الديون

الميزانية العامة للدولة وثقل المديونية

الميزانية العامة للدولة وثقل المديونية

ميمون الرحماني

 

قانون المالية هو الأداة التي من خلالها يتم تمرير المخططات الليبرالية كما تمليها المؤسسات المالية والتجارية الدولية. وبواسطته تترجم الدولة خياراتها السياسية والاقتصادية والمالية، وفق منطق الانفتاح الأعمى على السوق العالمية في ظل العولمة الرأسمالية وفي سياق ما تروج له الإيديولوجية النيوليبرالية من فتح السوق المحلي أمام الرساميل الأجنبية، إلغاء الحواجز الجمركية وإلغاء كل القوانين التي “تعرقل” التجارة العالمية، تحرير الخدمات العمومية وخوصصة كل المؤسسات والمقاولات العمومية وما إلى ذلك من تحفيزات جبائية وإعفاءات ضريبية لفائدة الرأسمالية المحلية والأجنبية. وبالتالي تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي عن طريق التقليص التدريجي للنفقات العمومية من أجل سداد الديون التي أصبحت تمتص جزءا هاما من ميزانية الدولة.

فقانون المالية، كما يدل على ذلك اسمه، هو أولا عبارة عن مجموعة من الإجراءات أو المقتضيات القانونية. وهو أيضا عبارة عن معطيات حسابية في شكل بيانات تفصل بين الموارد، من جهة، ونفقات التسيير والاستثمار للميزانية العامة للدولة وميزانيات مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة والحسابات الخصوصية للخزينة، من جهة أخرى. مما يمكن من تحديد حجم وطبيعة التوازن المالي (نسبة العجز). وهذه النقطة بالذات (التوازن المالي أو ما يفضل البعض تسميته بالتوازن الماكرو اقتصادي) تشكل الهاجس الأساسي لدى واضعي هذه القوانين، وبخاصة وزراء الاقتصاد والمالية المتعاقبين على الحكم بالمغرب منذ فجر “الاستقلال” إلى يومنا هذا. فما يهم “صانعي القرار” الاقتصادي والمالي بالمغرب (ولو أن ذلك يملى عليهم من الداخل والخارج) هو الحفاظ على نوع من التوازن المالي )كما تنص على ذلك المادة الأولى من القانون التنظيمي للمالية) دون التفكير في الاستجابة للحاجيات الاجتماعية والأساسية للمواطنين.

العجز في الميزانية العامة 

منذ عدة سنوات والدولة المغربية تعتمد على العجز المالي لتدبير ميزانيتها بحيث بلغ هذا العجز6,1   % من الناتج الداخلي الخام في 2011 (7% من دون احتساب مداخيل الخوصصة)، ومن المتوقع أن يصل في 2012 إلى 75 مليار درهم (ما بين 8 و 9% من الناتج الداخلي الخام) بعدما لم يكن يتعدى 15,9 مليار درهم في 2009 كما يتضح ذلك من خلال البيان التالي.

 

بنية الميزانية العامة للدولة

بمليار  درهم

2007

2008 

2009 

2010

2011

2012 (توقعات)

الموارد

167,9

203,2

189,1

193,8

191,0

193

التكاليف

168,9

200,5

215,5

227,5

249,6

268

 رصيد الحسابات الخصوصية

-8,7

-6,5

+10,5

-1,5

+2,5

العجز

15,4

+2,7

15,9

35,2

58,6

75

                                                                                   المصدر: تقارير بنك المغرب

تعتمد الدولة إذن على العجز في الميزانية لتمويل المشاريع الكبرى التي تتطلب إمكانيات مالية هائلة، وهذه من بين السياسات الاقتصادية التي جاء بها الاقتصادي الإنجليزي ج م كينز والتي أدت إلى ارتفاع حجم مديونية الدول النامية التي اتبعتها. فهذا العجز الكبير في الميزانية، الناتج عن اختلالات هيكلية داخلية وسياسات اقتصادية ليبرالية هو الذي كان وراء الارتفاع المهول للدين الداخلي والخارجي للمغرب.

حسب كينز إن ارتفاع الطلب، مع توفر القدرة الشرائية، يؤدي إلى إنعاش اقتصادي طالما توفرت موارد (آليات، يد عاملة…) غير مستعملة وإلا سيكون الاقتصاد عرضة للتضخم المالي. ولكي لا يؤدي العجز في الميزانية إلى حدوث تضخم مالي كبير يجب الرفع من الضرائب المباشرة بنفس وثيرة الزيادة في الدخول. غير أن البرجوازية المحلية تتملص من أداء الضرائب وتفضل استثمار ما لديها من أموال وما حققت من أرباح في الديون الداخلية عن طريق شراء سندات الخزينة المربحة التي تصدرها الدولة. وبالتالي فإن العجز في الميزانية يكون دائما مصحوبا بتطور الديون العمومية وارتفاع حجمها.

الديون في قانون المالية: تسديد الديون كأداة لتحويل الثروة الوطنية إلى الرأسمال الأجنبي والمحلي

يعتبر تسديد الديون أداة رئيسية لفرض برامج تقشفية تعمق تدهور الوضع المعيشي للفئات الشعبية.  وتستخدم كأداة لتحويل جزء من الثروة المحلية إلى الرأسمال الأجنبي والمحلي. فخدمة الدين (فوائد + حصة الدين الأصلي) تمتص سنويا حوالي 94 مليار درهم كمعدل لثماني سنوات الأخيرة (ما بين 2004 و 2011)، منها 18,5 مليار درهم مخصصة للدين الخارجي و أكثر من 75 مليار درهم  للدين الداخلي. وقد سدد المغرب بين 1983 و 2011 إلى الخارج ما يفوق 115 مليار دولار، أي ما يعادل 8 مرات دينه الأصلي، ومازال بذمته حوالي 22 مليار دولار حاليا.

 

جدول مجموع نفقات خدمة الدين (فوائد+ حصة الرأسمال الأصل)

(مليار درهم)

السنة

2004

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011 

نفقات الدين الداخلي

84.3

64.7

52.7

63.8

74.7

85.6

101.8

73,9

نفقات الدين الخارجي

22.8

21.2

18.6

19.9

18.6

14.2

15.4   

17,5

مجموع نفقات الدين

107.1

85.9

71.3

83.7

93.3

99.8

117.2

91,4

 

 

                                     تطور خدمات الدين (2004-2010)

 

هذا وسدد المغرب في 2011 ما يفوق 91 مليار درهم كخدمات الدين في الوقت الذي لم تكن تتعدى التوقعات 36.5 مليار درهم. ومن المتوقع، حسب قانون المالية 2012، ألا تتعدى خدمات الدين هذا العام 42.7 مليار درهم (بزيادة فاقت ب17% ما كان متوقعا في السنة الماضية). لقد دأب وزير المالية على تسديد أكثر مما يرخص له به البرلمان، ففي 2010 مثلا بينما لم يتعد الترخيص في قانون المالية 38.2 مليار درهم سددت وزارة المالية عند نهاية السنة ما يفوق 117 مليار درهم !

التدبير النشيط للمديونية الخارجية

شرع المغرب في تطبيق سياسة التدبير النشيط للديون منذ 1996 في ما يخص الديون العمومية الخارجية، وشملت الديون العمومية الداخلية في 2007. تهدف هذه السياسة، من جهة، إلى تحويل الدين إلى استثمار (مع نادي باريس) من خلال استثمارات عمومية تهم جزء من الدين ومشاريع متفق عليها واستثمارات خاصة وذلك بتمويل مشاريع خاصة بشروط تفضيلية وهو ما ينتج عنه سيطرة الرأسمال الأجنبي على قطاعات استراتيجية. ومن جهة أخرى إعادة تمويل الدين عبر تسديد الديون ذات سعر فائدة مرتفع قبل أن يحين أجل سدادها واستبدالها بديون جديدة بسعر فائدة أقل. ثم إعادة التفاوض بشأن اتفاقيات القروض الموقعة مع بعض الدائنين بهدف تقليص نسبة الفائدة الأصلية إلى مستويات تتلاءم مع نسب الفائدة المعمول بها عل الصعيد الدولي. وأخيرا عبر ميكانيزم تحسين بنية الدين العمومي من العملة الصعبة، خاصة تلك التي تم اقتراضها بالدولار الأمريكي والين الياباني لجعلها تتلاءم مع السلة المرجعية للدرهم.

وفي 2010 اقترض المغرب 1 مليار أورو من السوق المالي العالمي بهدف تمويل جزء من عجز الميزانية وذلك في إطار إستراتيجية جديدة لتمويل الخزينة تعتمد على الرجوع إلى التمويل الخارجي ببيع سندات الخزينة في السوق المالي الدولي بدل الاقتصار على بيعها داخليا. هذه الإستراتيجية إن دلت على شيء فإنما تدل على فشل سياسة تحويل الديون الخارجية إلى ديون داخلية التي اعتمدها المغرب منذ بداية التسعينات كما سنرى بعد قليل.

وفي إطار مواصلة سياسة التدبير النشيط وتطبيقها على الدين الداخلي لجأ المغرب في 2011 إلى تقنية تبادل سندات الخزينة في السوق الداخلية بمبلغ وصل إلى 800 مليون درهم. ومن المرتقب أن يتم في 2012 وضع عمليات لإعادة شراء وتبادل سندات الخزينة وكذا عمليات تحويل دين الاستثمارات العامة لفائدة المشاريع المعتمدة في إطار الاتفاقيات المبرمة مع بعض الدول كإسبانيا وإيطاليا.

اللجوء إلى المديونية الداخلية

منذ بداية التسعينات لجأ المغرب إلى خيار تحويل الديون العمومية الخارجية إلى ديون عمومية داخلية، بحيث انخفضت الديون الخارجية بما يقرب من تسعة (9) مليارات من الدولار في ظرف اثنى عشر  (12) سنة مابين 1992 و 2005. في الوقت الذي ارتفعت فيه الديون الداخلية، في نفس الفترة، بنسبة 38 % أي ما يفوق 220 مليار درهم.

         تطور جاري الدين الخارجي والداخلي (مليار درهم)

السنة

1991

1998

2004

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011

الدين الخارجي

216

193

140

125

115,2

122,3

134,2

152,2

173,4

190

الدين الداخلي

58

131

224

259

277,6

274,5

266,3

278,3

305,8

392

مجموع المديونية

274

324

364

384

392,8

396,8

400,5

430,5

479,2

582

                                                            المصدر: وزارة الاقتصاد والمالي

 

         تطور حجم الديون العمومية (1991-2011)

 

علاوة على مبررات تحويل الديون الخارجية إلى ديون داخلية، المتمثلة أساسا في كون تكلفة الديون الخارجية مرتفعة نسبيا وكون إصدار سندات الخزينة تحد من اللجوء إلى الاقتراض بالعملة الصعبة وبالتالي تقليص التبعية للخارج وتمكن من تعبئة الادخار وبالتالي امتصاص السيولة المالية الزائدة في الأبناك التجارية، فإن الدوافع الحقيقية هي سياسية وإيديولوجية بالدرجة الأولى باعتبار أن هذه التقنية مملاة من طرف المؤسسات المالية الدولية، الهدف منها تحويل الثروة في اتجاه حفنة من الرأسماليين المرتبطين بالنظام واستحواذهم على ثروة البلد. إذ أن أقلية برجوازية هي التي تمتلك أغلبية الديون الداخلية، هذه الأقلية هي نفسها التي استفادت من الديون الخارجية وكذا من الخوصصة وهي التي راكمت ثروات هائلة عن طريق الرشوة وتهريب الأموال.

إن تطور المديونية الداخلية أصبح مقلقا، وتكاليفه لم تعد تتحمله مالية الدولة في الظرفية الحالية والمتميزة بانعكاسات الأزمة العالمية، ارتفاع سعر البترول وبالتالي ارتفاع فاتورة الطاقة والخوصصة التي باتت تقترب من نهايتها. كلها عوامل ستؤدي لا محالة إلى ارتفاع المديونية والعجز الميزانياتي.

تقليص الديون الخارجية واللجوء أكثر فأكثر للمديونية الداخلية كانت له انعكاسات على الوضع الاجتماعي بالبلد من بطالة وإقصاء وفقر وتقشف وغلاء المعيشة… وهو ما تبرره الاحتجاجات التي يشهدها المغرب من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه.

كل هذا يدل على فشل سياسة التدبير النشيط للدين وفشل خيار اللجوء إلى المديونية الداخلية، وعودة المغرب إلى الاستدانة من الخارج.  بحيث بلغت الديون العمومية (الداخلية والخارجية) للمغرب مع متم 2011 ما يناهز 582 مليار درهم (حوالي 52 مليار دولار)، أي ما يعادل 72 % من الناتج الداخلي الخام، محققة ارتفاعا بلغ 21.5% مقارنة مع سنة 2010. منها 190 مليار درهم ( 21.9 مليار دولار) كديون عمومية خارجية و 392 مليار درهم كديون عمومية داخلية. ومن المرتقب، حسب التوقعات أن يصل حجم الديون العمومية المغربية مع متم 2012 إلى حوالي 636 مليار درهم، أي ما يعادل 75% من الناتج الداخلي الخام.

إن ارتفاع تكاليف الدين وعودة المغرب للمديونية الخارجية هو بمثابة إقرار بفشل خيار تحويل الديون العمومية الخارجية إلى ديون عمومية داخلية، الأمر الذي يؤكد على أن المغرب لا زال يقبع في الحلقة المفرغة للمديونية باعتبار أن كل الخيارات بما فيها تلك المملاة من قبل المؤسسات المالية الدولية وخاصة الوصفات الجاهزة المقدمة في إطار برامج التقويم الهيكلي لم تكن ناجعة بل زادت الوضع تعقيدا وأدت إلى تركيز الرأسمال الأجنبي بالمغرب عبر سيطرته على كل القطاعات الحيوية للاقتصاد الوطني.

لكن عودة المغرب للمديونية الخارجية كان منتظرا منذ سنة 2005 بسبب الارتفاع الكبير الذي عرفته أثمان المواد الأولية في الأسواق العالمية وبخاصة المواد الطاقية، مما نتج عنه الزيادة في الفاتورة الطاقية للمغرب. أضف إلى ذلك تراجع احتياطي المغرب من العملة الصعبة وتفاقم العجز في ميزان الأداءات بالإضافة إلى انعكاسات الأزمة العالمية وما خلفته من تراجع صادرات المغرب في العديد من القطاعات وتراجع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، إلخ. ثم الدور الذي لعبته وكالات التنقيط التي منحت المغرب “درجة الاستثمار” – « Investment Grade » وهو ما سيمكنه من مزيد من القروض، كان آخرها بيع سندات بالخارج في 2010 بقيمة 1 مليار أورو سيعوضها المغرب على مدى 10 سنوات بسعر فائدة بنسبة 4,5 % متغير أي قابل للارتفاع، ويعتزم المغرب الحصول على قرض جديد بالسوق المالي العالمي بمبلغ 1 مليار دولار في شتنبر أو أكتوبر 2012. هذا دون الحديث عن المشاريع الضخمة التي أطلقها المغرب والتي تمول في جزء كبير منها عن طريق المديونية (مثال مشروع القطار الفائق السرعة طنجة – الدار البيضاء. وهي مشاريع تشبه إلى حد كبير ما كان يعرف ب “الفيلة البيضاء” في فترة أزمة المديونية لسنوات الثمانينات.

لا بديل إذن للخروج من هذا النفق ومن هذه الحلقة المفرغة للمديونية غير تعليق سداد خدمات الدين وإجراء تدقيق نزيه وشامل لمجموع الدين العمومي المغربي (الداخلي والخارجي) من طرف لجنة مستقلة بمشاركة خبراء دوليين وإلغاء الديون العمومية غير الشرعية والكريهة.

 

                                                                   

 

زر الذهاب إلى الأعلى