الديون

أي برنامج استعجالي لمواجهة الأزمة الأوروبية؟

أي برنامج استعجالي لمواجهة الأزمة الأوروبية؟

اختارت الحكومات الأوروبية  وهي تطبق توصيات صندوق النقد الدولي، اخضاع شعوبها لسياسات تقشف صارمة مع تخفيضات صريحة في النفقات العمومية، حيث لجأت الى التسريحات في الوظيفة العمومية، وتجميد أجور الموظفين بل وتخفيضها، وتقليص امكانيات الاستفادة من الخدمات العمومية الحيوية ومن الحماية الاجتماعية، وتمديد سن التقاعد، إلخ. هكذا، فقد ارتفعت تكاليف الاستفادة من الخدمات العمومية (كالنقل، والماء، والصحة، والتعليم، إلخ)، وتتالت زيادات الضرائب غير المباشرة المجحفة خصوصا الضريبة على القيمة المضافة، وزادت وتيرة خصخصة المقاولات العمومية في القطاعات التنافسية، واحتدت سياسات التقشف الى درجة لم نشهد لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. وازدادت نتائج الأزمة أضعافا من جراء الحلول المزعومة التي تهدف اساسا الى حماية مصالح الرأسماليين، كما عمق التقشف بشكل واضح الانكماش الاقتصادي، وأدى الى ارتفاع ميكانيكي للمديونية العمومية لكون معدل فائدتها يفوق معدل نمو الموارد اللازمة لتسديدها  . إن ثالوث تقشف الأجور والتقشف النقدي وتقشف الميزانية يقابله ثالوث تدقيق الديون وإلغاء الديون وسن سياسة بديلة.

تضعف قدرة الشعوب شيئا فشيئا على تحمل هذه الاصلاحات المجحفة والمطبوعة بتقهقر اجتماعي واسع. ومن الناحية النسبية، نجد ان الأجراء والعاطلين والأسر الفقيرة هي التي تتحمل الأعباء لكي تستمر الدولة في اغناء الدائنين. وتشكل النساء أولى ضحايا الأزمة لكون التنظيم الاقتصادي الحالي والمجتمع البطريركي يعرضهن أكثر للهشاشة والعمل المؤقت وبأجور هزيلة ، ويتأثرن مباشرة بتفكيك الخدمات العمومية الاجتماعية ويؤدين الثمن باهضا. ان النضال من اجل فرض منطق مغاير يرتبط بشكل وثيق بالنضال من اجل الاحترام المطلق لحقوق النساء. فلنبسط الخطوط العريضة لما نقصده بمنطق مغاير.

لا يعد تقليص العجز العمومي هدفا في حد ذاته. قد يتم اللجوء اليه في بعض الظروف لتحفيز النشاط الاقتصادي وتخصيص نفقات لتحسين شروط حياة  ضحايا الأزمة. وعندما يحصل الانتعاش الاقتصادي، يجب أن يتم تقليص عجز الميزانية ليس عبر تقليص النفقات الاجتماعية العمومية بل عبر زيادة المداخيل الجبائية بمحاربة التهرب الضريبي الكبير، وفرض ضرائب اضافية على الرأسمال، وعلى المعاملات المالية، وثروة الأسر الغنية ومداخيلها. ولتقليص العجز العمومي، يجب ايضا تقليص جذري للنفقات الناتجة عن تسديد الديون العمومية وإلغاء الجزء غير الشرعي منها. كما يجب ان يشمل تقليص النفقات أيضا الميزانية العسكرية الى جانب النفقات الأخرى غير الضرورية اجتماعيا وخطيرة بيئيا. وبالمقابل، من الاساسي جدا أن نزيد من النفقات الاجتماعية خصوصا لمعالجة تأثير الانكماش الاقتصادي.  وكذلك يجب زيادة النفقات المخصصة للطاقات المتجددة، ولبعض البنيات التحتية كالنقل العمومي، والمؤسسات التعليمية، و مرافق الصحة العامة. تؤدي سياسة تحفيز الانتعاش الاقتصادي عبر تحفيز الطلب العمومي والقدرة الشرائية للأسر الى زيادة حجم المداخيل الضريبية، لكننا نطمح الى أكثر من ذلك،  حيث يجب أن تمنحنا الأزمة امكانية احداث قطيعة مع المنطق الرأسمالي، وتحقيق تغيير جذري للمجتمع. يجب أن يتخلى هذا المنطق الجديد الذي نطمح الى بنائه عن النزعة الانتاجية، ويدمج قضايا البيئية، ويقضي نهائيا على مختلف اشكال الاضطهاد (العنصري والبطريركي، إلخ)، ويعزز الملكية العمومية.

ولبلوغ هذا الهدف، علينا أن نبني جبهة واسعة ضد العنصرية، سواء على المستوى الأوروبي أو على المستوى المحلي، من اجل توحيد الطاقات لخلق ميزان قوى يساعد على تطبيق الحلول الجذرية المرتكزة على العدالة الاجتماعية والبيئية.

 

  1. 1.    لنوقف مخططات التقشف، فهي مجحفة وتعمق الأزمة

تتمثل أولويتنا القصوى في وضع حد لإجراءات التقشف اللااجتماعية، وذلك عبر التعبئة في الشارع، وفي الساحات العمومية، وعبر الاضراب، وعبر رفض الضرائب والرسوم  اللاشعبية، ودفع الحكومات الى عدم الانصياع للسلطات الأوروبية وإلغاء مخططات التقشف.

 

  1. 2.    لنلغ الديون العمومية غير الشرعية

ان تدقيقا للديون العمومية تحت رقابة المواطنين والمقرون، في بعض الحالات، بوقف سيادي واحادي الجانب لتسديد الديون العمومية، سيسمح بالوصول الى الغاء/التشطيب على الجزء غير الشرعي من الديون العمومية، وتقليص ما تبقى منها بشكل كبير.

أولا، لان الأمر لا يتعلق بدعم تخفيضات المديونية التي يقررها الدائنون، خصوصا بسبب ما يقابلها من شروط مجحفة. فخطة تخفيض جزء من مديونية اليونان التي طبقت منذ شهر مارس 2012 ارتبطت بتطبيق جرعات اضافية من اجراءات تدوس على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب اليوناني وعلى سيادة بلاده. و قد بينت دراسة قام بها الثلاثي (الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) بأن المديونية العمومية لليونان، ورغم تخفيض الديون الممنوحة من طرف دائنين خواص، ستبلغ نسبة 164% من الناتج الداخلي الخام سنة 2013.  علينا إذن ان نشهر بعملية تخفيض ديون اليونان كما جرى تطبيقها،  وأن نواجهها ببديلنا المتمثل في ضرورة إلغاء المديونية، اي التشطيب عليها بشكل احادي من طرف البلد المدين، والدفاع عن هذا المطلب كإجراء  قانوني يكرس السيادة الشعبية.

لنطرح سؤالا: لماذا يجب أن تخفض الدولة المدينة بشكل جذري مديونيتها العمومية عبر الغاء الديون غير الشرعية؟ أولا، لأسباب مرتبطة بالعدالة الاجتماعية، ولكن ايضا لأسباب اقتصادية واضحة يمكن للجميع ادراكها. للخروج من الأزمة من الأعلى، لا يمكن الاقتصار على تحفيز النشاط الاقتصادي عبر تحفيز الطلب العمومي والقدرة الشرائية للأسر. فإذا اقتصرنا على هذه السياسة التحفيزية المقرونة بإصلاح ضريبي مبني على إعادة توزيع عادلة، ستستنزف المداخيل الجبائية التكميلية بشكل كبير من خلال تسديد الديون العمومية.  وستستعيد  الاسر الغنية والمقاولات الكبرى الخاصة مبالغ الضرائب الاضافية التي ستفرض عليها  من الأرباح التي تجنيها من القروض التي منحتها  للدولة (وهنا يكمن سبب رفضها لمطلب إلغاء الديون). إذن، وفي الحقيقة، يجب  الغاء جزء كبير من المديونية. وسيتعلق حجم هذا الالغاء بمستوى وعي السكان ضحايا نظام المديونية (وفي هذا الصدد، سيقوم تدقيق مواطني بدور حاسم)، وتطور الأزمة الاقتصادية والسياسية، وخصوصا تطور موازين القوى الملموسة التي تبنى في الشوارع، وفي الساحات العمومية، وأماكن العمل، عبر التعبئات الحالية والمستقبلية. لقد اكتست مسألة إلغاء الديون في بعض البلدان كاليونان والبرتغال وايرلندا واسبانيا وهنغاريا طابعا ملحا، وهي في طور أن تكتسيه أيضا بالنسبة لإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، وعاجلا، ستشكل محورا رئيسيا في النقاش السياسي في بقية بلدان أوروبا.

بالنسبة للبلدان الخاضعة منذ الآن لابتزاز المضاربين وصندوق النقد الدولي وهيئات أخرى كاللجنة الأوروبية، ينبغي اللجوء الى إجراء وقف سداد الديون العمومية من جانب واحد، وهو مقترح يكتسي طابعا شعبيا في البلدان التي اصابتها الأزمة بشكل حاد. وينبغي أن يترافق وقف سداد الديون العمومية من جانب واحد مع اجراء تدقيق مواطني للاستدانة العمومية، والذي سيعطي للراي العام  البرهان والحجج الضرورية  للتشطيب على جزء من الديون التي حددت كديون غير شرعية. وكما أوضحت اللجنة من أجل الغاء ديون العالم الثالث CADTM في منشورات عديدة، يجب استعمال القانون الدولي والقانون المحلي للبلدان اللذان يمنحان تبريرا قانونيا لمثل هذا الإجراء السيادي و الأحادي.

سيسمح تدقيق الديون العمومية ايضا بتحديد مختلف المسؤوليات في سيرورة الاستدانة، ومطالبة المسؤولين محليين كانوا او دوليين بتقديم حسابات الى العدالة. وفي جميع الحالات، من المشروع أن تتحمل المؤسسات الخاصة والافراد الأثرياء الذين يمتلكون  سندات هذه الديون أعباء الغاء الديون السيادية غير الشرعية لكونهم يتحملون مسؤولية الأزمة بشكل كبير واستفادوا منها فوق كل ذلك. وليس الاصرار على تحميلهم هذا العبء سوى عودة نحو مزيد من العدالة الاجتماعية، وهو ما سيتطلب تجميع سجلات حاملي السندات بغية تعويض المواطنات والمواطنين ذوي الدخل المتوسط والضعيف.

واذا بين التدقيق وجود مخالفات مرتبطة بديون غير شرعية، يجب ان يحاكم مرتكبوها بشكل صارم عبر تعويضات وعقوبات بالسجن حسب خطورة أفعالهم، كما يجب  أن ترفع دعوى امام القضاء ضد السلطات التي اطلقت هذه القروض غير الشرعية.

وفيما يخص الديون التي بين التدقيق انها ليست غير شرعية ، ينبغي أن نحث الدائنين على تخفيض حجمها  ومعدل فائدتها وتمديد اجال تسديدها. وسيكون مفيدا أن نقوم بميز إيجابي لصالح حاملي سندات الديون الصغار الذين يجب ان نسدد لهم بشكل عادي. ومن جهة أخرى، يجب أن يحدد جزء ميزانية الدولة الذي سيخصص لتسديد الديون وفق الحالة الاقتصادية، والقدرة على التسديد، مع استبعاد الضغط على النفقات الاجتماعية. وقد نستأنس هنا بما جرى القيام به في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نص اتفاق لندن لسنة 1953 ، والمتعلق بتخفيض نسبة 62% من احتياطي الديون الالمانية،  على أن النسبة بين خدمة الدين وعائدات الصادرات لن تتجاوز 5%. ويمكننا تحديد مثل هذه النسبة بالتنصيص على أن المبلغ المخصص لتسديد الديون لا يجب أن يتجاوز 5% من موارد الدولة. كما يجب أيضا اعتماد اطار قانوني يمكننا من تفادي تكرار الأزمة التي بدأت سنتي 2007 و2008، وذلك بمنع تشريك الديون الخاصة، والزامية تنظيم تدقيق دائم لسياسة الاستدانة العمومية بمشاركة المواطنين، والتنصيص على عدم تقادم المخالفات المرتبطة بالديون غير المشروعة وعلى امكانية التشطيب عليها، وتبني قاعدة ذهبية متمثلة في عدم المساس بالنفقات العمومية التي تسمح بضمان حقوق الانسان الأساسية  ومنحها الأولوية على  النفقات المرتبطة بتسديد الديون، إلخ. وعلى اي هناك عديد من البدائل.

