الديون

حديثُ عن الثورة السورية

حديث عن الثورة السورية

 19/02/2012  بقلم:  رشيدة الشريف

 

مقدمة:

بعد تونس و مصر وليبيا و اليمن و صلت رياح التغيير إلى سوريا. إلا أنه بحكم الخصوصية التي تتمتع بها سوريا بسبب موقعها الاستراتجي و بِسبب ما شاع من أن النظام يتبنى المقاومة، عبرت الكثير من الدول في البداية عن دعمها لهذا النظام “المقاوم” باستثناء تركيا التي انتقدت في البداية النظام لكنها بدأت تتراجع مؤخرا  عن مواقفها. و حتى الشعب السوري الذي خرج محتجا إلى الشارع، لم يطالب في البداية بإسقاط النظام علما أنه قد شهد قبل خروجه سقوط نظامين من أعتا الأنظمة فسادا وهما التونسي والمصري. و كان الشعب في البداية قابلا بأن يقود رأس النظام الإصلاح.

لكن ما حصل في سوريا و ما يجري فيها جعلها تُشكل نموذجا مُختلفا. لقد أعاد الى أذهاننا سيناريو ليبيا لكن بطبعة أكثر دموية فالنظام تمادى كثيرا في قمعه للاحتجاجات السلمية. لكنها بدل أن تُخْمد انتشرت و امتدت و توسعت خريطة الاحتجاج مع مرور الوقت لتصل مؤخرا الى دمشق و حلب وهذا مُعطى مُشجع.         

وبحكم موقعها الاستراتيجي فقد أثارت الثورة السورية  اهتماما خاصا لدى كل من إيران و لبنان و هما من أخلص حلفاء النظام الذين عبروا  عن تضامنهم  مع سوريا واصفين الاحتجاجات بالفتنة الطائفية وبأنها مؤامرة خارجية تهدف إلى زعزعة استقرار سوريا التي تدعم المقاومة.

أنا شخصيا كنت من الذين يعتقدون بأن النظام السوري نظاما مُقاوما و ممانعا و بِأنه يُمثل درعا للصمود و قلعة المقاومة الباقية أمام الصهاينة لكنني اكتشفت أن الأمر لا يتعدى مُجرد خُطبا نارية و كلمات مُنتقاة كان يُرددها بشار الأسد في الجامعة العربية فكان يشُد الإنتباه و يُثير الإعجاب، و يُفرغ بكلماته المدروسة عن شُحُنات الشعوب التي أُعجبت به لأنها كانت تشعر بأنه يتحدث باسمها. لكن ثورة سوريا أثبتت أن دلك لم يكن سوى وهما. و هذا ما دفعني الى أن أكتب عن الثورة في سوريا خصوصا لما رأيت أن هنالك كثرين غيري كانوا يعيشون في هذا الوهم و بعضهم ما زال يعتقد بضرورة بقاء النظام السوري المُقاوم، و لقد خصصت عُنوانا كاملا: ” سوريا و علاقتها بالمُقاومة و بالمُمانعة” بَينْتُ فيه ما يدْحض هذا الطرح كما تطرقت الى موقف حزب الله الذي سقطت أُسطورته مع تورطه في نُصْرة أخيه في الطائفية حتى و إن كان ظالما مُتبعا النهج الذي كان سائدا في الجاهلية و المعروف ب: أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.

 

I-                خصوصية الحالة السورية   

  1. 1.   الطائفية في سوريا 

تعود جذور الطائفية في سوريا إلى يوم الاستعمار حيث سعى الانتداب الاستعماري الفرنسي إلى تقسيم سوريا إلى دويلات على أساس طائفي وجاءت الثورة السورية الكبرى كرد فعل ضد محاولة التقسيم، فكانت محاربة الاستعمار عاملا موحدا وجامعا لكل مكونات المجتمع السوري وبعد الاستقلال في 1946 تم التركيز على بناء الدولة على أسس مدنية باعتبارها الضامن لمشاركة وتمثيل جميع فئات الشعب وخصوصا المواطنين المنتمين لأقليات الدينية ولم تظهر بوادر فتنة طائفية إلا في زمن العقيد الشيشكلي. [1]

إلا أن غالب الحريات والديمقراطية والتفرد في الحكم أدى إلى ظهور فتن طائفية وتأزم الوضع بشكل كبير بعد مذبحة حماة في بداية الثمانينات لاستئصال حركة الأخوان المسلمين بعد تمردها.

   وتشير التقديرات الحالية لتوزّع الانتماءات الدينية في سوريا، رغم أنها غير رسمية، إلى نسبة للأغلبية السنّية تتراوح بين 60 و70% من عدد السّكان، منهم ما نسبته 10 إلى 15% من الأكراد، وتتوزّع النسب الأخرى كالتالي: 10 إلى 15% علويون وأقليات من الشيعة، 8 إلى 10% مسيحيون، إضافة إلى الدروز والإسماعيليّين  الذين يشكّلون ما يقارب 5% من عدد السكان. [2] 

يقول الدكتور محمد الشنقيطي في مقاله ” الحرية والطائفية في  سوريا في 18 أبريل 2011: تعاني كل المجتمعات البشرية من انقسامات أفقية كالفروق بين الأغنياء والفقراء، وأخرى عمودية كالانشقاقات الطائفية والدينية. فالتصدع الأفقي في المجتمع مُعين للثورة حافز عليها، بينما يعوق التصدع العمودي مساعي الثورات والتغيير.“. 

وهذا صحيح. في كل الدول التي قامت بها الثورات، كانت من بين أهم الأسباب، اتساع الهوة بين الطبقة التي تملك كل شيء وتستحوذ على أغلب الثورات والفئة الواسعة التي تفتقر إلى أدنى شروط الحياة الكريمة. فكانت هذه ” الفوارق الأفقية” كالشرارة في اندلاع هذه الثورات. في حين أن الدول التي تعرف تقسيمات على أساس طائفي، تصبح هذه” الفوارق العمودية” عائقا في وجه الثورة. فلِأن تونس تتشكل من  مجموعة سكانية منسجمة، لم تنحرف الثورة إلى صراعات طائفية أو عشائرية ، في مصر كانت تطرح من حين لأخر مسألة الطائفية بسبب تحريض بعض الأطراف، لكن إجمالا يمكن أن نقول بأن هناك التئام بين الأقباط والمسلمين، أما في سوريا فبسبب تعدد الهويات التي تشكلها والعلاقة المعقدة التي تربط بين الأقليات العلوية الحاكمة والأغلبية السنية المحكومة نجد أن النظام يوظف مسألة الطائفية حتى تحافظ على بقائه ويتجلى هذا التوظيف بشكل واضح  في خطابه الرسمي.

 “فقد تردد في خطاب الرئيس السوري بشار الأسد يوم 30/3/2011 الحديث عن “الفتنة” ثماني مرات، والوعد بـ”مكافحة الفتنة” و”درء الفتنة” و”ضرب الفتنة” و”وأد الفتنة”. كما تردد في الخطاب لفظ “المؤامرة” مفردا وجمعا سبع مرات، ولفظ “الدم” بالمفرد والجمع ست مرات. أما لفظ “الطائفة” ومشتقاتها فترددت سبع مرات في فقرة واحدة من الخطاب”. [3]

 وهذا التوظيف للطائفية معمول به ليس فقط عند الأنظمة ولكن الدول الغربية تلجأ لاستغلال هذه الورقة لتحقيق مصالحها والحفاظ على التوازنات التي تخدم أهدافها، بل إن جذور الطائفية تعود إلى أيام الاستعمار حيث عملت الدول الاستعمارية على إذكاء النزعة إلى التفرقة على أساس الدين والطائفية والمذهب مستخدمة في سبيل تحقيق ذلك كل الوسائل، في سبيل أن تسود لأنه كما يقال” فرق تسود”. لكن الغريب في الأمر هو أنه في هذه الدول يتعاملون بصرامة مع التحريض الطائفي ويحاكم المُتورط  بسببه بموجب القانون حتى لو تعلق الأمر بالصحفيين إذا تَبُتت عليهم التهمة. فيا لَلْمفارقة، التحريض الطائفي جناية عند الدول الديمقراطية لكن نفس الدول نجدها لا تتوان في إشعال نار الفتن بسبب التحريض الطائفي.

2-           سوريا وعلاقتها بالمقاومة والممانعة.

لطالما تبنى النظام السوري شعارات ومطالب المقاومة ووظف شعاراتها في خطابه السياسي لذلك لما وصلت رياح التغير إلى سوريا ارتفعت بعض الأصوات التي تؤيد النظام السوري بحجة أنه نظام يدعم المقاومة ويُحسب على محور الممانعة.

ما هي درجة تبني النظام للمقاومة؟

وما هو موقف حركات المقاومة سواء الفلسطينية أو اللبنانية بما يجري الآن في سوريا؟

مع اشتداد وطأة النظام بل وبطشه على الشعب السوري الذي خرج يطالب بالحرية وبوضع حد للقمع والاستبداد الذي ساد طيلة العقود الأربعة الأخيرة، اختارت حركة حماس أن تنحاز للشعب السوري لإدراكها أكثر من غيرها أن هذا الشعب هو الذي احتضنها وقدم لها كل ما يستطيعه من عون أكثر من النظام نفسه. بينما النظام كان يقوم بذلك من أجل حسابات سياسية. هناك فرق بين أن تقاوم من مُنْطلق المبدأ و الإيمان بالقضية العادلة كما هو الحال بالنسبة للشعب السوري، و بين أن تتبنى المقاومة كخطاب أو خدمة للحسابات السياسية وهي حسابات تتغير من حين لأخر، فالنظام يتعامل مع ورقة المقاومة كورقة تخدم مصالحه السياسة، هذه المصالح كانت نتيجة للموقعه الجغرافي بِحُكم موقع سوريا والصراع الفلسطيني الصهيوني فالنظام مجبر أن يتدخل حتى ولو لم يرغب: “مُجْبر أخاك لا بطل”، وبالتالي فالشعب السوري كان هو المحتضن الفعلي للمقاومة من النظام.

كشفت هذه الثورة الوهم الذي كان سائدا مِن أَن سوريا هي درع للصمود و قلعة المقاومة الباقية أمام الصهاينة. فإذا كان الأمر كذلك لماذا تتحدث كثير من الجرائد في إسرائيل و في انجلترا على سبيل المثال دي كرديان على أن اليهود قلقون و في هلع من سقوط نظام بشار الأسد. و إذا كان النظام السوري مقاوما و قلعة للصمود أمام الصهاينة، لماذا يُضربُ في عُقر داره أكثر من مرة من قِبل العدو الصهيوني و لم يُحرك ساكنا.

“ضرب الطيران اليهودي في عمق البلاد، على بُعد km22 من جنوب دمشق في عام 2003 و لم يتحرك النظام الذي هو قلعة للصمود كما كانوا يقولون. ضُرب موقع قيل إنه كان موقعا نوويا في 2007 في عمق الأراضي السورية من الطائرات العدو الصهيوني و لم يتحرك أحد. بل إن الجولان ما زال مُحتلا منذ 1967 ولم يتحرك أحد. فأين هذا الصمود وهذه المقاومة؟” [4] 

حاولت حماس حتى قبل أن تقترب رياح الربيع العربي من سوريا أن تنصح النظام بالقيام بالإصلاحات لكنه رفض لاعتقاده بأنه يشكل حالة خاصة لكونه نظاما مقاوما وممانعا، لكن حتى وإن سلمنا بأنه كذلك فهذا لا يشفع له قتل الآلف واعتقال عشرات الآلف والحكم بالنار والحديد. لذلك لا يملك كل من له ضمير حي إلا أن يتضامن مع هذا الشعب الذي يعاني القمع والقهر، ويقول ياسر زعاترة [5]: ” وجدت حماس نفسها أمام سؤال صعب عندما انفجرت الثورة في سوريا لكنها لم تتلكأ كثيراً عندما قالت للنظام بصراحة ووضوح أن تحالفنا هو ضد الكيان الصهيوني وليس ضد الشعب السوري، واختارت بسبب تشابك العلاقات مع النظام وبسبب وجود كوادره، عدد كبير من قادتها وكوادرها اختارت الحياد ولكن هذا الحياد فُهم من قبل الشعب السوري بوصفه انحيازا له وليس بوصفه انحيازا للنظام. مُجمل الخطاب ومُجمل الممارسة السياسية التي قدمتها حماس كانت تشي بانحياز لمطالب الشعب السوري كجزء من مطالب الحرية التي سادت الشوارع العربية “.

لكن النظام لا يرضى بهذا الحياد من طرف حماس وخصوصا إذا كان يُفهم على أنه انحياز إلى الشعب وبدا الحديث مؤخرا عن إمكانية مغادرة حماس لدمشق، وفي هذه الصدد يضيف ياسر زعاترة : ” أنا في تقديري بان الحركة ذاهبة باتجاه إنهاء العلاقة ربما بشكل كامل مع النظام السوري هي بالتأكيد بدأت تخرج وتخفف ارتباطاتها بالوضع الداخلي السوري لأن هناك ضغوط بالتأكيد هناك ضغوط من طرف النظام السوري ومن طرف إيران من أجل تأخذ حماس موقفاً مختلفاً هم يعتقدون أن هذا الموقف من طرف حماس بالغ الأهمية لإسناد للنظام السوري بينما حماس تدرك بأنها لا تستطيع أن تقدم هذا الاستحقاق لأنها ببساطة ستخسر كل الفضاء العربي تحديدا السني كما خسره حزب الله لا يمكن أن تغامر بفضائها العربي والإسلامي الذي قدم لها كل المساندة والاحتضان من أجل أن تبقي على نظام منهار وواضح أنه سينهار، هذه مسألة بالغة الوضوح”

 أما موقف حزب الله فيما يجري حاليا هو موقف مُغاير تماما لحركة حماس. ولقد انتقدت كل أطياف المعارضة السورية دعم ودفاع حزب الله عن النظام السوري. ويمكن تفسير موقف حزب الله بكون أن سوريا تمثل الجسر الذي يربط ايران بحزب الله، فهي الرئة التي  يتنفس بها حزب الله، وبالتالي توقف علاقته بسوريا يعني حرمانه من الإمدادات العسكرية والمادية التي يستفيد منها من إيران. لكن لو أن حزب الله نظر حقيقة إلى الأمور على المدى المتوسط أو البعيد لما اتخذ مثل هذا الموقف. إذا كنا لا نُشكك في مصداقية الشعب السوري فيما يخص تبنيه للمقاومة فإن سوريا ما بعد بشار الأسد ستكون أكثر مقاومة وأكثر ممانعة من نظام بشار الأسد ولن تشكل عائقا لحزب الله في تصديه  للكيان الصهيوني ما دام هدفهما واحد.

لكن إذا ظل حزب الله في دعمه للنظام الطاغية فإنه بالتأكيد سيخسر على المدى المتوسط مع سقوط هذا النظام. ولقد بدأت تتراجع شعبيته التي اكتسبها  مع ما حققه من انجازات و انتصارات وخاصة في عام 2006 ، سيخسر كل هذا بسبب حسابات مذهبية. فهو كان يندد ويحتج على بعضة أفراد سقطوا في البحرين بينما سكت عن الآف قتلوا في سوريا.

 

II-              تطور الوضع في سوريا

1- حركة احتجاجية تطالب بالتغيير 

بعد سقوط نظامين من أعتى الأنظمة في تونس ومصر واندلاع الثورات في كل من ليبيا واليمن وجاء دور سوريا لتأخذ قاطرة التغيير وتطالب بدورها بالحرية والكرامة بدأت  حركة الاحتجاج بسوريا في 15 مارس 2011 بعد الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في مدينتي درعا “على خلفية اعتقال قوات الأمن  السورية 15 صبيا بمدينة درعا في 6 آذار/ مارس ، ولم تكن أعمارهم تتجاوز 14 عاما؛ لأنهم كتبوا شعاراتٍ على الجدران كتلك التي رفعتها الثورة المصرية بعد 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، مثل: “الشعب يريد إسقاط النظام”. وجاءت الاحتجاجات ردّ فعل لتعامل رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب والمحافظ فيصل كلثوم المهين مع وفد العشائر والأعيان الذي حاول التوسّط لإطلاق سراح الصبية”. [6]

اعتقال الصبية وطرد الأعيان والشيوخ الذين حاولوا التوسط يصور بوضوح مدى تعنت السلطات المدنية و المحلية وتجبرها ولم يقتصر رد الفعل الأمني على ذلك بل استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي في تفريق المتظاهرين مما أذى إلى استشهاد عدد من المواطنين فكانت الشرارة التي أدت إلى  اندلاع حركة احتجاجية شعبية. واجهها النظام بقسوة من دون أن يستفيد من النموذج الليبي الذي أَظهر بأن قمع المظاهرات والاحتجاجات لا يزيدها إلا اشتعالا عوض إخمادها. و لقد بينت أحداث الجمعة 15 و 22 أبريل أن النظام مصر على الخيار الأمني في قمع الاحتجاجات السلمية.

توسعت الحركة الاحتجاجية وامتدت إلى مناطق عديدة في ريف دمشق وحمص واللاذقية وحماة فكما حصل في تونس بدأت كرد فعل على حالة الظلم السياسي والاجتماعي ( في تونس الاعتداء على شاب يصر أن يكسب قوته   وفي سوريا اعتقال الصبية) ليتطور إلى انتفاضة شعبية تطالب بالحرية والإصلاح.

كما يمكن أن نسجل عوامل مشتركة أخرى مع الثورة التونسية:

– سيطرة حزب واحد على الحكم

– التفاوت الكبير في مستويات التنمية والتقدم بين المدن والولايات

– انتشار الفساد

– بوليسية الدولة وتغول الأجهزة الأمنية

– انسداد الأفق أمام الشباب

– غياب الديمقراطية والتضييق على الحريات العامة

– التوغل الأمني في تفاصيل حياة المواطن.

لقد أُعطي النظام أكثر من فرصة ليقوم بالإصلاح لكنه فوتها ولم يستجيب مع نداء الإصلاح. لما تولى بشار الأسد الحكم، وعد بالقيام بإصلاحات وبالتغيير. فقبل هذا “الربيع العربي” كان هناك ربيعا أخر في سوريا سُمي “ربيع دمشق”. بدأ “ربيع دمشق” في 17/07/2000 مع خطاب القسم الرئاسي الذي كان واعدا و استبشر الناس به خيرا ، لكنه استمر فترة قصيرة وانتهى في 17/01/2001 مع تجميد قوات الأمن السورية لنشاط المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية التي برزت في الساحة السورية. 

عاشت سوريا في أشهر الربيع مرحلة غير مسبوقة من النقاشات السياسية والاجتماعية التي تناولت أبرز القضايا التي تؤرّق المواطن السوري وهي:

  • حالة الطوارئ التي تم فرضها في سنة 1963 بعد تولي حزب البعث السلطة في الثامن من آذار، والتفرد الذي أنتجه بإقصاء مختلف القوى الفاعلة على الساحة السورية.
  • المادة 8 من الدستور السوري الدائم لعام 1963، والتي كرست دستوريا مبدأ “الحزب القائد” الذي يقود جبهة تقدمية يوجهها حزب البعث وتدور في فلكه.
  • غياب الديمقراطية والحريات العامة، والتوغل الأمني في تفاصيل حياة المواطن السوري.
  • غياب قانون أحزاب عصري ينظم الحراك الحزبي في سوريا. يترافق مع غياب قانون للانتخابات التشريعية واستمرار مبدأ “الكوتا” التي تضمن وصول ما يقارب ثلث أعضاء مجلس الشعب من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية.
  • غياب انتخابات رئاسية تعددية، والاقتصار على مبدأ “الاستفتاء” على الرئيس في شكل تصديق انتخابي. ويضمن عدم وجود مرشحين آخرين إلى جانب المرشح الذي تقترحه القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي.  [7]

رأى كثيرون في  ” ربيع دمشق” فرصة للتغير الديمقراطي لكن سرعان ما تبين بأنه لم يكن سوي خدعة لتمرير التوريت. و لضمان قبول الابن كرئيس بدل الأب الرئيس، وبعد ذلك بدأ الرئيس في انتقاد المنتديات وتسخير كل السلطات التي يتمتع بها لقطع الطريق على أي بيانات سياسية تأمل في التغيير الديمقراطي، وفي منتصف مارس 2001 قال بشار الأسد خلال مناورات عسكرية للجيش السوري: “في سوريا أسس لا يمكن المساس بها، قوامها مصالح الشعب وأهدافه الوطنية والقومية والوحدة الوطنية، ونهج القائد الخالد الأسد والقوات المسلحة”. من ثمّ جاء تصريح وزير الدفاع السابق منتصف أبريل/ نيسان 2001 بالقول: “إننا أصحاب حق ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها. لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة”.

ولم يقتصر الأمر على التصريحات المضادة بل تعداه إلى الفعل الممنهج استهدف كل من خولت له نفسه أن يعارض النظام الخالد و الرئيس الخالد، فتم تعليق المنتديات، فمن بين 70 منتدى كان موجودا سمح لأثنين منها فقط للاستمرار وتم التضييق على الحريات العامة واعتقال العديد من نشطاء المجتمع المدني ومن المثقفين والسياسيين كما أضطر العديد إلى الفرار من سوريا وطلب اللجوء خارجا ودُفن “ربيع دمشق”.

ومع الصحوة التي عرفتها البلاد العربية مؤخرا وصلت إلى سوريا رياح ” الربيع العربي” وخرج الشعب مرة أخرى يطالب بالتغيير الإصلاح، وكان مستعدا في البداية بان يقوم النظام بالإصلاح بالرغم من إخلاله بالإصلاحات التي وعد بها سابقا بحكم موقفه من المقاومة، و بالرغم من أن موقفه هذا يدخل ضمن حسابات سياسية فإن ذلك شفع له عند هذا الشعب الذي يُجل المقاومة. لكنه ضيع عليه الفرصة مرة أخرى وظل بشار في مربعه ولم يقدم أي خطوات واعدة وظل يردد بأن ما يجري هو مؤامرة خارجية. معقول هذا الكلام.

كما لم يدخر جهدا في سبيل قمع الاحتجاجات فسقط الآلف الشهداء إضافة إلى الجرحى واعتقال عشرات آلاف وتعرضهم للتعذيب ولممارسات حاطة بالكرامة على يد نظام سيئ السمعة في التعذيب و مشهود له دوليا في هذا المجال.  كل هذا العنف وهذا التجبر في سبيل تركيع وإرهاب شعب طالب بالحرية والتغيير.

لم يعد يُسأل: هل قتل أحد اليوم في سوريا؟ بل أصبح السؤال اليومي هو كم عدد القتلى؟ فمتى سيتوقف هذا القتل؟ فإلى حدود كتابة هذه السطور، تجاوز عدد القتلى 6000 و ما زال العدد في تصاعد.

تنطبق على سوريا مقولة هذا الشبل من ذلك الأسد فوالد هذا الرئيس له سجل غير مشرف ولا يقل دموية ابنه. كثيرون علقوا على ثورة ليبيا بأن حالة القدافي فريدة وبأنه يشكل استثناءا. ظهر مع الحالة السورية بأنه لا يشكل استثناءا، فحافظ الأسد وابنه يضاهيانه تماما، قتل حافظ الأسد في يوم واحد نحو 1000 من السجناء العزل في سجن تدمر شمال شرق دمشق مطلع الثمانينات وقتل القدافي نحو 1200 سجين أعزل في سجن بوسليم منتصف التسعينات فبماذا يمكن التعليق على هذه الأرقام؟ هذا ليس كل شيء، مازال في الجعبة الكثير ليُقال، هناك انجاز أخر لحافظ الأسد مازال في ذاكرة السوريين حتى بعد مرور 30 سنة على مدبحة حماة ما زال العالم يتذكر الطريقة الوحشية التي تمت بها مذبحة حماة في عام 1982 حيث “قدر عدد الضحايا ما بين 30 إلى 40 ألفاً بينهم نساء وأطفال ومسنون، إضافة إلى 15 ألف مفقود لم يتم العثور على آثارهم منذ ذلك الحين، واضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعدما تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً، وتعرضت أحياء أخرى لتدمير واسع، إلى جانب إزالة عشرات المساجد والكنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي”. [8]

 

2-المعارضة السورية أمام تحدي إسقاط النظام 

دموية النظام فاقت كل تصور تصرف تجاه شعبه بكل قسوة وعنف إلى أن وصل الوضع إلى نقطة اللاعودة وأصبح المطلب هو إسقاط النظام فما كان على المعارضة إلا أن توحد صفوفها لتشكل جبهة موحدة تكون صوتا للشعب السوري المستمر في صموده رغم البطش والتقتيل.

فانعقد مؤتمر أنطاليا في تركيا، 10 أسابيع بعد اندلاع الثورة والذي شكل فرصة لالتقاء المعارضين السوريين من مختلف التوجهات السياسية والفكرية : (الأحزاب السياسية القومية والإسلامية والناصرية والشيوعية و الليبرالية) وكان الهدف من هذا المؤتمر هو تكثيف كل الجهود لتقديم الدعم اللازم للثورة السورية والتنسيق بين مختلف الأطراف التي تشكل المعارضة قصد إسقاط النظام. كما أعلن في هذه الفترة أيضا عن إنشاء اتحاد تنسيقيات ويضم هذا الاتحاد ممثلين عن تنسيقيات في عدد من المدن والأرياف وتتمثل مهمة هذا الاتحاد في تمثيل الحراك المدني سياسيا و إعلاميا وتنسق وتنفيذ العمل ميدانيا بالإضافة طبعا إلى تشكيل قاعدة لمجلس من شباب و ناشطي الثورة لحماية أهداف وضمان تحقيقها بشكل كامل.

أعلن بشار ساعات قبل انعقاد المؤتمر بالعفو يشمل الجرائم التي ارتكبت حتى تاريخ صدور العفو في 31 من شهر ماي كما قرر عن تشكيل هيئة من أجل حوار وطني إلا أن هذه الخطوات رغم أنها تبدو إيجابية فإنها أتت متأخرة في رأي الشعب السوري وكذا في نظر المعارضة. فالشعب السوري خرج في مظاهرات يطالب بإسقاط النظام كما أنه لم يستسغ فكرة العفو هاته وكأن النظام هو الضحية والشعب هو القاتل المذنب فيجئ بشار الأسد ويعفو. من يعفو على من؟ صحيح، إذا لم تستحيي فافعل ما شئت.

صرحت فعاليات عديدة تمثل تيارات مختلفة بأن الدعوة للحوار هي مجرد كلام للاستهلاك خصوصا بعد أن تعمقت الفجوة بين النظام والشعب وأصبح يسود جو من عدم التفاهم.

يقول محمد رياض الشفقة [9] المراقب العام لأخوان المسلمين: ” قرار العفو هذا نوع من الخداع الحقيقة، قرار عفو وبقي القانون 49، يعني ممكن أن يفرج اليوم عن أحد الأخوان المسلمين ويعتقله غداً بتهمة الأخوان المسلمين، هذه لم تعد تنطلي على أحد، هذا النظام فقد الشعب السوري كله، الشباب السوري فقد الثقة في هذا النظام إلى الآن ليس هناك خطوات جديّة، ألغى قانون الطوارئ وأنزل الدبابات إلى الشارع، يتكلّم اليوم عن حوار وطني ويعلن أن المادة الثامنة من الدستور يجب أن تبقى، يعني البعث يجب أن يبقى وصياً على الشعب السوري، كما قال بشار الأسد أن الشعب السوري لم يبلغ مرحلة يستحق فيها الديمقراطية، يعني الشعب السوري قاصر وحزب البعث وضع نفسه وصياً على هذا الشعب”.

 مع استمرار مسلسل التقتيل واصلت المعارضة السورية تنسيقاتها وتحركاتها. فأُعْلِن في 2 أكتوبر2011 في اسطنبول عن تشكيل المجلس الوطني السوري يضم كل التيارات السياسية للعمل سوية من أجل دعم الثورة السورية. كما تم تشكيل الجيش السوري الحر في 23 يونيو 2011، بعد الانشقاقات التي حصلت في صفوف الجيش ولقد سُميت جمعة 14 أكتوبر 2011 بجمعة أحرار الجيش عرفانا بالجهود التي يقوم بها.

أصبح الوضع في سوريا يشوبه الكثير من التعقيد فأصبحت الثورة السورية تُنعت بالأزمة السورية لما عرفته من تعقيدات زاد من وطئتها تعدد المعارضة واختلافها على قضايا عديدة.

من القضايا المختلف عليها وخصوصا بين المركبين الرئيسيين في المعارضة المجلس الوطني السوري والهيئة التنسيق الوطني:

–          حول مسألة تدويل الأزمة السورية: المجلس الوطني السوري هو مع التدخل الأجنبي و الإعتماد على قوة خارجية من أجل وضع حد للعنف و التقتيل  . بينما ترفض هيئة التنسيق الوطني فكرة التدخل الأجنبي من أجل إعطاء فرصة للمبادرة العربية لأنه لا أمل في موافقة مجلس الأمن بسبب الفيتو السوري.    

–          الموقف من الجيش الحر:  المجلس الوطني يرى أنه هذا تطور طبيعي للعنف الذي يستخدم ضد المدنيين وأنه لا نستطيع إدانة فصيل من الجيش قرر أن يحمل السلاح ويرفعه في وجه النظام، هيئة التنسيق في المقابل تعتبر إنه انسلاخ مجموعة من الجيش  من شأنه تفتيت كيان الجيش الذي هو جيش ملك الدولة وليس بأي حال تابع للنظام حتى وإن كان يستخدم في هذه اللحظة في مواجهة المواطنين. [10]

فطرح الملف السوري أولا على الجامعة العربية التي لعبت دورا بارزا في هذا الملف. تضمنت هذه المبادرة 4 بنود

1-    سحب الجيش والقوات المسلحة والأمن و الشبيحة.

2-    الإفراج عن المعتقلين وعددهم فاق 35 ألاف معتقل.

3-    السماح بالتظاهر السلمي.

4-    إرسال مراقبين عرب إلى سوريا للتحقق من مدى التزام السلطات السورية بالمبادرة العربية.

 

تعرضت بِعْثة المُراقبين العرب منذ أن بدأت مهمتها في سوريا لموجة لانتقادات تتعلق بتشكيلتها أو بسبب طريقة عملها من قبل المعارضة السورية و خصوصا من طرف المجلس الوطني السوري الذي طالب الجامعة العربية بِنقل الملف السوري الى المجلس الأمن للحصول على إدانة دولية للقمع في سوريا و فرض حظر على الطيران. هكذا تم تحويل الملف السوري الى مجلس الأمن أمام انسداد الأفق و استمرار العنف حتى في وجود المراقبين. لكن للمرة الثانية خلال أربعة أشهر تُصوت روسيا و الصين ضد قرار يُدين القمع في سوريا و يدعم المُبادرة السياسية للجامعة العربية لحل الأزمة السورية.

يبدو أن منطق المصالح هو أقوى من أي منطق. فما الذي يجعل روسيا مثلا تختار نقض قرار يُدين القتل؟ إنها المصالح. روسيا والصين تريان في النظام السوري سوقا مهما لمنتجاتها. فروسيا تُزود سوريا بالأسلحة، فسوريا زبون مهم و لا يُمكن التفريط به بسهولة كما أنها آخر قاعدة لروسيا في الشرق الأوسط. و بالتالي فالنظام الروسي يرى في كل تغيير حقيقي يمس سوريا هو تهديد لمصالحها ولذلك تساند النظام وتدعمه في أزمته التي يعيشها.

خاتمة

إدا الشعب أراد الحياة           فلا بد أن يستجيب القدر

و لا بد لليل أن ينجلي           و لا بد للقيد أن ينكسر [11]

لما اندلعت الثورة السورية في 15 مارس من العام الماضي، كان واضحا أن الشعب قرر أن يكسر القيد و بأنه قد حان الأوان لكي ينجلي الظلم لأن الشعب السوري يُريد حياة كريمة و خرج يُطالب بالحرية و الإنعتاق من القهر و الاستبداد  و البطش بالرغم من ما يُكلف دلك من ثمن لأن التغيرات الكبرى  التي عرفها العالم في العام الماضي و الذي يمكن اعتباره عام الثورات بامتياز كان من نتائجها أنِ استعاد الإنسان العربي ثقته بنفسه و في قدرته على التغيير كما نجح في قتل الخوف الذي سيطر عليه طيلة عقود . 

——————————————————– 

[1]  ـ عندما قام أديب الشيشكلي في أوائل الخمسينات بضرب الدروز في جبل العرب واتباع سياسات قمعية ضد العلويين في الساحل

[2]– الخاص و العام في الإنتفاضة الشعبية السورية الراهنة\ : حصيلة تفاكر و نقاش جماعي لباحثي المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات / أبريل 2011. لا يوجد في سوريا إحصاء رسمي على أساس الانتماء الديني إلا إحصاء عام 1985 على الشكل الآتي: 76.1 % مسلمون سنة، 11,5 % مسلمون علويون، 3% دروز، 1% إسماعيليون، 8 % مسيحيون.

[3] – الدكتور محمد الشنقيطي في مقاله ” الحرية والطائفية في  سوريا “. 18 أبريل 2011.

[4] –  الدكتور راغب السرجاني في خطبة الجمعة: ” لبيك سوريا ” . 

[5] – ياسر زعاترة/ كاتب ومحلل سياسي فلسطيني في حديث الثورة لقناة الجزيرة: سوريا وحركات المقاومة،  تاريخ الحلقة:  19/1/2012

[6]- [7] – الخاص و العام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة  : حصيلة تفاكر و نقاش جماعي لباحثي المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات / أبريل 2011.

[8]- الدكتور محمد الشنقيطي في مقاله ” سوريا و مآلات الدولة الستالينية “. الأرقام حسب نص تقرير للجنة السورية لحقوق الإنسان.

[9] – محمد رياض الشقفة /المراقب العام للإخوان المسلمين في برنامج حدث الثورة لقناة الجزيرة: تطور الوضع في سوريا بتاريخ: 1/6/2011 

[10] – نيفين مسعد/ أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة في برنامج في العمق لقناة الجزيرة: مستقبل الثورة السورية    تاريخ الحلقة 9/1/2012

[11]- الشاعر التونسي أبو قاسم الشابي

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى