الديون

المديونية كنظام للنهب ملازم للرأسمالية

ما المديونية؟

الدين هو الالتزام الذي يلتزم المدين بأدائه تجاه دائنه (شخص أو منظمة) ولا سيما مبلغ المال الذي يتعين عليه دفعه له.

الدين العمومي هي جميع أنواع الديون التي تتعاقد عليها الدولة أو مؤسساتها العمومية أو جماعاتها الترابية والتي يجب أن تسددها لمواطنيها (الدين الداخلي) أو لدولة أخرى أو مؤسسات مالية خارجية (الدين الخارجي). وعلى العموم الديون هي الحصول على موارد مالية عن طريق التعاقد على قروض أو إصدار سندات. ويتم اعتبار هاته الديون، دون تمحيص، أنها تمويل ميزانيات بهدف خدمة الاقتصاد وجلب منافع للمجتمع.

ما هو نظام المديونية؟

نظام المديونية هو الاستعمال المقلوب للآلية الموصوفة أعلاه، أي وجود مديونية دون الحصول على مبالغ مالية او سلع او خدمات او منافع لعموم المجتمع مقابلها، أي خصم موارد بدل إضافتها. يشمل نظام الديون كذلك مجموع الاستراتيجيات المستعملة لأجل ديمومة التوليد الذاتي للديون المؤدي لارتفاعها المضطرد. وكأي نظام فإنه يحمل آليات التحكم الخاصة به الموضوعة عموما، في المرحلة الحالية من الرأسمالية، في يد البنوك (عمومية وخاصة) والمقاولات المرتبطة بها والمؤسسات المالية العالمية ووكالات التنقيط…

يندرج نظام المديونية كما تم تعريفه أعلاه، ضمن سياق أشمل يمكن تسميته ب” أسطورة الخصوبة الذاتية لراسالمال” أو “الهوس النقدي” أو أن شئنا الدقة “قدرة المال على التوليد الذاتي خارج أية عملية إنتاج مادي”.

يمثل نظام المديونية تلك الآلية التي مكنت وتمكن النظام المالي من الهيمنة الاقتصادية.

الرأسمالية والمديونية.

ظهرت الرأسمالية بتظافر عدد من التحولات العميقة امتدت لعدة قرون، كان تطور منظومة الدين العمومي جنبا إلى جنب مع السياسات الضريبية جزء لا يتجزأ من تلك التحولات، ترافقت هاته التحولات مع عمليات التراكم البدائي لراسالمال الذي مهد الطريق لعصر الرأسمالية. إن الأساليب المختلفة للتراكم البدائي التي أحدثها العصر الرأسمالي قد نشأت لأول مرة، بتعاقب زمني، بين البرتغال وإسبانيا وهولندا وفرنسا وإنجلترا، ثم بشكل جماعي، في الثلث الأخير من القرن السابع عشر، احتضن (التراكم البدائي) في نفس الوقت النظام الاستعماري والدين العام والمالية الحديثة والنظام الحمائي.

نشأت الرأسمالية بداية بشكل عام على المزاحمة الحرة المرتكزة على أسواق وطنية محمية، مما مكن من تطور عدد من البلدان بشكل “طبيعي”، خاصة أوروبا الغربية وامريكا الشمالية واليابان التي تمثل آخر الدول التي استفادت من إمكانية التطور الرأسمالي، لكن انتقلت بشكل سريع خلال أقل من قرن إلى رأسمالية الاحتكارات، هذا الانتقال لعب فيه رأسالمال المالي الدور الأكبر والحاسم. كان نشوء المصارف كوكالات للائتمان والقرض مرتبطا أشد الارتباط (منذ بنك انكلترا نهاية القرن 17) بالتسليفات المقدمة للدول وبنشوء النظام المالي ومعه الدين العمومي. تمايزت المصارف الناشئة عن الدائنين السلبيين بخصلة أساسية متمثلة في سعيها الدائم إلى ضمان استرداد ديونها عبر التدخل، شيئا فشيئا، في اختيارات المدينين، سواء كانوا دولا او شركات، بالشكل الذي يضمن سياسات مالية وانتاجية في صالح عالم المال.

نظريا يعتبر الدين العام كنظام مالي يتم التفاوض على إدارته بين الدولة والهيئات الوسيطة والممولين والفئات الاجتماعية الأكثر نفوذاً. تعتمد نتائج هذا التفاوض على ميزان القوى بين الأطراف، كان ميزان القوى ذاك يميل أكثر فأكثر نحو القطاع المالي المتعاظم، الذي أصبح يدير فعليا الدول ويحدد سياساتها. مع انقطاعات دالة في فترات تاريخية معينة توارى فيها الرأسمال المالي إلى الوراء. كانت تلك الانقطاعات تمثل فترات الازمات الدورية للرأسمالية، والتي تزامنت في أغلبها مع أزمات الدين العام.

لم تكن قوة البنوك قائمة فقط على قروض للحكومات وخدمة الدين، ولكن أيضًا وأثناء مرحلة حاسمة (منذ عام 1850 تقريبًا في بريطانيا العظمى وضمن مجالها الإمبراطوري، والذي شمل قناة السويس، وحتى عام 1910 في ألمانيا والولايات المتحدة)، على إقراض الرأسماليين الصناعيين وتمويل الاستثمارات. اعتمد نموهم كذلك منتصف القرن التاسع عشر على مركزة المدخرات الصغيرة (مبالغ صغيرة، لا يمكن لها على حدة العمل كرأسمال نقدي، تم تجميعها لتصبح كتلا نقدية مهمة، ماركس، رأس المال، ص. 67).

العصر الامبريالي

فكرة الإمبريالية تُمَفهم نوعين من المسائل: من جهة، علاقات السيطرة الموجودة بين رأسماليي المركز وشعوب الأطراف، ومن جهة أخرى، العلاقات التي تسود بين القوى الإمبريالية الكبرى عند كل مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية.

كما سبق الحديث عنه آنفا، فهامش “التنمية السريعة” الذي سمح في القرن 19 لألمانيا واليابان بالوصول إلى وضعية قوى عظمى بحجم فرنسا وبريطانيا، اللتان سبقتاها لذات الوضع، هذا الهامش لم يعد متوفرا اليوم بالنسبة لمجموع الدول في الأطراف، إذ أن خريطة العالم المنمّطة على هذا النحو تتميز ب”هندسة ثابتة” في المركز وب”جغرافيا متحركة” للتخلف، والتغيرات الوحيدة الممكنة هي في الوضعية الطرفية لكل بلد تابع.

تعزو نظرية الإمبريالية هذا التباين إلى التحويل الممنهج للقيمة المحدثة في الأطراف لصالح رأسماليي المركز.

هنا التحويل يتم عبر تدهور حَدَّي المبادلات لغير صالح الأطراف. وبالتناقص التدريجي للعائدات المالية والأرباح الصناعية إلى حدود الصفر.

النتيجة السياسية لهذا التجفيف هي فقدان الاستقلالية السياسية للطبقات السائدة في الأطراف.

إن الآلية الأساسية التي أعاقت التنمية الرأسمالية المستقلة والسريعة في بلدان الاطراف كانت هي الاستعمار المباشر، وفي قلبه تحويل الثروات من الجنوب إلى الشمال عبر النهب المباشر، لكن تلك الآلية استمرت وتعمقت بعد الاستقلالات، وهنا لعبت المديونية العمومية ومعها اتفاقات التبادل غير المتكافئ الدور الاساسي.

هيمنة القطاع المالي ونظام المديونية أية علاقة؟

يحيل التمييل العالمي La financiarisation على المرحلة الحالية من الرأسمالية، والتي ابتدأت في سنوات السبعينات، والتي تقتضي نمطا من تراكم الموارد قائم على أساس سلطة القطاع المالي. في دراسة اكاديمية أنجزت سنة 2011 تم تسليط الضوء بشكل ملموس على تركز السلطة والملكية في أيدي بعض المؤسسات البنكية، فبين 43000 شركة الأكثر أهمية في العالم تبين وجود مليون خيط رابط بينها وان 147 شركة فقط تحوز نصف تلك الشركات 110 منها مؤسسات مالية. بمعنى أن القطاع البنكي عالميا ركز بين ايديه السلطة وأضحى المؤثر الأول في السياسات والقرارات الاستراتيجية الكبرى.

في الولايات المتحدة الاميريكية هيمن حزب “وول ستريت” على السياسات الحكومية في العقود الأربعة الأخيرة.

في أوروبا تهدد سلطة البنوك والتكنوقراط المرتبطين بهم الديموقراطية، ماكرون موظف لبنك روتشيلد، ماريو مونتي رئيس وزراء إيطاليا هو المستشار الدولي السابق لغولدمان ساتش، والحالة اليونانية هي الأكثر وضوحا، حيث انتصرت الترويكا على أصوات الناخبين في سنوات 2015 وما قبلها.

في بلدان افريقيا وأمريكا اللاتينية تحوز البنوك العالمية والمؤسسات المالية الدولية سلطة تحديد السياسات المتبعة وفرضها، كانت برامج التقويم الهيكلي مدخلا لوضع اليد على كل مقدرات البلدان وعلى توجيه مسارها التنموي نحو مزيد من الاندماج في منظومة المديونية. وكان فرض تبني استقلالية النظام المالي عبر استقلال البنوك المركزية واحدا من هاته الآليات.

من اين أتت كل هاته الديون؟

إذا كان تطور نظام مالي منفلت عن الرقابة، وله منطق قائم بشكل كلي على المضاربة، حتى أنه يسمى اقتصاد الكازينو، قد تم بشكل أساسي في اقتصادات بلدان المركز، فإن ربط اقتصادات البلدان في طريق النمو بهذا المنحى تم بشكل أساسي بعد الاستقلالات السياسية، وخصوصا بداية السبعينات، حيث تم تقديم قروض بشكل كبير للبلدان الافريقية والأمريكية اللاتينية والاسيوية ضمن استراتيجية لبلدان المركز استهدفت تحقيق هدفين أساسيين:

  •  أولا التخلص من فائض السيولة الذي توفر في البنوك نتيجة تضافر عوامل ثلاث: تطور كبير في الموجودات المالية مما عرف بالاورودولار منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، القرار الأحادي الذي قضى بوضع حد لثنائية الدولار/الذهب في 1971، والازمة النفطية التي نتج عنها الارتفاع الكبير في ثمن النفط مؤديا لسيولة كبيرة في البنوك مرتبطة بالبترول، البترودولار.
  • –          وثانيا دعم مخططاتها للخروج من أزمة الركود الطويل المنطلقة بداية السبعينات عبر دعم صادراتها من المواد المصنعة ومن وسائل الإنتاج.

في الثمانينات نتجت أزمة عقب الزيادة الأحادية في نسب الفائدة من قبل الاحتياط الفدرالي (الخاضع لمراقبة البنوك الخاصة) مما أدى لبرامج التقويم الهيكلي بالاقتطاعات من النفقات الاجتماعية ونشوء نمط ضريبي غير عادل. مما أدى للخضوع الاقتصادي المالي والتام للدول.

في سنوات التسعينات: سياسات الخوصصة وانفتاح مالي وتجاري، تحويل جزء من الدين الخارجي على داخلي وتزايد متسارع لها، استعمال المالية العمومية للإنقاذ البنكي، انهيارات للعملات الوطنية …

أدت جميع هاته الإجراءات إلى الاختلال المالي الذي تم دعمه بأصناف كثيرة من المنتوجات البنكية التي لا ترتكز على ضمانات مالية حقيقية، أصبحت صناعة القروض عبر “تخليق” النقود رياضة مفضلة لدى القطاع المالي.

أدى مجموع الاختلال المالي إلى أزمة الرهون العقارية، وانهيارات البنوك وإنقاذها عبر المالية العمومية، كانت مبالغ تلك الانقاذات تفوق ثمن كل المساكن الموجودة في العالم.

انوجدت حالة من الترابط الكامل بين النظام المصرفي المنظم (أكثر أو أقل) وتمويل الظل (الظل المصرفي  le shadow banking) راجعة إلى المرور السري من خارج الميزانية العمومية والمعاملات الثنائية خارج البورصة بين البنوك أو بين البنوك وصناديق الاستثمار لإنشاء شبكة كثيفة المعاملات غير المنظمة التي تحظر على السلطات تقييم مبالغ الديون الخاصة (التي تشمل الديون بين البنوك). الظل المصرفي هو التطور النهائي خارج الميزانية العمومية، والذي تسببت فيه الحكومات عن طريق طريق التحريرالمالية. مما أحدث وعمق الآليات التي جعلت المديونية تتولد ذاتيا انطلاقا من مديونية سابقة.

يمكن تلخيص الآليات المولدة للمديونية العمومية في التالي:

  • عروض قروض متتالية، وفق مصالح الدائنين المتمثلة في التخلص من سيولة نقدية فائضة، وحفز الواردات من سلعها.
  • تمويل أنظمة ديكتاتورية أو عمليات توطيد شرعية سياسية متآكلة (انتخابات – دعاية – الحاقات …)
  • ديون مشروطة (في الغالب ديون ثنائية يتم تقديمها لغرض محدد في شراء سلع محددة أو وسائل إنتاج (مصانع بكاملها أحيانا) من الدائنين.)
  • تحويلات متتالية للديون العمومية (أحد أهم هاته التحويلات تمت وفق مخططات إعادة جدولة الديون العمومية)
  • تمويل مشاريع كبرى عدد منها غير مجد (فيلة بيضاء).
  • دعم نظام ضريبي غير عادل، بشكل يزيد من تعميق خدمته للأغنياء.
  • قروض للاحتياط البنكي والمالي، تقدمها المؤسسات المالية الدولية للبلدان التي تطبق بشكل امين سياساتها المملاة على تلك البلدان في البداية، ثم المتبناة كعقائد لتلك البلدان تتبعها كمعايير اقتصادية، أي أن تلك البلدان تطبق السياسات التي تعجب المؤسسات المالية وتفرضها فرضا على شعوبها. 

لم يكن تحديد الآليات أعلاه صدفة أو عبر العمل المكتبي، بل كان نتيجة عمليات تدقيق في المديونية العمومية، عبر أشكال مختلفة: مواطنية ومؤسساتية. خلصت إلى تحديد الآليات اعلاه كأدوات أساسية أدت لوقوع الدول، خاصة في طريق النمو، تحت طائلة نظام المديونية. وقد تمكن تدقيقات اخرى من تحديد آليات اخرى لم يتم بعد استكشافها في التدقيقات السابقة.

إن إجراء تدقيق في المديونية العمومية سيمكن من اكتشاف وتحديد مواطن اختلال عديدة في تلك الديون، مما يجعلها كريهة أو غير شرعية أو غير محتملة، مما يوفر الآلية القانونية والسياسية لإلغائها. ذلك الإلغاء الذي هو شرط لازم، وإن كان غير كاف، لتحرير التنمية والتحرر من التبعية، وتوفير شروط الاستجابة لتلبية الحاجيات الاساسية للمواطنين.

يونس الحبوسي

عضو اطاك المغرب

النص أعلاه مداخلة في ندوة أطاك المغرب حول المديونية لمتابعة الندوة كاملة : اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى