الخوصصةالعولمة الرأسمالية

أدوية: براءة الاختراع آلية لهضم الحق في العلاج ومراكمة أرباح شركات المركب الطبي-الصيدلي

منذ تسعينيات القرن الماضي توالت التقارير الصادرة حول كلفة العلاج المتزايدة إثر ارتفاع أسعار الأدوية، والاستنزاف المستمر لصناديق الحماية الاجتماعية، وضرب الحق في العلاج بالنسبة للغالبية العظمى من سكان العالم خصوصا في البلدان الفقيرة. انطلقت أولى التحركات الشعبية الكبرى المناهضة لجبروت شركات الأدوية من جنوب إفريقيا سنة 1997 احتجاجا على ارتفاع أسعار الأدوية المضادة لمرض نقص المناعة المكتسبة -السيدا- ،حين أضحى هذا المرض يشكل وباءً يخلف ملايين الضحايا والقتلى.
لمواجهة هذه الوضعية قامت وزارة الصحة في جنوب افريقيا بالترخيص لصناعة واستيراد أدوية جنيسة، تكلفتها أقل بأضعاف من الأدوية “الأصلية” حاملة براءة الاختراع المسوقة من قبل كبريات الشركات العالمية. بالمقابل قام تكتل ضم 39 شركة أدوية على رأسها المختبرات العالمية البريطانية “Gsk” والأمريكية “Pfizer” كمحتكر أساس للأدوية المستعملة في علاج هذا المرض برفع دعوى قضائية على حكومة هذا البلد باءت بالفشل بسبب الضغط الشعبي والتضامن العالمي، ما دفع هذه الشركات إلى التنازل عنها. وبالموازاة إقرار تعديلات طفيفة إزاء اتفاق حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة خلال “دورة الدوحة2001” للمنظمة العالمية للتجارة، لم تستفد منها إلا أقلية من البلدان وفق شروط تعجيزية. هذه التعديلات لن تخفي كون براءة الاختراع فيما يخص الأدوية، كانت ولاتزال سببا رئيسا في ارتفاع أسعارها وأداة لضرب حق الشعوب في العلاج، و ليست جنوب إفريقيا استثناءً لما تمارسه شركات الأدوية من شجع لخدمة أرباح حاملي الأسهم.
تعرضت البرازيل بدورها لحملة محمومة خاضتها ضدها مختبرات الأدوية العالمية والدول الراعية لمصالحها. اعتبرت البرازيل مثالا رائدا في محاربة السيدا والحد من الانتشار الواسع لهذا المرض، بفضل حملات واسعة شملت توفير العلاج المجاني للغالبية العظمى من المرضى، مكن البلد من تقليص نسبة الوفيات إلى النصف ورفع نسبة الاستشفاء إلى 80% وهي نتائج لم تكن ممكنة دون الترخيص لصناعة واستيراد أدوية جنيسة بديلة عن “الأصلية”. قامت الولايات المتحدة الأمريكية سنة2001 بمقاضاة دولة البرازيل أمام هيئة التحكيم بالمنظمة العالمية للتجارة بتهمة انتهاك حقوق الملكية الفكرية، انتهت باتفاق بين الطرفين يشمل سحب الدعوى. الهند بدورها مورست عليها ضغوطات قوية من لوبي الشركات الدوائية لثنيها على إنتاج وتسويق الأدوية الجنيسة لعلاج مرض السيدا ومنع كل عمليات تصديرها إلى البلدان الفقيرة بحجة حماية حقوق براءة الاختراع.
منذ البداية أعطت أزمة جنوب إفريقيا والبرازيل الدليل على عدم شرعية المنظمة العالمية للتجارة والاتفاقيات المبرمة في إطارها، على رأسها اتفاق حقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع إزاء الأدوية. كما فضحت درجة جشع شركات الأدوية والمدافعين عن مصالحها لمراكمة الأرباح التي تقابلها مراكمة جثت المرضي.
ومرة أخرى تكرر نفس الشيء وبشكل أكثر استفزازا وبشاعة مع لقاحات كوفيد- 19 . في وقت حيث البشرية تعاني خطر الجائحة المميت، بادرت الهند وجنوب إفريقيا في مارس 2020 إلى تقديم مقترح تعليق “براءة” الاختراع على هذه اللقاحات لفترة معينة، ساندت أزيد من 100 دولة هذا المقترح، وقوبل بالرفض القاطع من مصنعي اللقاحات والدول المساندة لها. تم إقبار هذا المقترح ليطفو على السطح في يونيو 2022 من خلال اتفاق ضم كلا البلدين والولايات المتحدة الأمريكية والمنظمة العالمية للتجارة، ينص على رفع براءة الاختراع على لقاحات كوفيد-19 لمدة تتراوح بين 3 و5 سنوات، اتفاق متأخر بشهور فقد خلالها عشرات الالاف من البشر حياتهم، مقابل مراكمة أرباح خيالية من قبل الشركات الدوائية، بالرغم من ان الجزء الأكبر من الأبحاث والتجارب السريرية احتضنتها مختبرات جامعات ومستشفيات عمومية وجرى تمويل عمليات الإنتاج من الميزانيات العمومية.
ارتفعت أسعار الأدوية لمستويات خيالية، على رأسها تلك الخاصة بالأمراض الخطيرة والمزمنة والنادرة، التي أصبحت المنتوج الرئيس لشركات الأدوية العالمية، لما تدره من أرباح ضخمة، لدرجة أن أسعار بعضها يثير الاشمئزاز والغثيان والأمثلة على ذلك متعددة: أبرزها دواء “Zolgensma” المستخدم في علاج مرض يصيب الأطفال في سن مبكرة، (الجهاز العصبي-العضلي، تحديدا) ينتج عنه شلل في عضلات الجسم، بما فيها تلك الخاصة بجهاز التنفس، جرى تسويقه للمرة الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية في يونيو 2019 تم بعدها في أكثر من 43 بلدا من قبل شركة نوفارتس السويسرية.
انطلقت الأبحاث والتجارب الأولية على هذا الدواء في مختبرات ومستشفيات عمومية منذ 2008 وبتمويل من تبرعات بلغت قيمتها أكثر من 90 مليون دولار في إطار “تيليتون” حول الأمراض النادرة بفرنسا. وبسبب نقص التمويل لإجراء التجارب السريرية، عقد المشرفون على هذا المشروع اتفاقية شراكة مع شركة “Avexis” الأمريكية المتخصصة في البيوتكنولوجيا، ليتم اقتناؤها من قبل شركة “Novartis” سنة 2018 لتصبح المالك الجديد لبراءة الاختراع الخاصة بهذا الدواء الأكثر غلاء في العالم، بسعر تجاوز 2,1 مليون دولار ! وقد حقق مبيعات بلغت 920 مليون دولار سنة 2020 لترتفع إلى 1,351 مليار دولار سنة 2021، واحتل في ظرف وجيز مراتب متقدمة ضمن العشرين دواء الأكثر مبيعا، التي يجري تسويقها من لدُنِ الشركة. كما حققت أرباحا تجاوزت 14 مليار دولار سنة 2021 بزيادة بلغت 200% مقارنة بالسنة الفارطة. وجرى توزيع 7,368 مليار دولار من هذه الأرباح على حاملي الأسهم.

ان الدفاع عن الحق في العلاج، وعن السيادة الدوائية غير ممكن بدون رفض براءة الاختراع فيما يخص الأدوية، ومعها كل الاتفاقيات الخاصة بحقوق الملكية الفكرية المبرمة في إطار المنظمة العالمية للتجارة والتبادل الحر، لكونها سببا رئيسا في ارتفاع أسعار الأدوية، وعائقا أمام حق الولوج إليها، وعامل كبح للبحث والابتكار لفائدة الصحة العامة الذي أصبح خاضعا لأولوية ربح الشركات، وليس للعلاج، بغض النظر عن كلفته ومردوديته. كل مُطالب بترميمها لا يخدم سوى شركات الأدوية وحاملي أسهمها، وفي قمتهم صناديق الاستثمار العالمية. فَعِلَّةُ وُجودها تضخيم الأرباح على حساب مصلحة الشعوب في صحة عمومية جيدة ومجانية.

بقلم/ عبد الواحد أحتيتش

عضو اطاك المغرب

مجموعة مراكش

زر الذهاب إلى الأعلى