الخوصصة

مشروع المدرسة الرائدة؛ خطوة اضافية لتسليع المدرسة العمومية

المدرسة الرائدة هي الركيزة الأساس لـ “خارطة الطريق 2022/2026″ بقطاع التعليم، الجاري تنزيلها جرعة جرعة، بَدءاً من الموسم الدراسي 2023/2024 بدافع تجاوز معيقات التعلم و”الرفع من جودة التعلمات الأساس باستثمار الطرائق والمقاربات البيداغوجية الحديثة”.

لا ينفصل مشروع المؤسسة الرائدة عما سبقه من مشاريع وتشريعات، والذي رُسِمَت مَعالِمُه منذ صدور ميثاق التربية والتكوين 1999، حيث كان الهدف منذ البداية: تفكيك المدرسة العمومية وتسليعها استجابة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية المتحكمة في كل سياسات البلد.

1-السياق العام

يأتي هذا المشروع في سياق مواصلة الدولة هجومها على كافة المستويات، واستكمال تدميرها للخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم. في ظل انتهاك متواصل لسيادة البلد من قبل مؤسسات مالية دولية أضحت تتحكم في جل السياسات الرسمية المنتهجة وتفرض املاءات تسارع الدولة الى تنفيذها، إذ بلغ حجم المديونية أكثر من 93 % من ناتجنا الداخلي الخام، ما يشكل ثقلا على ميزانيتنا خاصة في القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم التي تقلص الميزانيات المخصصة لها باستمرار.

تلك المؤسسات تمنح القروض وتفرض املاءات تلجأ الدولة الى ترجمتها إلى إصلاحات كبرى، وتتابع عن كثب تطبيق تلك الاملاءات وتقديم ما يلزم من دعم مالي لتنفيذها، وتتواصل مع “الشركاء الاجتماعيين” خاصة النقابات، لضمان انخراط واجماع وطنيين حول المخططات لتسهيل تمريرها، كما توصي بذلك تقارير البنك الدولي.

يأتي مشروع المدرسة الرائدة كذلك في أعقاب معركتين كبيرتين:

أ-هزيمة الأساتذة المفروض عليهم التعاقد في معركة الامتناع عن مسك النقط

ب-النهاية المرتبكة للحراك التعليمي العظيم الذي دام 3 أشهر، من أكتوبر 2023 الى يناير 2024، وما تلا ذلك من توقيف عن العمل شمل مناضلين ومناضلات من الحراك.

2-أصل خارطة الطريق: ليس ثمة سوى البنك الدولي:

1-في 1995 أصدر البنك الدولي تقريرا حول التعليم بالمغرب

2-في 1999 أصدرت الدولة ميثاق التربية والتكوين تنفيذا لإملاءات البنك

3-في 2015 صدرت “الرؤية الاستراتيجية” (رسم معالم المدرسة الليبرالية).

4-في 2017 صدر تقرير للبنك الدولي حول “المغرب في أفق 2040″، ومن ضمن ما نص عليه: تقييم أداء الموظفين وترقيتهم بناء على معايير المردودية [عوض الأقدمية].

  5-في غشت 2019 صدر القانون الإطار 17.51، والتنصيص صراحة على واجب مساهمة أسر التلاميذ في الإنفاق على التعليم (بسلك الثانوي التأهيلي والتعليم الجامعي).

6-في أبريل 2021 صدر النموذج التنموي الجديد، تنفيذا لإملاءات البنك الدولي الواردة بوثيقة “المغرب في أفق 2040”. النموذج التنموي هو روح خارطة الطريق. والخارطة هي الصيغة الجديدة لخطة تحويل التعليم الى مجال للاستثمار المُربِح، ضمن الأهداف الكبرى للنموذج التنموي التي تتمثل في تركيز الثروة بين يدي فئة قليلة من الرأسماليين الكبار المرتبطين بالرأسمال العالمي على حساب من هم أسفل السلم الاجتماعي.

7-شتنبر 2021 صدر البرنامج الحكومي.

وضمن خارطة الطريق، يأتي تمويل التعليم الأولي ومشروع المدرسة الرائدة، حيث جرى الحصول على قرض بمبلغ 250 مليون دولار، إضافة الى بقية القروض الممنوحة منذ 2019 والتي بلغت 500 مليون دولار، وهو ما يعمق نزيف المديونية ويُيَسِّر للاستعمار الجديد إحكام قبضته على مقدرات البلد.

3-ماذا تريد الدولة؟

تجري اليوم مراجعة شاملة لدور الدولة بقطاع التعليم، بما يتيح لها التخلص من وظائفها وواجباتها الاجتماعية. فهي تعتبر الخدمات الاجتماعية سلعا، وبما أنها كذلك فالقطاع الخاص هو المُتكفِّل بتقديمها، بينما تكتفي الدولة بدور المنظِّم والمُخَطِّط الاستراتيجي، مع ضمان حدود دنيا من الاستفادة بالنسبة لمن لا يستطيع من الآباء والأمهات تلقي تلك الخدمة بشكل مجاني.

تعمل الدولة كذلك على تفكيك علاقات الشغل القارة وإخضاعها لمراجعة شاملة. من هنا بدأ العمل على أجرأة العمل بالعقدة بقطاع التعليم. وقد أتى النظام الأساسي الجديد ليكرس هذا التوجه بوضع آليات جديدة لما يسمى “الموارد البشرية”، وجوهر هذه الآليات التخلص من المعايير الجماعية التي تتيح للشغيلة إمكانية التفاوض الجماعي حول الأجور وشروط العمل والترقية وكل الحقوق، وتعويضها بمعايير تجعل كل الحقوق رهينة باستحقاق الأجير الفرد ومردوديته، مع منح صلاحيات ضخمة للرؤساء المباشرين لتقييم الأداء، والبث في مردودية الأجير، بل حتى في فرص احتفاظه بوظيفته.

4-خارطة الطريق

تقر خارطة الطريق بأن 70% من التلاميذ لا يتحكمون في التعلمات الأساس عند استكمالهم التعليم الابتدائي، و%25 فقط يشاركون بالأنشطة الموازية، و300.000 ينقطعون عن الدراسة سنويا %80) بالمدار القروي و20% بالمدار الحضري) والمغرب في المرتبة 77 من أصل 79 (دولة) من حيث اكتساب “الكفايات” المتعلقة بالرياضيات، وفي المرتبة 75 من أصل 79 (دولة) فيما يخص القراءة، ما يؤكد أزمة التعلمات بالمدرسة العمومية (التي تفاقمت مؤخرا بفعل جائحة كورونا).

وبناء على هكذا استنتاجات يؤكد واضعو الخارطة ان الأمر يتطلب ” احداث قطيعة مع الأساليب السابقة في أجرأة الإصلاح”… والانتقال الى “ثقافة إصلاحية تتمحور حول الأثر داخل الأقسام”

لقد أضحى بديهيا أن الدولة كلما أرادت الاقدام على هجوم جديد، تحاول دائما استثمار الأزمة والبرهنة على أن الأمور لا تسير على ما يرام، وذلك لتسهيل تمرير خارطة الطريق ومشروع المدرسة الرائدة وغيرهما من المشاريع..

ليست المدرسة الرائدة سوى صيغة جديدة لوضع التعليم في خدمة الرأسمال، ضمن خارطة الطريق التي تجسد منظور الدولة الحالي للتدخل في توجيه التعليم، وفق ما سبق أن ورد في النموذج التنموي الجديد. خارطة الطريق إذن هي البديل المُقَدّمُ لتجاوز الفشل الذريع المُتَحَدَّثُ عنه وإيجاد حلول له. لهذا وضعت اثني عشر التزاما تهم: أ-التلاميذ. ب-الأساتذة. ج-المؤسسات التعليمية. 

أولا: التلاميذ: سيستفيدون من خمسة التزامات تهدف كلها الى تجويد تعلماتهم

ثانيا: الأساتذة: سيستفيدون من ثلاثة التزامات تهدف في مجموعها الى تلقي تكوين للتميز يركز على الجانب التطبيقي لامتلاك بيداغوجيا فعالة. إضافة الى ظروف عمل ملائمة تعزز تأثيرهم الإيجابي على التلميذ، ونظام لتدبير المسار المهني محفز ومثمن

ثالثا: مؤسسات تعليمية توفر ظروف استقبال حسنة (مجهزة، مُؤَمَّنة، نظيفة وتستعمل الوسائل الرقمية [الصور والفيديو]، مدير مؤهل للقيادة، سيادة روح الفريق، جو الثقة، أنشطة موازية ورياضية تساعد التلاميذ على التفتح).

 5-الهدف المباشر

من أهداف المشروع خلق مدارس جذابة تنال استحسان الآباء والأمهات، بفضل ما تحققه من نتائج جيدة على مستوى التعلمات، وبالمحصلة، ابراز فضائل القطاع الخاص الجاري تعبيد الطريق أمامه وتسهيل تنزيله في مرحلة لاحقة، مقابل استبخاس المدرسة العمومية (التقليدية/غير المتطورة) التي “لا تحظى بثقة المواطنين” وإظهارها على أنها مُعَرْقِلٌ للتعليم الجيد، ما يستدعي تسليعها بإخضاعها لميكانيزمات القطاع الخاص أو لآلية الشراكة: عام/خاص.

6-آليات تدبيرية مستمدة من القطاع الخاص

إمعانا في تفكيك المدرسة العمومية وتنفيذا لالتزاماتها تجاه المؤسسات المالية الدولية، تتوجه الدولة نحو اعتماد آليات تدبير دَخيلٍ على القطاع العمومي، ونذكر منها:

6.1-ربط الارتقاء المهني بالأداء والتكوين

أ-الأستاذات والأساتذة يستفيدون من أسبوع في السنة على الأقل، للتكوين المستمر يتلاءم مع احتياجاتهم ويتوج بشهادة ستؤخذ بعين الاعتبار في ترقيتهم المهنية، عكس زملائهم الذين لن يتوفروا على شهادات مماثلة.

ب-إرساء نظام جديد لتقييم أداء أطر التدريس يعتمد معايير “أكثر موضوعية وانصافا” تمكن من تثمين المردودية. فحتى اتفاق 14 دجنبر الموقع بين الوزارة والنقابات تحدث عن التحفيز عن طريق المردودية، وهو ما سيكون له أثرٌ في رفع الدخل المالي للمدرس (عمل مضاعف=مكافأة أكبر). علما أن المردودية الضعيفة يمكنها أن تؤدي الى تسريح المدرس (مخاطر التوظيف الجهوي).

6.2-تثبيث التعاقد عبر التوظيف الجهوي:

العمل بالعقدة كرسه النظام الأساسي الجديد، عبر توافق بين الوزارة والشركاء الاجتماعيين، ولم يتمكن الحراك التعليمي المنطلق يوم 05 أكتوبر 2023 من اسقاطه، بعد أن اعتبرته الدولة “خيارا استراتيجيا”، وستبرز آثاره الكارثية بعد تنزيل “المدرسة الرائدة”.

6.3-إرساء علامات الجودة

المؤسسة الرائدة ستُمنح علامة الجودة كشهادة على انها تمكنت من تحقيق كل الأهداف المسطرة لها وفق معايير “الإطار المرجعي” الموضوع لهذا الغرض، طبقا للسائد بين شركات القطاع الخاص وكذا المؤسسات التعليمية الخاصة. قانون المنافسة سيصبح هو السائد: هذه المؤسسة أفضل من تلك، وعلامة جودتها أفضل من تلك، وأساتذتها أفضل من بقية زملائهم بالقطاع (ادخال التنافس بين الأجراء)، وتلامذتها أكثر تفوقا. وستنال استحسان الآباء والأمهات وتحفز استعدادهم للدفع أكثر.

6.4-استقلالية المؤسسة التعليمية: تتمتع المؤسسة ذات الريادة بالاستقلالية وهامش للتصرف في الجانب الإداري والمالي والبيداغوجي، والمدير يحظى بصلاحيات أكبر للتدخل. يذكرنا هذا بنظام سيكما بقطاع الصحة، حيث المؤسسة مستقلة ماليا واداريا، حتى في تدبير أجور مستخدميها. تتلقى المؤسسة منحا في البداية، وبعد ذلك تبحث عن شركاء يمولونها، وفي الأخير تبيع خدماتها لضمان القدرة على تجسيد استقلاليتها المالية الفعلية.

في حالة تحقق الأهداف المرسومة يكون الفريق التربوي للمؤسسة الرائدة قد نجح في عمله، أما في حالة الفشل فإن أسباب الفشل لا تعود الى اختلالات المنظومة التعليمية ككل، بل الى تدني الأداء المحلي وضعف مردودية ذلك الفريق، هنا يكمن بعد آخر من أبعاد “استقلالية المؤسسة”. وبالتالي لن ينال أعضاء الفريق المكافأة المالية الموعودة.

تعد أشكال التدبير هاته غريبة عن الوسط التعليمي، ولا غرابة أذا علمنا أن من يقود هذا المشروع إطار بنكي، موظف سابق للبنك العالمي وبنك المغرب وإطار حالي بصندوق الإيداع والتدبير، وهو نفسه من كان عضوا مؤثرا بلجنة وضع النظام الأساسي الجديد الذي تصدت له الشغيلة التعليمية ووصفته بنظام “المآسي” خلال الحراك التعليمي المجيد، وفرضت إدخال تعديلات مهمة على نسخته الأصلية.

مطلبنا

بوجه هذا التسليع يظل مطلبنا وشعارنا الأساس: من أجل مدرسة عمومية، جيدة، مجانية وفي متناول الجميع، ديمقراطية، مجهزة بأفضل عتاد تعليمي وبأرقى ما أنتجه العلم من طرق تدريس حديثه. ومن أجل شغل قار ضمن الوظيفة العمومية وأجور تساير الأسعار وتقاعد تضامني مريح وحريات نقابية، بما يحفظ كرامة الأطر العاملة بقطاع التعليم.

خلاصة

تسعى الدولة الى تفكيك المدرسة العمومية وتسليعها وإقبار الوعي والنضال النقابيين وتحويل النقابات الى شريك في تنفيذ المشروع، لكن انكشاف ما تنطوي عليه “المدرسة الرائدة” من قهر طبقي، وانجلاء كل الغبار الذي يحجب الرؤية، كفيل بإيقاظ صبوات أوسع الجماهير الشعبية المحرومة وتطلعاتها كي تنهض لخوض نضالات جماهيرية جديدة من أجل حق أبنائها في التمدرس المجاني والجيد، كما فعلت خلال نهوض العشرين من فبراير 2011 وغيره..

بقلم حكيم حلاوة/ عضو أطاك المغرب. 

زر الذهاب إلى الأعلى