  1. 3.    من اجل اعادة توزيع عادلة للثروات

منذ الثمانينات، ما فتات الضرائب المباشرة على الثروات والمقاولات الكبرى تنخفض، حيث منحت مئات الملايير من اليورو على شكل هبات ضريبية وجهت اساسا نحو المضاربة وتراكم الثروات من طرف الاغنياء.

يجب ان يترافق مطلبنا من أجل اصلاح جذري للنظام الضريبي يقوم على العدالة الاجتماعية (تخفيض مداخيل الأثرياء وممتلكاتهم لرفع مداخيل اغلبية السكان) مع المطالبة بتعميمه بشكل منسجم على مجمل الدول الاوروبية لتفادي الإغراق الضريبي، وذلك بهدف رفع الموارد العمومية خصوصا عبر الضريبة التصاعدية على دخل الاشخاص الذاتيين الاثرياء (يمكن ان نرفع المعدل الهامشي للضريبة على الدخل الى حدود 90%)، والضريبة على الممتلكات بدءا من مبلغ محدد، والضريبة على الشركات. ويجب أن تكون هذه الزيادة في موارد الدولة متوازية مع تخفيض سريع لأسعار السلع والخدمات الاساسية (المواد الغذائية الاساسية، الماء، الكهرباء، النقل العمومي، الادوات المدرسية، إلخ)، خصوصا عبر تخفيض كبير وانتقائي للضريبة على القيمة المضافة عليها. ويتعلق الامر ايضا بتبني سياسة ضريبية تعزز حماية البيئة عبر فرض رسوم ردعية على الصناعات الملوثة.

يمكن لعديد من البلدان ان تتشارك في تبني ضريبة على المعاملات المالية، خصوصا على اسواق الصرف، بغية رفع موارد الدولة، والحد من المضاربة، وتشجيع استقرار معدل الصرف.

4.محاربة الجنات الضريبية

لقد رفضت، في الواقع، مختلف قمم مجموعات دول العشرين الكبار، رغم اعلان نواياها، محاربة الجنات الضريبية والملاذات القانونية. وفي الحقيقة، هناك تدبير بسيط  لمحاربة الجنات الضريبية (التي تؤدي الى خسارات مهولة للموارد الحيوية لتنمية المواطنين سواء في بدان الشمال أو الجنوب) متمثل في دفع البرلمان لمنع اي شخص ذاتي، او اي مقاولة داخل البلد، ان تقوم  بمضاربة كيف كان نوعها بالمرور عبر الجنات الضريبية تحت طائلة غرامة تعادل مبلغ المضاربة. وفوق ذلك، يجب القضاء على الصناديق السوداء للنظام المالي، والتهريب الاجرامي، والفساد والرشوة، والانحراف الانيق. وتستطيع  القوى العظمى، التي تتكفل بها منذ سنوات، القيام بذلك حيث لديها ما يكفي من الامكانيات.

يحرم التهرب الضريبي الكبير المجتمع من أموال هائلة و يقلص فرص الشغل. لذلك، يجب تخصيص حصة كبيرة من الموارد العمومية  للمصالح المالية من أجل محاربة فعالة للتهرب المنظم من طرف المقاولات الكبيرة والأسر الغنية ومنحها الأولوية، ونشر النتائج للعموم، ومعاقبة المتهمين بشكل صارم.

  1. 5.    كبح جماح الأسواق المالية

تمثل المضاربة على المستوى العالمي عدة مرات الثروات المنتجة على الكوكب. وتساعد تركيبتها المتطورة على افلاتها من المراقبة، وتخلخل عملياتها المتشابكة الاقتصاد الحقيقي، كما يمثل الغموض الذي يلف المعاملات المالية القاعدة السائدة. ولفرض ضريبة على الدائنين في المنبع، يجب أولا أن نحددهم. فلابد إذن أن نوقف ديكتاتورية الاسواق المالية، عبر منع المضاربة على سندات الديون العمومية، وعلى العملات، والمواد الغذائية. كما يجب أيضا منع بيع سندات افتراضية والمقايضات الائتمانية الافتراضية، واغلاق اسواق المقايضات بالتراضي للمنتجات الاشتقاقية، والتي تشكل ثقوبا سوداء حقيقية منفلتة من القانون والمراقبة.

هناك أيضا قطاع وكالات التنقيط الذي ينبغي اصلاحه بصرامة وتأطيره، ومنع وكالات التنقيط من تنقيط الدول. فهي ليست اداة تقديرات علمية موضوعية بقدر ما هي مرتبطة بنيويا بالعولمة النيو- ليبرالية وأدت مرارا وتكرارا الى كوارث اجتماعية. ففي الواقع، عندما تنقص هذه الوكالات نقطة بلد، سترتفع معدلات الفائدة التي سيحصل بها على قروض من الاسواق المالية، وستتدهور بالتالي وضعيته الاقتصادية. ويزيد سلوك القطيع الذي يتسم به المضاربون من الصعوبات التي ستنزل بثقلها على المواطنين.  إن خضوع  وكالات التنقيط بشكل حاد للأوساط المالية يجعل منها فاعلا رئيسيا على المستوى الدولي، وهي مسؤولة على اندلاع الأزمات وتطورها وان كانت وسائل الاعلام  لا تسلط عليها الضوء. فقد ارتهن الاستقرار الاقتصادي الأوروبي بهذه الوكالات بشكل مفتوح ودون اية رقابة من قبل السلطة العمومية، وبهذا وجب منعهن من استمرار ما يقمن به من اضرار. ينبغي استعادة رقابة صارمة على حركة الرساميل لكي نستطيع منع جميع المناورات الاخرى التي تهدف الى زعزعة استقرار الدول.

 

  1. 6.    تحويل البنوك والتأمينات الى القطاع العمومي تحت رقابة شعبية

بسبب خياراتها، وجدت اغلبية البنوك نفسها امام عجز في الأداء وليس فقط أزمة سيولة عابرة. و احتد المشكل بسبب سماح البنوك المركزية منحها  قروضا مفتوحة دون تغيير في قواعد اللعبة.

علينا أن نعود الى الأسس. يجب ان نعتبر البنوك خدمات عمومية، بالضبط  لمكانتها في الاقتصاد، ولما يمكن أن ينتج عن تدبيرها السيء من نتائج مدمرة. فالأهمية الحاسمة لمهنة البنك لا تخولنا ان نعهد بها الى بنكيين خواص. وبما أن البنك يستعمل المال العمومي، ويستفيد من ضمانات الدولة، ويقدم خدمة أولية اساسية للمجتمع، علينا أن نجعل منه خدمة عمومية.

يجب ان تستعيد الدولة قدرتها على مراقبة النشاط الاقتصادي والمالي وتوجيهه. يجب أيضا أن تتوفر على الأدوات لتحقيق الاستثمارات وتمويل النفقات العمومية مع تقليص اللجوء الى الاستدانة من المؤسسات الخاصة. ولهذا يجب نزع ملكية البنوك دون تعويض بغية تشريكها وتحويلها الى القطاع العمومي تحت رقابة شعبية.

في بعض الحالات، يمكن لتكلفة نزع ملكية البنوك الخاصة ان تكون باهظة بالنسبة للدولة  بسبب الديون التي قد راكمتها والأصول غير قابلة البيع التي احتفظت بها. وهذه التكلفة يجب ان تستعيدها عبر فرض ضريبة على مجمل ممتلكات المساهمين الكبار. وفي الواقع، فالشركات الخاصة المساهمة في البنوك، وقادتها نحو الهاوية وهي تحقق ارباحا طائلة،  تحوز على ثروات  في قطاعات اقتصادية اخرى. ولذا يجب أن تشمل الاقتطاعات مجمل ثروات المساهمين لتفادي تشريك الخسائر الى اقصى حد. ويمكن سرد مثال ايرلندا الذي جرى به تأميم بنك الحلفاء الايرلندي  Irish Allied Banks بطريقة غير مقبولة بحيث تم على حساب السكان.

ان الخيار الذي ندافع عنه يعني الغاء القطاع البنكي الرأسمالي، سواء في قطاع القروض وحسابات الادخار البنكية ، أو في مجال الاستثمار (ابناك الاعمال او الاستثمار).  و وفق هذا الخيار، لن يبق هناك سوى نوعين من البنوك: البنوك العمومية مع وضع قانوني عمومي (تحت رقابة شعبية)، والبنوك التعاونية ذات الحجم المعتدل.

ولو ان وضعية قطاع التأمينات ليست محط انظار وسائل الاعلام، فهو أيضا في قلب الازمة الحالية، حيث قامت مجموعات التأمينات الكبرى أيضا بعمليات مجازفة، كما هو شأن البنوك التي ترتبط بها ارتباطا وثيقا. فجزء كبير من اصولها يتشكل من سندات الديون السيادية والمنتجات الاشتقاقية، وقامت في اطار سعيها لجني الربح الاقصى المباشر بمضاربات مجازفة على المنح التي اداها المأمنون، وعلى الادخار الذي جرى جمعه كتأمين على الحياة، او على مساهمات طوعية من أجل تقاعد تكميلي. وسيمح نزع ملكية التأمينات بتفادي انهيار هذه القطاع، ويحمي المدخرين والمأمنين، وسيسير نزع الملكية هذا بالتوازي مع تعزيز نظام التقاعد عبر التوزيع.

  1. 7.    تشريك المقاولات المخوصصة منذ سنة 1980

تتمثل احدى ميزات الثلاثين سنة الأخيرة في خصخصة عديد من المقاولات والخدمات العمومية، بدءا من البنوك الى القطاع الصناعي، مرورا بالبريد، والاتصالات، والطاقة، والنقل، حيث منحت الحكومات للخواص قطاعات اقتصادية بكاملها مما أفقدها القدرة على ضبط الاقتصاد. ينبغي ان تعود هذه الممتلكات العمومية التي نتجت عن العمل الجماعي الى الملك العمومي، وأن نعمل على خلق مقاولات عمومية جديدة، وتكييف الخدمات العمومية وفق حاجيات السكان، مثلا لتستجيب لمسألة تغيير المناخ عبر خلق خدمة عمومية تروم فصل المساكن وعزلها.

  1. 8.    تقليص جذري لمدة العمل من اجل ضمان التشغيل الكامل وتبني سياسة مداخيل تروم تحقيق العدالة الاجتماعية

إن الجواب الوحيد الذي يجب ان نطرحه في مواجهة  الأزمة هو توزيع مغاير للثروات. فقد انخفضت، منذ سنوات، حصة المأجورين من الثروات المنتجة بشكل واضح، في الوقت الذي زاد فيه الدائنون والمقاولات أرباحهم التي استثمروها في المضاربة. برفعنا للأجور سنضمن للسكان ليس فقط عيشا لائقا، ولكن سنعزز الوسائل التي تسمح بتمويل الحماية الاجتماعية وانظمة التقاعد.

بتقليصنا مدة العمل دون تقليص الأجر، وخلقنا مناصب شغل، سنحسن شروط حياة العمال ونضمن شغلا لمن يحتاجه. يمنحنا تقليص جذري لمدة العمل أيضا امكانية تطبيق وتيرة حياة مغايرة، وطريقة مختلفة للعيش في المجتمع بعيدا عن النزعة الاستهلاكية. وسيسمح وقت الفراغ الذي سنربحه بمشاركة السكان بنشاط  في الحياة السياسية، وتعزيز التضامن والأنشطة التطوعية، والابداع الثقافي.

يجب أيضا أن نرفع الحد الادنى للأجر القانوني، والاجور المتوسطة، والتعويضات العائلية. وبالمقابل، يجب وضع سقف صارم لمرتبات مسيري المقاولات سواء كانت خاصة أو عمومية، وهي مرتبات عالية الى مستوى غير مقبول، ومنع العلاوات، وشراء اسهم المقاولات بثمن تفضيلي، ومعاشات التقاعد التكافؤية، وجميع الامتيازات الاخرى غير المبررة والمهينة، وذلك عبر ارساء سقف دخل مقبول، بحيث لا يتجاوز الفارق الاقصى بين المداخيل 4 مرات (كما اوصى به أفلاطون منذ قرابة 2400 عام) مع تجميع شامل لمداخيل فرد من أجل إخضاعها للضريبة.

  1. 9.    قروض عمومية تسمح بتحسين شروط حياة السكان، و تعزيز الطابع العمومي، والقطع مع منطق تدمير البيئة 

يجب أن تتمكن الدولة من الاقتراض بهدف تحسين شروط حياة السكان، مثلا، عبر انجاز أشغال المنفعة العمومية و الاستثمار في الطاقات المتجددة. وستمول بعض هذه المشاريع من ميزانية الدولة الجارية من خلال خيارات سياسية مؤكدة، ويمكن اللجوء الى القروض العمومية لإنجاز اشغال كبرى أخرى، مثلا، لتغيير نمط حياة مرتهنة باستعمال السيارة الخاصة عبر تطوير وسائل النقل العمومي بشكل واسع، أو لإغلاق نهائي للمحطات النووية وتعويضها بالطاقات المتجددة، أو خلق او اعادة فتح خطوط حديدية عبر ربوع البلد  لتقريب المناطق بدءا بالمناطق الحضرية وشبه الحضرية، أو ترميم أو تجديد او بناء عمارات عمومية وسكن اجتماعي مع تقليص استهلاكها للطاقة وتجهيزها بوسائل راحة نوعية.

كل هذا يستدعي بإلحاح سياسة استدانة عمومية شفافة، نقترحها على الشكل التالي: أولا، يجب ان تخصص قروض الاستدانة العمومية لضمان تحسين شروط عيش السكان، والقطع مع منطق تدمير البيئة، وثانيا، ان يساهم اللجوء الى الاستدانة العمومية في تعزيز ارادة اعادة توزيع عادلة بغية تقليص التفاوتات. ولهذا، فنحن نقترح بان تكون المؤسسات المالية، والمقاولات الكبرى الخاصة، والأسر الغنية، مضطرة قانونيا الى شراء السندات الحكومية، بمبلغ يتناسب مع ثرواتها ومداخيلها، وبمعدل فائدة يساوي صفر، وغير مرتبط بمؤشرات التضخم. أما باقي السكان، فيمكنهم، بمحض ارادتهم، شراء سندات عمومية تسمح لهم بمردودية حقيقية موجبة (3% على سبيل المثال) تفوق نسبة التضخم. هكذا، فعندما تبلغ نسبة التضخم السنوية 3% مثلا، يجب ان يكون معدل الفائدة الذي ستؤديه الدولة حقيقة هو 6%. إنه ميز ايجابي (مماثل للميز الذي نقره في نضالنا ضد الاضطهاد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية، أو الاضطهاد الطائفي بالهند، أو التمييز بين النساء والرجال) سيسمح بالتقدم نحو مزيد من العدالة الضريبية، و نحو اعادة توزيع للثروات اكثر عدالة.

 

  1. 10.                    اعادة النظر في عملة اليورو

لابد من طرح نقاش الخروج من اليورو بالنسبة لسلسة من البلدان كاليونان. فمن الواضح أن اليورو يقيد اليونان والبرتغال وحتى اسبانيا، والنقاش حوله يخترق الحركات الاجتماعية وأحزاب اليسار ويقسمها. علينا إذن أن نوليه نفس الاهتمام الذي حظينا به مقترحات البدائل الأخرى،  وأن نعمل على ترك ما يقسمنا مؤقتا، والتركيز على توحيد الجهود حول مسألة الديون التي نعتبرها حاسمة.

  1. 11.                    من أجل اتحاد اوروبي مبني على التضامن

هناك عديد من احكام المعاهدات التي تسري على الاتحاد الاوروبي ومنطقة اليورو والبنك المركزي الاوروبي يجب إلغاؤها، منها مثلا، البندين 63 و 125 من معاهدة لشبونة اللذان يمنعان أي مراقبة على حركة الرساميل وتقديم أي عون لدولة تعيش وضعا صعبا، وميثاق الاستقرار والنمو، وآلية الاستقرار الأوروبي، وفوق ذلك كله، ينبغي تبديل المعاهدات الحالية بأخرى جديدة في اطار سيرورة تأسيسية وديموقراطية حقيقية  بهدف بلوغ ميثاق تضامني للشعوب من أجل الشغل والحفاظ على البيئة.

يجب اعادة النظر بشكل جذري في السياسة النقدية وفي القانون الاساسي للبنك المركزي الأوروبي وممارساته، والذي لا يخضع للسلطة السياسية في مسألة طبع النقود. إن الاتحاد الاوروبي بخلقة البنك الأوروبي المركزي وجعله فوق الحكومات وبالتالي فوق الشعوب، ارتكب خطأ كارثيا متمثلا في اخضاع البشرية للنظام المالي عوض العكس. وفي الوقت الذي تشهر فيه عديد من الحركات الاجتماعية بقانونه الاساسي الصارم وغير المناسب للغاية، اضطر البنك الاوروبي المركزي الى تغيير دوره في عز الأزمة، لكن في اتجاه ضمان مصالح الدائنين وليس الشعوب. وهذا ما يحثنا على المطالبة بضرورة ان يمول البنك المركزي الاوروبي والبنوك المركزية للدول الأخرى بشكل مباشر دولا حريصة على بلوغ اهداف اجتماعية وبيئية تدمج تماما الحاجيات الاساسية للسكان. فالتمويل الذي تقوم به هذه البنوك اليوم يتماثل في انشطة اقتصادية جد مختلفة كالاستثمار في بناء مستوصف أو في مشروع مضارباتي. على السلطة السياسية ان تفرض تكاليف جد مختلفة مع اختلاف مجالات التدخل، وفرض معدلات فائدة منخفضة بالنسبة للاستثمارات العادلة اجتماعيا وبيئيا، ومعدلات عالية وحتى باهظة في عمليات مضارباتية والتي يليق منعها في بعض المجالات.

إن بناء أوروبا على اساس التضامن والتعاون من شأنه أن يسمح بالتخلي عن المنافسة التي تجر “نحو الاسفل”. فقد قادتنا النيو- ليبرالية الى الأزمة وكشفت عن فشلها، حيث دفعت بالمؤشرات الاجتماعية نحو الانخفاض،  وانخفضت الحماية الاجتماعية، وتقلصت مناصب الشغل، وتراجعت الخدمات العمومية. أما الأقلية التي استفادت من الأزمة فقد داست على حقوق الأغلبية. المذنبون يربحون، والضحايا يؤدون، هذا هو المنطق الذي تنبني عليه النصوص المؤسسة للاتحاد الأوروبي والذي يجب دحضه، واستبداله بهدف أوروبا بديلة متمحورة على التعاون بين الدول والتضامن بين الشعوب. ولهذا، لا يجب قبول تعميم السياسات المالية والجبائية وتوحيدها على اقتصادات الدول الاوروبية المختلفة جدا، بل يجب تنسقيها لاستشراف حل “نحو الأعلى”، وفرض سياسات شمولية على الصعيد الأوروبي تتضمن استثمارات عمومية مكثفة من  أجل خلق مناصب شغل عمومية في قطاعات أساسية (من قطاعات القرب الى الطاقات المتجددة، من النضال ضد التغيير المناخي الى قطاعات الانتاج الأولية). إن سيرورة تنسيق بين الشعوب هي الكفيلة بوضع اسس سياسة بديلة تسعى الى تبني دستور لبناء أوروبا بديلة ديمقراطية ترتكز على المبادئ الثابتة المتمثلة في تعزيز العدالة الضريبية والاجتماعية، وخيارات من أجل رفع مستوى عيش السكان، ونزع التسلح وتقليص جذري للنفقات العسكرية، وخيارات من اجل طاقة مستديمة دون اللجوء الى الطاقة النووية، رفض الكائنات المعدلة جينيا.  يجب ايضا أن تضع حدا لسياسة القلعة المحاصرة ازاء مرشحي الهجرة لتصبح شريكا عادلا ومتضامنا حقيقيا ازاء شعوب الجنوب. وتكمن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في إلغاء ديون العالم الثالث دون شرط، وهو مطلب يعد قاسما مشتركا لجميع النضالات التي يجب خوضها عاجلا في الشمال كما في الجنوب.

داميان ميلي وإريك توسان

10 يونيو 2012

http://www.cadtm.org/Quel-programme-d-urgence-face-a-la

 

ترجمة “ممكن”.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى