الديون

مديونية دول العالم الثالث : السياق التاريخي والنظري

بقلم ميمون الرحماني

يمكن التمييز بين ثلاثة مراحل لتطور ديون العالم الثالث: 

I –الفترة الأولى: من 1944 إلى نهاية السبعينات:

هناك أربعة متدخلين في مجال الدين:

•       الأبناك الخاصة

•       دول الشمال

•       البنك العالمي

•       حكومات دول الجنوب

1 – الأبناك الخاصة

مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية مخطط مارشال (Plan Marshall) لإعادة إعمار أوربا التي دمرتها الحرب . مما سيمكن من تطور التجارة العالمية وتدفق الدولار عبر العالم.

لقد دأبت الولايات المتحدة، من خلال مخططها هذا، إلى تشجيع استثمارات الشركات الأمريكية بالخارج، تفاديا لارتفاع السيولة وما ينتج عنها من تضخم. هذا هو السبب الذي جعل الأبناك الغربية (أوربا) غارقة بالدولار خلال الستينات، وهو ما يعرف بالأورو دولار (Les Eurodollars)، هذه الأبناك ستمنح قروضا، وفق شروط مشجعة، لدول الجنوب التي كانت تسعى أنذاك لتمويل تنميتها.

2 –دول الشمال:

لقد أدت صدمة البترول لعام1973 إلى ارتفاع عائدات الدول المنتجة، مما حدا بها إلى وضع أموالها في الأبناك الغربية، هذه الأخيرة ستقترح هذه البترو دولارات (Les pétrodollars) على دول الجنوب بأسعار فائدة ضعيفة لتشجعيها على الاقتراض.

بالمقابل عرفت دول الشمال انكماشا اقتصاديا دفعها إلى توزيع القدرة الشرائية على دول الجنوب، في إطار سلفات بين الدول على شكل “قروض التصدير”، بحيث تكون دول الجنوب مضطرة لصرف هذه الأموال المقترضة في شراء منتوجات دول الشمال المانحة، وهو ما يعرف ب “الإعانات المشروطة” (Les aides liées).

3 –البنك العالمي:

كان البنك العالمي يحفز دول الجنوب على الاقتراض المتزايد من أجل تمويل عمليات تحديث آليات التصدير، ولكن أيضا من أجل ربط تلك الدول أكثر فأكثر بالسوق العالمي.

هذه الاقتراضات شكلت الجزء المتعدد الأطراف للديون الخارجية العمومية.

4 –حكومات دول الجنوب:

الحكومات والطبقات المهيمنة بدول الجنوب استغلت الفرصة قصد الإستغناء وتحويل الأموال المقترضة لحساباتها الخاصة باسم الدولة، مما أدى إلى استغناء عدة دكتاتوريات حاكمة، بدعم من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والأمثلة هنا كثيرة: بنوشي بالشيلي، موبوتو بالزايير، سوهارتو بأندونيسيا…إلخ.

إلى غاية نهاية السبعينات كانت دول الجنوب قادرة على تحمل المديونية اعتبارا لأن أسعار الفائدة كانت ضعيفة، فمكنتها بذلك القروض من رفع إنتاجاتها، والزيادة في حجم الصادرات قصد الحصول على مزيد من العملة الصعبة وبالتالي التمكن من تسديد الديون وفتح أوراش الاستثمارات.

إن المتدخلين الأربعة (الأبناك، دول الشمال، البنك العالمي وحكومات دول الجنوب) كانوا وراء الارتفاع الصاروخي للديون الخارجية لدول الجنوب، بحيث تضاعفت 12مرة ما بين 1968و1980 لتصل إلى ما يقارب 600 مليار دولار بعدما لم تكن تتعدى 50 مليار دولار.

II –أزمة المديونية:

ثلاثة عوامل كانت وراء أزمة المديونية:

1 –أزمة الرأسمالية:

مع مطلع السبعينات عرفت الرأسمالية أزمة تمثلت بالأساس في :

•       تراجع مردودية الرأسمال .

•       انهيار النظام النقدي الدولي عام1971، الذي كان قد بدأ عام1944.

•       انخفاض سعر الدولار، المتواجد بكثرة عبر العالم.

•       ارتفاع كبير لسعر البترول عام1973.

 

2 –الأزمة الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية:

مع نهاية سنة1979، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاربة التضخم المالي الذي أصابها، وإلى تأكيد زعامتها للعالم بعد توالي الفشل الذريع في فيتنام عام1975، وإيران ونيكاراغوا عام1979. فشرعت بذلك في منعطف فوق ليبرالي (Ultralibéral)، خاصة مع انتخاب رونالد ريغن رئيسا (الذي سيتبع نهج مارغريت تاتشر في بريطانيا).

وكنتيجة أولية لذلك، سيتخذ بول فولكر، مدير الخزينة الفدرالية الأمريكية، قرار الزيادة القوية في معدلات الفائدة الأمريكية قصد جذب الرساميل، وخفض التضخم وبالتالي إنعاش الاقتصاد الأمريكي.

وهكذا، وبين عشية وضحاها، أصبحت دول الجنوب مطالبة بسداد ثلاثة أضعاف ما كان عليها من دين.

3 –انخفاض أسعار صادرات دول الجنوب:

كانت دول الجنوب مجبرة على سداد ديونها، واعتبارا لكون القروض مسعرة بعملات قوية كالدولار، وجب على تلك الدول التزود بهذه العملات، فكان الحل الوحيد أمامها هو الزيادة في الإنتاج والرفع من حجم الصادرات قصد الحصول على العملة الصعبة. لكن ما وقع أن ارتفاع العرض قابله استقرار الطلب، مما أدى إلى تراجع أثمان المواد الأولية، التي كانت تشكل الدعامة الأساسية لاقتصاديات دول العالم الثالث. وبالتالي سقطت غالبية دول الجنوب في فخ الديون، وأعلنت عدم قدرتها على السداد. إنها أزمة الديون.

بالنسب للمغرب، أدى انخفاض سعر الفوسفاط عالميا وارتفاع أسعار البترول، وما ترتب عن ذلك من عجز في ميزان الأداءات، إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل مزيد من الاقتراض، ليرتفع بذلك الدين العمومي للمغرب بنسبة 10% عام1974، 15% عام1975 و30% عام1976. ويصل بذلك الدين الخارجي إلى 7,88مليار درهم (3,13 مليار دولار) عام 1976، من بينها 452 مليون درهم خاصة بسنة1976 لوحدها. وقد هم هذا الدين الخارجي الدولة (بنسبة كبيرة بلغت 63% عام1975) والمقاولات العمومية وشبه العمومية (المكتب الشريفي للفوسفاط، البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، الصندوق الوطني للقرض الفلاحي والمكتب الوطني للكهرباء).

III –تدبير أزمة الديون:

مع بداية عقد الثمانينات سيتدخل صندوق النقد الدولي (FMI) لتدبير أزمة الديون عن طريق “قروض الإنقاذ” وبشروطه القاسية، في إطار ما يعرف ببرامج التقويم الهيكلي (PAS)، التي كان من بين نتائجها الكارثية:

–        إلغاء إجراءات دعم المواد الأساسية .

–        تقليص المصاريف العمومية من أجل تحقيق توازن في ميزانية الدولة على حساب القطاعات الإجتماعية (تعليم، صحة، سكن، بنيات تحتية…) ناهيك عن تجميد الأجور، تسريح الموظفين…إلخ.

–        خفض العملة المحلية، مما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية وارتفاع الديون الخارجية !

–        رفع معدلات الفوائد لجلب الرساميل الأجنبية، على حساب الشركات والمقاولات المحلية التي ستتضرر.

–        الرفع من الصادرات (قصد أداء الديون) وفتح الأسواق المحلية وإلغاء الحواجز الجمركية.

–        تحرير الاقتصاد، وخاصة التراجع عن مراقبة حركة الرساميل وإلغاء مراقبة الصرف.

–        خوصصة جميع المرافق العمومية وتراجع الدولة عن التزاماتها.

–        سياسة الجبايات وما نتج عنها من تفاوتات اجتماعية…إلخ.

بعد فشل سياسات التقويم الهيكلي، وبضغط من الحركات الاحتجاجية العالمية، عبر أكبر عريضة في تاريخ البشرية (24مليون إمضاء)، سيعمد صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى “تقليص” ديون الدول الأكثر فقرا، في إطار مبادرة همت الدول الفقيرة الأكثر استدانة.

مبادرة الدول الفقيرة البالغة الاستدانة:[1]” PPTE”

أطلقت المبادرة بقرار من قمة مجموعة السبع الكبار (7G) في ليون Lyon عام1996، تم تعزيزها في قمة الدول السبع المصنعة بكولونيا سنة1999. وتهدف هذه المبادرة إلى تقليص ديون الدول الفقيرة الغارقة في الديون. لكنها لم تهم سوى 42 دولة من بين 165، بشروط قاسية تتطلب وقتا طويلا. وفي هذا السياق يمكن التمييز بين ثلاثة مراحل أساسية:

1 – التوقيع على اتفاق مع صندوق النقد الدولي لنهج سياسة مصادق عليها من طرف واشنطن لمدة 3 سنوات. تستند السياسة على صياغة وثيقة استراتيجية لتقليص الفقر (DSRP[2])، تظل مؤقتة في مرحلة أولى وتدقق فيها بالأساس:

–        تفاصيل عمليات الخوصصة.

–        إجراءات التفكيك الاقتصادي المتيحة لخلق موارد لسداد الديون أساسا.

–        كيفية استعمال الأموال، مصدر التقليص، سيما في محاربة الفقر.

 

2 – في مرحلة ثانية سيسعى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى التحقق مما إن كانت السياسة التي انتهجها البلد خلال الثلاث سنوات الأولى كافية لتمكينه من سداد ديونه. وكمعيار على ذلك يتم استعمال قسمة الديون على الصادرات.

إجمالا، إن كانت هذه النسبة تفوق 150% (الديون/ الصادرات< 150%) يعتبر البلد غير “مطاق” (insoutenable).

ويبلغ هذا البلد، بذلك، نقطة القرار – Point de décision- ويعلن قبوله في مبادرة الدول الفقيرة البالغة الاستدانة. ويستفيد من تقليص أولي قد يصل إلى 90% من سداد الدين، وليس من مخزون الدين.

3 –يواصل البلد، الذي تخطى المرحلة الثانية بنجاح (نقطة القرار)، نهج السياسات المملاة من قبل صندوق النقد الدولي، ويعد وثيقة استراتيجية لتقليص الفقر، تكون نهائية – DSRP définitif-. تتراوح هذه الفترة من 1إلى3 سنوات، يطالب البلد خلالها بتطبيق الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. بتعبير آخر يلتزم بتطبيق سياسات تعزيز التقويم الهيكلي !

أخيرا تأتي نقطة الإتمام – Point d’achèvement- يستفيد من خلالها البلد من تقليص طفيف لمخزون ديونه الخارجية.

للإشارة أنه، في يناير2004، من بين 42 دولة 27 بلد بلغ نقطة القرار و 9 دول فقط بلغت نقطة الإتمام. بخصوص التقليص المذكور، تم خلق صندوق خاص بالمبادرة، تسيره الجمعية الدولية للتنمية (AID)، التابعة لمجموعة البنك العالمي. هذا الصندوق ممول من طرف الدول الغنية والمؤسسات المتعددة الأطراف، والأموال التي يتم جمعها توضع في الأسواق المالية مشجعة بذلك المضاربات المالية !

إن سياسات التقويم الهيكلي التخريبية، وما تلاها من تقليص مزعوم لديون الدول الفقيرة لم تؤت أكلها، بل عملت فقط على تكريس الوضع المبني على الاستغلال والتبعية، ومن ثمة ضرورة التفكير في حل جذري وراديكالي لمعضلة الديون بدءً بالإلغاء التام واللامشروط لديون العالم الثالث.

________________________________________

[1] Pays Pauvres Très Endettés

 

[2] Document Stratégique de la Réduction de la Pauvreté

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى