  الفاينانشيال تايمز  بالثوري. ومع ذلك فقد كتب يقول:» إن تسمية هذه الصناديق بالنسور هو إهانة للنسور..فالنسور  تقوم بمهمة ذات نفع «. وهو محق فالنسور تنظف الغابة من بقايا الجيف وتمنع انتشار الأوبئة.

بطلب من حكومة الأرجنتين، وهي إحدى ضحايا هذه الصناديق، طلب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من اللجنة الاستشارية، في قراره رقم 27/30 المؤرخ في 26 سبتمبر 2014، صياغة تقرير تجيب فيه عن السؤالين التاليين:» إلى أي مدى وبأي طريقة تنتهك أنشطة الصناديق النسور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب؟ وما هي الصيغة القانونية اللازم وضعها لوقف أنشطة هذه الصناديق؟ «

وقد عينت مقررا للجنة للإجابة على هذا السؤال المزدوج. نادرا ما عملت في حياتي بقدر ما فعلت خلال عامي 2014 و 2015. قدمت تقريرا في 15 فبراير 2016، أوضحت فيه أن أنشطة هذه الصناديق بحكم تعريفها تنتهك قاعدة “حسن النية” التي تتضمنها قوانين كل دول العالم تقريبا؛ فعلى سبيل المثال، ينص القانون المدني السويسري على ما يلي:» كل فرد ملزم بممارسة حقوقه والوفاء بالتزاماته وفقا لقواعد حسن النية. إن إساءة استعمال حق ما ليست محمية بموجب القانون «.

يعج قصر الأمم في جنيف، والأمم المتحدة بشكل عام، بالجواسيس. جميع المخابرات السرية، ولا سيما تلك المرتبطة بالقوى العظمى، تتنصت على المحادثات التي تبدو في الظاهر محمية بعناية، تستنسخ ما تشاء من وثائق، وتدفع أجورا لبعض الموظفين، وتعمل تحت قناع “دبلوماسي معتمد”. وبالتالي كان  من الطبيعي أن يتم إبلاغ عملاء المخابرات الغربية (وغيرهم) بتفاصيل محادثاتي و بمجريات جميع جلسات عملي.

كان من المقرر التصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورة سبتمبر 2016. في معقل السفارة الأمريكية في بريغني Pregny، على بعد بضع مئات من الأمتار من قصر الأمم، كان ناقوس الخطر يدق. كان أعداؤنا يدركون تماما أنهم مهددون بالهزيمة. كانوا يعرفون توصياتي. وكانوا يعلمون أن المجلس سيعتمدها على الأرجح.

غير أعداؤنا تكتيكاتهم. هجروا ملعب الأمم المتحدة، وعادوا إلى تكتيك عريق القدم أقل تعقيدا ونتائجه مجربة: الفساد. أجريت الانتخابات في الأرجنتين في دجنبر 2015. وكانت كل استطلاعات الرأي ترجح كفة مرشح الائتلاف اليساري الذي كان يناضل ضد الصناديق النسور. لكنه تعرض للهزيمة في نهاية المطاف من قبل سياسي محلي صرف مبالغ فلكية للفوز. وبمجرد تسلمه مهامه، أعلن الرئيس الجديد للأرجنتين، موريسيو ماكري، أنه سيفي فورا بجميع الطلبات المقدمة من الصناديق النسور. وهو ما فعله!

ازدهار الصناديق النسور يكشف بطريقة كاريكاتورية مدى جبروت الأغنياء. إن تراكم ثروة كبيرة جدا في يد أقلية ومايستتبعه ذلك من لامساواة، غير ممكن إلا بفضل تصفية دور الدولة كسلطة معيارية، وإلغاء الرقابة على البنوك، ومأسسة الاحتكارات الخاصة، وانتشار الملاذات الضريبية، وما إلى ذلك. إن هذه اللامساواة تؤدي بلا شك إلى تدمير الثقة بين المواطنين وقادتهم. فعندما تفشل الدول وتحكم الكوكب أوليغارشيا بلا إيمان وبلا قانون، وعندما يحل قانون الغاب محل دولة القانون، فمن يزعم أن بإمكانه المطالبة بحماية الصالح العام والمصلحة العامة؟

كما يقول عالم الاجتماع الألماني يورغن هابيرماس  Jürgen Habermas:» إن تهميش وطرد السياسة من قبل السوق يتجلى من خلال فقد الدولة الوطنية تدريجيا قدرتها على جمع الضرائب، وعلى تحفيز النمو، وبالتالي على تأمين أسس شرعيتها، وهي خسارة لا يمكن تعويضها (….) وفي مواجهة خطر هروب رؤوس الأموال، تنزع الحكومات الوطنية في اندفاع مجنون إلى نزع التقنين عن طريق خفض التكاليف، مما يؤدي إلى أرباح فاحشة وفوارق غير مسبوقة بين الأجور، وارتفاع معدلات البطالة، وإلى التهميش الاجتماعي لساكنة فقيرة متزايدة باستمرار. ومع تدمیر الظروف الاجتماعیة للمشارکة السیاسیة الواسعة، فإن القرارات الدیمقراطیة، حتی تلك المتخذة شكليا وفق الأصول، تفقد مصداقیتھا«(4).

هابيرماس يطرح، في أعقاب ذلك، مسألة نقل السيادة: هل هناك مؤسسات فوق دولية، قادرة على الحلول محل الدول الفاشلة والاضطلاع بمهمة حماية الصالح العام؟ يلمح هابيرماس أساسا الى أوروبا. لست متفقا معه. يبدو لي واضحا أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يدعي أنه نوع من “الديمقراطية القارية”.

الاتحاد الأوروبي كما هو منظم اليوم- ومهما كانت طموحات مؤسسيه -هو أساسا هيئة لدعم وتنسيق وتعزيز مصالح الشركات الخاصة متعددة الجنسية. وهناك أمارات عدة تشهد على ذلك، بدءا من حقيقة أن اللجنة الأوروبية يرأسها الآن جان كلود يونكر Jean-Claude Junker، الذي يضطلع بشكل كاريكاتوري مفضوح، بدور الخادم المطيع للرأسمال العابر للقارات. وفي الفترة من عام 2002 حتى 2010، كان الرجل في نفس الوقت رئيسا للوزراء ووزيرا للمالية في اللوكسمبورغ ورئيسا لمجموعة اليورو. وبصفاته تلك وقع، لصالح العديد من الشركات المصرفية والتجارية والصناعية والخدماتية متعددة الجنسيات، على 548 اتفاقية ضريبية سرية تسمى “اتفاقيات ضريبيةtax rulings ، وهي اتفاقيات تهدف، كما يقال باحتشام، إلى تشجيع التهرب الضريبي.

فيما أكتب هذه الأسطر، يفر مئات آلاف اللاجئين من ضحايا حروب سوريا والعراق وأفغانستان. وفي 28 تموز/يوليوز 1951، صادقت دول العالم على الاتفاقية المتعلقة بحماية اللاجئين، والمعروفة باسم “اتفاقية جنيف”. وقد أوجدت حقا إنسانيا عالميا جديدا، هو الحق في اللجوء. كل مضطهد في بلده الأصلي لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية له الحق غير القابل للتصرف في عبور الحدود وتقديم طلب للحصول على الحماية واللجوء في دولة أجنبية. إن الاتحاد الأوروبي  اليوم بصدد تصفية هذا الحق؛ فهو يقيم الجدران والأسوار والأسلاك الشائكة لحماية حدوده، ولمنع الرجال والنساء والأطفال الذين يفرون من التعذيب والموت من وضع طلب لجوء.

لاشك أن هابرماس على خطأ. ليس بديهيا أبدا أن الاتحاد الأوروبي يتصرف كحارس فوق دولاتي للصالح العام.

ماذا عن الأمم المتحدة؟ هل تفعل ذلك بشكل أفضل؟

لمعالجة هذه القضية، أريد أن أضع نفسي تحت سلطة أنطونيو غرامشي و “تفاؤله بالإرادة”. نعم، الأمم المتحدة في وضع سيء. وحقيقي أن أروقة الأمم المتحدة تعج بشخصيات كريهة و شريرة، وبجحافل كئيبة من البيروقراطيين والطفيليات المدفوعة الأجر بسخاء. ثمة فعلا جبناء بلا ملامح وبلا إرادة. لكن ثمة أيضا عدد معتبر من النساء والرجال يمتلكون النزاهة والشجاعة والتصميم.

ما تزال الأمم المتحدة المصدر الوحيد الحي للمعيرة الدولية. في إطار مواعضه، يحب لاكوردير Lacordaire  الاستشهاد بمقولة في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو: »في العلاقة بين الضعيف والقوي، الحرية هي التي تقهر والقانون هو الذي يحرر« . إن المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي دائما أفقنا التاريخي، واليوتوبيا التي توجه خطواتنا.

كلمة أخيرة حول الصناديق النسور. كما يقول خوسيه مارتي » José Martí عندما تستيقظ الحقيقة مرة، لا تعود للنوم أبدا« (5). لقد فاز بول سينغر Paul Singer (6) ، القابع على رأس العديد من الصناديق النسور، بالتأكيد ضد الشعب الأرجنتيني والعديد من الشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي. ولكن أمره هو وأترابه قد افتُضح. ثمة وعي يتشكل. تحت الجمر نار متقدة. و يوما ما، سيدفع آخرون النضال إلى مدى أبعد.

ترجمة: مصطفى منيري

عضو أطاك المغرب

الرابط الأصلي للمقال

           هوامش            

 *جون زيلر Jean Ziegler  سوسيولوجي سويسري عضو اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، له كتب عدة منها “أسياد العالم الجدد(2002)” و “امبراطورية العار(2005)” و “ضغينة الغرب(2008)” و”دمار شامل(2011)”، كما شارك في تأليف “الكتاب الأسود للرأسمالية(1998)”. وهذا النص عبارة عن مقتطفات من كتابه الأخير “سبل الأمل” الصادر سنة 2016 عن دار Seuil.

1 – مقابلة مع قناة س.ن.ن يوم 25 ماي 2005 مشار إليها من قبل مجلة نيويورك تايمز يوم 26 نونبر 2006

2 -الصناديق الجشعة (حرفيا الصناديق النسور) هي صناديق مضاربة تختص في شراء ديون معسرين ، دولا أو أفرادا، بقيمة أدنى بهدف تحقيق فائض ربح، وسنشير إليها بإحدى التسميتين حسب السياق [المترجم].

3 – يتكون مجلس حقوق الإنسان من 47 دولة منتخبة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الهيئة الثالثة من حيث الأهمية بعد الجمعية العامة (برلمان الأمم المتحدة) ومجلس الأمن(حكومة الأمم المتحدة). وتشمل اختصاصات مجلس حقوق الإنسان شقين: النظر بشكل دوري في سياسة الدول 193 الأعضاء في مجال حقوق الإنسان، ووضع قواعد جديدة للقانون الدولي عند الاقتضاء، ولديه لجنة استشارية تتألف من 18 خبيرا (ثلاثة منهم من الدول الغربية) تدرس الملفات وتتقدم بمقترحات للمجلس. ويعين أعضاء اللجنة الاستشارية من قبل المجلس بناء على اقتراح من بلدانهم.

4-Jürgen Habermas, Après l’Etat-nation. Une nouvelle constellation politique, Fayard, 2000, p. 74 et 75.

5 – شاعر وثوري كوبي (1853-1895) من قادة النضال من أجل استقلال كوبا.[المترجم]

6 – رأسمالي أمريكي فاحش الثراء مؤسس ومالك   Elliott Management Corporation  أحد أشهر الصناديق الجشعة التي اشترت ديونا بالأرجنتين (2014) والكونغو(2000) والبيرو(1990)[المترجم].

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى