الخوصصة

إنشاء “شركات جهوية” تحل محل المكتب الوطني للكهرباء: ظل البنك الدولي وراء ذلك

إنشاء “شركات جهوية” تحل محل المكتب الوطني للكهرباء: ظل البنك الدولي وراء ذلك

صادق مجلس المستشارين بتاريخ 18 أبريل 2023 بالأغلبية، على مشروع قانون رقم 83.21 يتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات. يعتبر هذا القانون خطوة إضافية في مسار فتح باب توزيع خدمات الكهرباء أمام القطاع الخاص، بعد عقود من التدبير المفوض لشركات أجنبية، أثارت نضالات شعبية جبارة (الرباط، تطوان، طنجة).

بموجب القانون 83.21 سيجري تفكيك المكتب الوطني للكهرباء وإدخال شركات جهوية تخضع لأحكام القانون رقم 17.95 المتعلقة بشركات المساهمة. إنه نفس التفكيك الذي تعرضت له مؤسسات عمومية سابقة (الاتصالات السلكية واللاسلكية، وحاليا بريد المغرب… إلخ).

يعتبر تحويل المؤسسات العمومية إلى شركات مساهمة شكلا مقنعا للخصخصة، حيث يُفتح الباب أمام القطاع الخاص للمساهمة في رأسمال تلك الشركات.

وبموجب هذا القانون سينتهي الدور التاريخي للمكتب الوطني للكهرباء الذي ستنتقل العقارات والمنقولات التابعة له إلى الجماعات المشمولة بعقود التدبير مع الشركات الجهوية. ويدخل هذا ضمن ما أُطلق عليه جهوية متقدمة، وهي آلية لتسهيل ولوج القطاع الخاص، ليس فقط إلى خدمات توزيع الكهرباء، بل أيضا إلى إنتاجها، ضمن أشكال متعددة من الخصخصة أهمها الشراكة قطاع عام- قطاع خاص، أي بلغة تقرير البنك الدولي (2019) “إضفاء الطابع التجاري على قطاع الكهرباء” عبر “فصل الوظائف التشغيلية المرتبطة بتوفير الخدمة وتحويلها إلى شركة منفصلة مملوكة للدولة، تعمل عادة بموجب قانون الشركات”.

يندرج هذا ضمن توصيات البنك الدولي الذي أوصى بتنويع أشكال الخصخصة هذه، لتفادي التحديات السياسية عند التنفيذ والنضالات التي تستثيرها أشكال الخصخصة “الفجة” والكاملة، أو ما أطلق عليه البنك الدولي “نموذج التسعينيات”، حيث (حسب البنك الدولي) ” تم اعتماد الإصلاحات بشكل انتقائي إلى حد ما، مما أدى إلى وجود نموذج مختلط تتعايش فيه عناصر التوجه نحو السوق مع الهيمنة المستمرة للدولة على القطاع”. (“إعادة الظر في إصلاح قطاع الكهرباء في العالم النامي، عرض عام”، فيفيان فوستر وأنشول رانا، سلسلة تقارير البنية التحتية المستدامة، مجموعة البنك الدولي، 2019).

لذلك أوصى هذا التقرير الدولي بتنويع “الأنماط المؤسسية المختلفة لتنظيم القطاع”، وهي صيغة مخففة لتنويع أشكال إشراك الرأسمال الخاص في إنتاج وتوزيع الكهرباء، مؤكدا على أن البلدان التي اتبعت هذا المسار حققت “نتائج جيدة للقطاع”. وحسب التقرير ذاته يأتي المغرب في صدارة هذه البلدان حيث هناك “دور مستمر للمرافق الكفؤة المملوكة للدولة، ودور أكثر استهدافا للقطاع الخاص”.

ويعني هذا تحمل الدولة (المالية العمومية في التحليل الأخير) لنفقات استثمار في قطاع يجني الرأسمال الخاص ثماره. وهو ما أكده وزير الداخلية عبد الواحد الفتيت في كلمته التقديمية في جلسة التصويت على مشروع القانون 83.21 في مجلس المستشارين بقول: “هذا القطاع أوضحت أنه لازال يحتاج إلى استثمارات عمومية هامة”.

وحتى قبل مسلسل تحرير الإنتاج هذا، لم يكن المكتب الوطني للكهرباء ينتج إلا %32 منها، وتعمق الأمر مع القانون رقم 09-13 المتعلق بالطاقات المتجددة كما تم تغييره وتتميمه بالقانون رقم 15-58 والذي ينص خاصة على تحرير إنتاج الكهرباء الخضراء وتمكين المنتجين الخواص لهذه الطاقة من استعمال الشبكة الوطنية لنقل وتصدير الكهرباء المنتجة من طرفهم.

سيفتح إنشاء الشركات الجهوية وإسهام القطاع الخاص في رأسمالها، الباب واسعا أمام تطبيق توصيات تقرير البنك الدولي المتعلقة بتحرير سوق الكهرباء وتطبيق التسعيرة الحقيقية تحت عنوان “استرداد التكاليف”، وهو ما أوضحه بالحرف تقرير البنك الدولي (2019) بقول: “وجود القطاع الخاص يلزم الحكومة بتبني لوائح تنظيمية للتعريفة تقتضي وضع تسعير لاسترداد التكاليف”، منوها بأن “استرداد التكاليف الرأسمالية” محصور “تقريبا على المرافق التي خضعت للخصخصة”، دون أن ينسى أن هذا الاسترداد موجه في جزء منه لـ”التزامات خدمة الديون وإعادة السداد”.

 صرح وزير الداخلية داخل مجلس المستشارين بأن “إحداث الشركات الجهوية متعددة الخدمات لن يكون له تأثير على أسعار الكهرباء في المغرب”، لن يكون لهذه التطمينات أي أثر في الواقع. فمنطق اقتصاد السوق أبقى من تطمينات مسؤولين حكوميين يتناوبون على مناصبهم. فـ”استرداد التكاليف” ممزوجا بتمويل عبر الديون سيفرض منطقه الحديدي في آخر المطاف ويثقل كاهل المستهلك النهائي (الطبقات الشعبية) بتلك التكاليف. وهو ما حدث أيضا في قطاع الوقود عند تحرير أسعاره سنة 2015، وها نحن نرى تداعياته حاليا.

الوجه الآخر لكارثية إحداث “الشركات الجهوية متعددة الخدمات” هو مصير آلاف من مستخدمي- ات القطاع. يتحدث القانون المصادَق عليه عن ضمان “جميع الحقوق المكتسبة للمستخدمين المنقولين من المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب ومن الوكالات المستقلة إلى الشركة، مع الحفاظ على وضعيتهم فيما يخص صناديق التقاعد، وكذا هيئات الأعمال الاجتماعية التي كانوا منخرطين فيها في تاريخ نقلهم”.

لكن هذا مجرد تطمين لنزع فتيل المقاومة في قطاع، يعتبَر حسب تقرير البنك الدولي (2019) “مسيَّس بدرجة كبيرة” ويضم “أعدادا كبيرة من الموظفين”. لذلك أوصى التقرير بالتعامل الحذر منبها إلى أنه: “من المرجح أن تكتسب إصلاحات قطاع الكهرباء قوة دافعة إذا جاءت متسقة مع النظام السياسي للبلد وأيديولوجيته ويقودها مناصرون يتمتعون بدعم واسع من أصحاب المصلحة”.

ما ساعد على سهولة تنفيذ نصيحة البنك الدولي هذه كون الاتحاد المغربي للشغل، الذي تنضوي تحت لوائه “النقابة الوطنية لعمال الطاقة”، لا يختلف عن الإطار العام لهذه السياسة التي تطبقها الدولة والمستلهمة من البنك الدولي، رغم بعض التصريحات والبيانات التي تتحدث عن مسؤولية البنك الدولي عما آل إليه قطاع الكهرباء بالمغرب.

تتبنى المركزية النقابية التوجهات العامة للدولة بخصوص القطاع، وهو ما صرح به الكاتب العام للنقابة في يوم دراسي نظمته داخل مجلس المستشارين تحت عنوان “التحولات الهيكلية لقطاع الكهرباء، لأية أهداف وبأية تكلفة” بتاريخ 27 ماي 2021، إذ تبنى الميلودي موخاريق “التوجهات التي جاءت واضحة في الرسالة الملكية السامية بمناسبة انعقاد المناظرة الوطنية الأولى حول الطاقة في 6 ماي 2009″، مؤكدا على أن ما يجري حاليا داخل القطاع هو “انحراف وابتعاد عن التوجهات الكبرى التي انبنت عليها تلك الاستراتيجية”، واحتجاج على “تنصل السلطات العمومية من إعمال كنه الدستور أصول المقاربة التشاركية في إعداد وتنزيل السياسة الطاقية بالبلاد”، كما صرحت آمال العمري، رئيسة فريق الاتحاد المغربي للشغل بمجلس المستشارين، في نفس اليوم الدراسي.

كان جوهر اعتراض المركزية والنقابة الوطنية لعمال الطاقة هو المطالبة بإشراك النقابة، التي أكدت قيادتها في رسالة إلى وزير الداخلية بتاريخ 29 يوليوز 2021 “انخراطها في الإصلاحات الهيكلية”، معلنة أن “إيمانها الراسخ بفضيلة الحوار كأنجع آلية لحل كل الإشكالات، وحرصا منا على الحفاظ على السلم الاجتماعي بقطاع الكهرباء”، مبدية استياءَها من “التكتم والتعتيم الذي يطمس ملامحها وتفاصيلها، أمام التحفظ غير المبرر تجاه الشريك الاجتماعي بالقطاع، مما يفتح الباب على مصراعيه لسوء الفهم والتأويلات والريبة والشك، وعدم اليقين في مآل الحقوق والمكاسب المهنية والاجتماعية لمستخدمي ومستخدمات المكتب الوطني للكهرباء”.

لا يتعلق الأمر بـ”تأويلات وريبة وشك… حول حقوق ومكاسب المستخدَمين- ات”. فتجارب قطاعات أخرى قد قطعت دابر الشك باليقين، إذ إن مآل مستخدمي- شركات التدبير المفوض (خاصة قطاع النظافة)، وقبلهم- هن مآل مستخدمي قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية بعد فصلها عن مؤسسة البريد نهاية التسعينيات، دليل على المصير الكارثي الذي ينتظر مستخدمي- ات المكتب الوطني للكهرباء، بعد تفويتهم- هن إلى “الشركات الجهوية متعددة الخدمات”.

مرة أخرى يقف البنك الدولي بيده الطولى في هذا المجال. تحت مسمى “الحوكمة” أقام هذا التقرير محكمة حول أداء القطاعات المسيرة من طرف القطاع الخاص وتلك المسيرة من طرف الدولة. وكان منطوق الحكم هو: “هناك فجوة كبيرة في الحوكمة بين المرافق العامة التي تُدار كمؤسسات تجارية والمرافق المخصخَصة… وبالنسبة لتلك البلدان التي تكون فيها مرافق الكهرباء مملوكة بالكامل للدولة، تعكس حوكمة الشركات في العادة نحو %55 من إجراءات الممارسات الجيدة، مما يشير إلى وجود مجال كبير لإدخال التحسينات. وعادة ما تكون نتائج الحوكمة أعلى في المرافق الخاصة، حيث تقع في نطاق %60 إلى %90، وهو مستوى قلما تحققه المرافق العامة”.

والسبب حسب التقرير هو “مجالس إدارات المرافق الخاصة باستقلالية شبه كاملة في اتخاذ القرارات، في حين أن مجالس إدارات المرافق العامة تتمتع بحرية محدودة في المسائل المتعلقة بالتمويل والموارد البشرية”. فالمرافق العامة حسبه تكون “أقل صرامة ودقة في تعيين الموظفين… وتقل قدرة المرافق العامة أيضا على إثابة الموظفين من خلال مكافآت الأداء أو فصل أصحاب الأداء الضعيف”.

إنه إذن نفس المنطق الذي تريد الدولة تعميمه في طل القطاعات العمومية والوظيفة العمومية: يجب أن يبرر الموظَّف- ة المستخدَم- ة كل ما يتلقاه من أجور وترقيات وحوافز وعلاوات بحجم العمل والمردود الذي يقدمه، ولا ضمان للعمل القار والدائم إلاَّ باستمرار الموظَّف- ة والمستخدَم- ة في نفس وتيرة الأداء والمردود… إنه ما أُطلق عليه في أدبيات إصلاح الوظيفة والإدارة العمومية: “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية” جرى نقلها نقلا من القطاع الخاص، حيث استشرت أشكال التشغيل الهش مثل العقود المحددة المدة، الوساطة وشركات السمسرة، عقود التدريب، وأشكال استغلال قصوى مثل العمل بالأهداف Les objectifs…

لن يؤدي منطق التماس “الحوار” من أجل ضمان حقوق ومكاسب المستخدَمين- ات عبر “مقاربة تشاركية”، إلا إلى نزع سلاح المقاومة من يد شغيلة المكتب الوطني للكهرباء. وبالفعل رغم معارضة النقابة الوطنية لعمال الطاقة لقانون إحداث “الشركات الجهوية” صادق الفريق البرلماني للاتحاد المغربي للشغل على القانون في مجلس المستشارين. لقد بددت الجامعة الوطنية لعمال الطاقة الكثر من الوقت في محاولة إقناع دولة رأس المال بأن تلبس قناعا “اجتماعيا”، تتمكن عبره من تجنيب شغيلة القطاع ويلات تفكيك المكتب وفتح القطاع أمام الرأسمال الخاص وتطبيق توصيات البنك العالمي.

لا مداورة مع الرأسمال ودولته. فمنطقهما حاد وشامل. قد يضطران إلى التنازل عن بعض الفتات، لكنهما يتمكنان من استعادته بعد استكمال تنفيذ هجومهما. نفس المنطق نراه في قطاع الوظيفة العمومية والإدارات العمومية (التعليم، الصحة، الجماعات المحلية)، حيث يجري على قدم وساق تفكيك الأنظمة الأساسية المنظمة لعلاقات الشغل، في اتجاه جعلها جهوية ومستلهمة لـ”آليات تدبير الموارد البشرية” من القطاع الخاص. وهناك أيضا حاولت القيادات النقابية تجنيب شغيلة قطاعاتها ويلات ذلك الهجوم عبر “مقاربة تشاركية” تنتزع عبرها فتاتا (زيادات في الأجور، ترقيات… إلخ).

تندرج “الإصلاحات الهيكلية” للمكتب الوطني للكهرباء ضمن خطة إجمالية تشمل كل قطاعات الطاقة بالمغرب، تسميها الدولة طبعا “الانتقال الطاقي لضمان الأمن الطاقي للبلد”، لكن كنهها

جَعلُ قطاع الطاقة مجالا لتراكم الرأسمال ومراكمة الأرباح من قِبَلِ المستثمرين المحليين في شراكة وطيدة مع المستثمرين الأجانب والشركات المتعددة الجنسيات، تحت الرعاية السامية للبنك الدولي.

لا يمكن مواجهة هذه الاستراتيجية الشاملة عبر مناوشات جانبية تروم مجرد ضمان حقوق شغيلة قطاعات إنتاج وتوزيع الطاقة. فقط استراتيجية ومنظور بديلين عن المنظور الرأسمالي قادر، ليس فقط على ضمان شروط عمل جيدة وعيش أفضل لأجراء الطاقة، ولكن أيضا على ضمان تزود آمن وبيئي بالطاقة للسكان. ويأتي مطلب تشريك قطاع الطاقة وضمان رقابة مواطنية وشعبية وعمالية على إنتاجه وتوزيعه ونزع ملكية الرأسمال عن قطاع يجب أن يكون ملكا مشاعا، على رأس المطالب التي علينا أن نجعلها محاور تعبئة لمواجهة نتائج المصادقة على قانون إحداث الشركات الجهوية متعددة الخدمات.

أمامنا، وأمام مستخدَمي- ات المكتب الوطني للكهرباء ونقاباتهم- هن فرصة سانحة للاحتجاج على مصدر هذه السياسات: البنك الدولي. سيُعقد الاجتماع الدولي للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي بمراكش من 9 إلى 15 أكتوبر2023. وهناك جهود دؤوبة من قِبَلِ ائتلافات محلية وإقليمية وقارية ودولية لتنظيم قمة مضادة للاحتجاج على المؤسستين، وسيكون انخراط شغيلة القطاع ونقاباتهم- هن في هذه الجهود مساهمة مهمة في توفير شروط نجاح تلك القمة المضادة.

بقلم : علي أموزاي

زر الذهاب إلى الأعلى