الفهم من اجل المواجهة
ساد مطلع التسعينات من القرن العشرين، خطاب نهاية التاريخ وكون الرأسمالية هي الأفق الوحيد للإنسانية، رافقه تعميق الهجمات على الحريات النقابية ومكاسب الحركة العمالية في ظل التحولات الناتجة عن إعادة فتح نطاقات جغرافية (العالم السوفيتي والصين… )، وقطاعات اقتصادية واجتماعية (الخدمات العمومية…) هائلة أمام الاستغلال الرأسمالي.
عرف العالم توسعا كميا ونوعيا للطبقة العاملة في القارات الأخرى وخاصة في آسيا. وأصبحت الطبقة الرأسمالية أقلية عددية على مستوى العالم. وأصبح هناك تركيز للثورة في يد الأقلية – تزايد عدد المليونيرات بالدولار في المغرب مثلا- في مقابل تركز الفقر والبؤس للأغلبية العمالية والشعبية.
للطبقة العاملة العالمية مصلحة مشتركة في مقاومة الاستغلال والاضطهاد البورجوازي. رغم المنافسة المحمومة التي تفرضها الطبقة الحاكمة في العالم على الشغيلة. التنافس بين رؤوس الأموال يدفع ثمنه الأجراء. ويعد الهجوم على الحريات النقابة والحق في الإضراب أحد أوجه الهجوم البورجوازي المعمم والمتعدد الأبعاد على الشغيلة. إن فهم سياسة الرأسمال العدوانية مقدمة لا غنى عنها للمقاومة العمالية.
المجتمع الرأسمالي قائم على التناقض في المصالح بين طبقة ملاكي وسائل الإنتاج و بين المحرومين منها
في العصور السابقة على ظهور الرأسمالية، ظهرت أشكال التمرد المتنوعة، مع أول أشكال انقسام المجتمع إلى طبقات، وظهور أشكال استغلال أقلية من البشر للأغلبية منهم. يتجلى الاستغلال في أخذ جزء من نتاج العمل البشري لمجموعة كبيرة من طرف أقلية من البشر، هذا الجزء من نتاج العمل قد يكبر أو يصغر. كما أن العمل البشري قد يكون بسيطا كما يمكن أن يكون معقدا. والاستغلال لا يكون إلا بالإجبار والإكراه مهما بلغت درجة تغليف ذلك بأوراق توت إيديولوجية.لمواجهة ذلك الاستغلال والقهر، برز الامتناع عن العمل أو الهرب من الحقول والمناجم . المستغلون يحاربون ويمنعون التوقف عن العمل أكان منظما أو عفويا، من خلال استعمال السياط والسجن وأحيانا القتل…
في عصر المجتمع الطبقي الرأسمالي الذي تسود فيه طبقة البورجوازية ، طبقة ملاك وسائل الإنتاج، يعد الإضراب أحد الأسلحة الأساسية في يد طبقة الأجراء الذين يبيعون قوة عملهم ولا يملكون سواها.
كانت جميع الدول الرأسمالية تجرم حق الإضراب، ولم ينتزع هذا الحق إلا بعد نضالات مريرة، نكل خلالها بملايين البشر.جاء الصعود العمالي نهاية القرن 19 وقبل الحرب العالمية الأولى وانتزاعه للحق في الإضراب نتيجة صعود قوي للنضالات العمالية … اضطرت معها البورجوازية في البلدان الامبريالية لتقديم تنازلات للحركة النقابية ولأقسام مهمة من الطبقة العاملة من أجل ضمان دوام نظام استغلالها وقد ساعدها على تمويل تلك التنازلات نهب المستعمرات .
لقد كان لسعي الحركة العمالية للإطاحة بالرأسمالية بما هي عبودية للعمل المأجور دورا حاسما في تراجع نسبي لهمجية الاستغلال وبشاعته في العديد من المناطق بينما توطدت هذه الوحشية في عدة مناطق. تواري مشروع تجاوز الرأسمالية إلى نظام أكثر عدلا و إنسانية، جعل البورجوازية تستعيد المبادرة وتهاجم مكاسب سابقة للشغيلة.
عبودية العمل المأجور:
- في النظام العبودي كان العبد يشتغل لصالح مالكه حصرا، بينما يتكفل السيد بتوفير سبل عيش العبد وعائلته. أي جزء مما ينتجه العبد يذهب للسيد وجزء للعبد على شكل ما يستهلكه.
- في النظام الإقطاعي كان السيد يرغم القن على الاشتغال لحسابه جزء من أيام الأسبوع مجانا، بينما يعمل القن لحسابه الخاص لإعالة نفسه وعائلته لما تبقى من الأسبوع. الإقطاعي لا يقدم أي شيء للقن.
في كلتا الحالتين، يراكم السيد ثروات متعاظمة باستمرار بينما يظل العبد والقن فقيرين طوال الحياة ومضطهدين.
ماذا يجري إذن في ظل الرأسمالية التي يظل فيها العامل فقيرا ومضطهدا؟ ويراكم الرأسمالي الثروات؟ يجري شئ مماثل لما في حالتي القن والإقطاعي والعبد والسيد، يستحوذ الرأسمالي على جزء من القيمة التي ينتجها العامل الذي لا يتلقى سوى أجر يغطي تكاليف إعادة إنتاج قوة عمله ويستحوذ الرأسمالي على فائض القيمة. حالة العامل أسوء لأن التنافس بين الرأسماليين يدفع الأجور نحو الانخفاض: الإفقار النسبي.
ما الهدف من السعي لتقنين الإضراب؟
هدف اقتصادي: الاستحواذ على أكبر قدر من فائض القيمة المنتجة على صعيد كل مقاولة وعلى صعيد البلد و كذا توجيه الموارد العمومية الطبيعية لخدمتها في مراكمة الأرباح. السعي لتقنين الإضراب مرتبط كذلك بضرورة تخطيط أرباب العمل لنشاطهم الاقتصادي في بيئة اقتصادية تنافسية مفتوحة.
- هدف سياسي: البورجوازية تسعى لحرمان الطبقة العاملة من سلاح الإضراب العام لأنه يمنح الأجراء قوة جبارة تبطل قوة أجهزة الدولة البورجوازية القمعية المادية والاديولوجية و يضعفها ويبين عمليا من يحرك فعليا بسواعده المجتمع.
لماذا تهاجم البورجوازية حق الإضراب؟
- منع الإضراب او وضع قيود على ممارسته يعني إجبار العمال على بيع قوة عملهم بسعر أدنى وفي شروط أسوء / هل سيقبل رأسمالي تخزين سلعه في شروط تؤدي لفسادها، أو بيعها بسعر أقل من سعر كلفتها أو بهامش ربح ضعيف؟
- القانون في المجتمع الطبقي ليس محايدا، مثله مثل المؤسسات التي يصدر عنها … مؤسسات بورجوازية في خدمة البورجوازية.
- عمال الإنعاش الوطني / عمال أوراش: استغلال مفرط يستفيد منه طبقة البورجوازية …
أنواع الإضراب: هناك تداخل بين مختلف هاته الأنواع ولكن يمكن رصد
- الإضراب الاقتصادي: من أجل مطالب مادية مباشرة، زيادة الأجور أو غير مباشرة ، تحسين ظروف العمل و الحماية الاجتماعية.
- الإضراب التضامني: مع الشعب الفلسطيني مثلا من أجل عرقلة وصول شحنة أسلحة للعدو الصهيوني أو من أجل الضغط على البورجوازية لقطع العلاقة معه
- الإضراب السياسي: الإضراب من أجل المطالبة بالديمقراطية أو ضد الخوصصة أو تفكيك قوانين الشغل، أو ضد التطبيع مع العدو الصهيوني.
قد يكون الإضراب شاملا لمجمل البلد والقطاعات وقد يكون على مستوى قطاع أو مقاولة أو إدارة أو منطقة وقد يكون منظما وقد يكون عفويا، وقد يدمج بين أبعاد متنوعة. وقد تتغير مطالبه وتتطور حسب ميزان القوى.
الإشكالات التي يطرحها تنظيم الإضراب، قبله وأثناءه وبعده : الرد على افتراءات البورجوازية
- قبل الإضراب: يجب تحديد المطالب وحشد أكبر تأييد لها وأن تكون معبرة عن مصالح كل الداعين له. الإعداد للإضراب من حيث تحديد أشكال تقريره ومكانه ونوعيته وشكله والجهة الموجه ضدها ومدى توفر شروط نجاحه، وهي أمور متأثرة بتضارب المصالح في المجتمع الطبقي.
- أثناء سريان الإضراب: كيفية تسيير الإضراب وإدارة تداعياته على باقي الشغيلة والمجتمع وكيفية الحفاظ على التضامن مع المضربين و توفير الحاجيات والخدمات لعموم المواطنين، الإضرار بالمشغل لإجباره على تلبية المطالب مع الحد من الإضرار بباقي الشغيلة. أحد عوامل نجاح إضراب ما هو التعاطف الشعبي معه وإمكانية توسعه لقطاعات أخرى.
- بعد الإضراب: تترتب نتائج قد تكون إيجابية من خلال تحقيق المطالب كلها أو بعضها. وقد يمنى الإضراب بهزيمة ويتم إرغام الأجراء بقبول وضع أسوء من ذاك الذي احتجوا ضده. وقد يطرد أو يسجن بعض العمال و قد يصل الأمر لقتل أجراء. سيكون التضامن العمالي والشعبي ضروريا لتجاوز النكسات.
عند كل إضراب تطرح مسألة ازدواجية السلطة على صعيد المقاولة وعلى صعيد كل البلد كلما كان الإضراب شاملا وذي مشاركة واسعة وتعاطف شعبي. الإضراب الجماهيري العام ، يعني فقدان مؤسسات الحكم البورجوازي لشرعيته.
نفاق ديمقراطي بورجوازي
الدستور ومجمل القانون المكتوب أو العرفي هو تعبير عن ميزان القوى بين مكونات المجتمع الطبقي في لحظة صياغته. وتأويل النصوص القانونية المتعلقة بعالم الشغل عند تطبيقها يتأثر، بحالة ميزان القوى بين المشغل والأجراء. تقنين ظاهرة اجتماعية مخترقة بتناقضات طبقية حادة، لا يمكن أن يكون إلا في صالح أرباب العمل. مثلا كيف سيأمر قاض في بحبوحة عيش عامل باستئناف العمل في ظروف لا تطاق . عامل يكتوي بحرارة المناجم وبرودة البحار ونتانة الواد الحار ، بحجة أن المساطر غير مستوفاة، أو أن الإضراب يهدد الصالح العام؟ كيف لخدام البورجوازية الذين ينالون مداخيل تساوي عشرات أضعف أجرة عامل أو عاملة أن يحددوا للشغيلة متى تضرب وأين وكيف؟
يطالب البورجوازيون عند التصويت على قرار الإضراب نسبة مرتفعة قد تصل ثلاث أرباع الشغيلة في مقاولة من اجل التقرير في الإضراب، ولا يشترطون نفس النسبة لقبول بنتائج المفاوضات. يقبلون برئيس دولة منتخب بنسبة 51 في المائة وبنسبة مشاركة في الانتخابات قد تقل عن نصف عدد الناخبين في البلد و يعتبرون المؤسسات البورجوازية شرعية؟
ما العمل؟
استمرار النظام الرأسمالي العالمي، الذي يعرف أزمة متعددة الأبعاد ومدمرة للبيئة، يهدد بوضوح متزايد، كل الحريات الديمقراطية الجزئية التي انتزعتها الجماهير في مرحلة صعود هذا النظام.
تشتغل الطبقة العاملة في ظل أخطار قاتلة يوميا. الأمراض المهنية والتشويهات الجسدية أكبر شاهد على ذلك. ودون تنظيم تكون الشغيلة عرضة لأبشع أنواع الاستغلال والتدمير. النضال النقابي والسياسي للطبقة العاملة وحده يمكن من إنقاذ المجتمع من التفسخ ومن الحروب الوحشية. النضال وحده حقق المكاسب. لا يجب قبول مبدأ تقنين حق القيام بالإضراب من الأصل، لأن هذا التقنين ما هو إلا شكل من أشكال المنع.
لا يجب القبول بالسلم الاجتماعي فحرب أرباب العمل ودولتهم لا تتوقف : إذا حقق الأجراء مكسب رفع الأجور، فالبورجوازية تسترده برفع الأسعار ومهاجمة صندوق دعم المواد الأساسية و تفكيك الخدمات العمومية.
بشكل عام، يجب العمل على فضح تناقضات المجتمع الطبقي و أسسه و تبيان سبل تجاوزه. ورفع الوعي السياسي والطبقي للشغيلة. بهدف تجاوز الضعف السياسي للطبقة العاملة، والذي يتجلى في عدم وجود أحزاب عمالية طبقية ومعادية للرأسمال والاستغلال. أحزاب تسعى لبناء نظام اقتصادي واجتماعي خال من القهر والاستغلال.
بشكل خاص، لمواجهة الهجوم على حرية الإضراب، يجب العمل على أكبر تنسيق نقابي مع كل مكونات الحركة النقابية المناهضة لقانون الإضراب التكبيلي. ورفض أي تدخل في شؤون النقابة تحت أي صفة. توسيع التضامن مع ضحايا القمع.
تشهد الحركة العفوية للعمال والعاملات الزراعيين والزراعيات باشتوكة، ضد بؤس الأجور وبشاعة الاستغلال، على أنه مهما كانت القوانين قمعية، فإنها لن تستطيع تكبيل النضال ، رغم أنها قد تعيقه أحيانا.
تمرير القانون يكشف وحشية استغلال البورجوازية و هو أمر سيسهم في فتح أعين الشغيلة على نفاق الدولة البورجوازية. هذه الدولة التي تحمي الأغنياء و تكتم صراخ المضطهدَات والمضطهدِين.
ملاحظة: هذه صيغة محينة لمداخلة “جمعية أطاك المغرب – مجموعة طنجة” في الندوة التي نظمتها “التنسيقية الوطنية للأساتذة وأطر الدعم الذين فرض عليهم التعاقد” بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة وذلك يوم 2 يونيو 2024 بمدينة طنجة.
طنجة في : 27 دجنبر 2024