غير مصنف

مكانة التطبيع في السياق النيوليبرالي المغربي

لماذا يجب الحديث عن تطبيع صهيونيوليبرالي؟

هذا النص هو في الأصل مداخلة في الندوة الافتتاحية للجامعة الربيعية التاسعة عشر لجمعية اطاك المغرب

التطبيع: فكرة صهيونية خالصة

بداية وجب التأكيد عن كون ما يسمى تطبيعا هو مفهوم ابتدعته الصهيونية ذاتها، ليس في علاقتها بالمحيط العربي، وبالصراع العربي الصهيوني، بل بمناسبتين أساسيتين: تطبيع يهود الشتات المنتمين إلى أمم متعددة وإعادتهم إلى طبيعتهمكأمة واحدة في سياق تأسيس إسرائيل، والتطبيع مع الرأسمالية الألمانية المعاد بناؤها في الشطر الغربي من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. هناك بدأ الحديث إسرائيليا عن تطبيع للعلاقات مع الدولة الألمانية، اقتصاديا. كان ذلك في سياق آخر على كل المستويات السياسية والاقتصادية، متميز أساسا في الكيان الصهيوني بنموذج اقتصادي تسيطر فيه الدولة (والهستدروت ، اتحاد النقابات العمالية) على غالبية الشركات الكبيرة وحيث تلعب صناعة الأسلحة (المملوكة للدولة) دورا مركزيا.

التطبيع في الشرق الأوسط والسياسات النيوليبرالية: ارتباط قديم

لكن اتفاقيات كامب ديفيد للسلام مع مصر تزامنت مع ديناميتين: من جهة صعود اليمين الصهيوني للحكم، عبر برنامج قائم أساسا على تفكيك النموذج الاقتصادي السائد والبدء في سلك طريق نيوليبرالي مبكر في إسرائيل، ومن جهة أخرى تفكيك النموذج الاقتصادي الناصري في مصر عبر ما عرف بسياسة الانفتاح وهي إجراءات ذات نفس نيوليبرالي، لكن ما كانت تسميه إسرائيل في ذاك الوقت بالتطبيع عبر الإحالة إلى التطبيع الألماني (الذي تكون فيه الحركة الصهيونية هي الضحية)، وسماه النظام المصري إقامة علاقات طبيعية، كان قائما أساسا على منظور للتطبيع السياسي عبر الاعتراف بحق الدولة الصهيونية في الوجود، وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام مع إقامة علاقات اقتصادية باعتبارها قاعدة لعلاقات أعمق، ومع متغير جديد بالمنطقة تمثل في تصاعد الهيمنة الامريكية وارتهان كل القوى الإقليمية بها…

نشأت إذن اتفاقيات “السلام” الثلاث الأولى (مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية) في سياق نشوء وتوطد السياسات الليبرالية عالميا، ونظر إليها منجانب البورجوازيات العربية، أنها تمثل مدخلا لمزيد من الارتباط بالامبريالياتالغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وقد انعكس ذلك في مزيد من ربط هاته البورجوازيات بداعميها الغربيين، بالشكل الذي سمح لهم بهامش الاستمرار في الحديث عن حل دولتين وعن اعتبار حل القضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية على ما احتل في يونيو 1967 مدخلا لإقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، وهو ما أعلنته أنظمة المنطقة في قمة بيروت عبر مبادرة الملك السعودي. لكن الكيان الصهيوني كانت تخترقه نقاشات جديدة، نأخذ منها منظورين نيوليبراليين ذوي دلالة خاصة، منظور شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد (وهو عنوان كتابه الصادر سنة 1996)، ومنظور نتانياهو الذي بدأ بالتبلور (1996).

منظوران صهيونيان للتطبيع بالمنطقة

قام منظور الشرق الأوسط الجديد على فكرة مفادها أن كل العقائد المتعلقة بالصراع سواء كانت قومية متعلقة بالتحرر الوطني أو دينية بمختلف مضامينها، يمكنها أن تذوب وتتلاشى بفعل المصالح الاقتصادية والرخاء والقضاء على الفقر والذي لن يتحقق سوى “بالسلام”.
وهذا نلمح ظلاله حاليا في تبريرات اعلامية ورسمية للتطبيع، وبشكل مكثف يثبت أن الهدف هو استبدال كافة العقائد بعقيدة المصلحة. في صدى شرق أوسطي لمقولة نهاية الأيديولوجيا ونهاية التاريخ…

بينما يقوم منظور نتانياهو على أن بناء اقتصاد موجه نحو التصدير من المتوقع أن يبني مرونة جيوسياسية (تحرر إسرائيل جزئيا من الوصاية الأميريكية) من خلال استراتيجية تجارية متنوعة، وانخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، واحتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي.

تطلب تطبيق هذا النموذج أيضا إلغاء القيود التنظيمية (التعديلات القضائية جزء رئيسي منها) وخفض الإنفاق الاجتماعي بشكل صارم، مما أدى إلى عدم المساواة بشكل مذهل وتفاقم الفقر [تايمز أوف إسرائيل، 23 ديسمبر 2021، بعنوان “أكثر من 2.5 مليون إسرائيلي يعيشون في فقر، بما في ذلك 1.1 مليون طفل”]. لقد انهار نظام الحماية الاجتماعية، لكن الاستثمار الأجنبي ازداد. لم يتم توزيع ثروة إسرائيل الجديدة بشكل عادل، لكن النخبة الاقتصادية كانت راضية عن ذلك.

بفضل هذا النموذج، تمكنت إسرائيل من تنويع مصالحها الاقتصادية في جميع أنحاء العالم وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة إلى حد ما.

لم تستند علاقات نتنياهو مع قادة العالم مثل فلاديمير بوتين وناريندرا مودي إلى ميله إلى القوميين العدوانيين ذوي التفكير المماثل فحسب، بل استندت أيضا إلى استراتيجية لإعادة التوازن إلى موقف إسرائيل في المجال العالمي وجعلها شريكا تجاريا وعسكريا قيما.

عشية السابع من أكتوبر 2023، كان منظور نتانياهو يعيش لحظة مواجهةالكبرى مع جزء من المجتمع الصهيوني، بينما تساوق هو مع الميلان العالمي نحو فاشيات جديدة….، منتشيا بتحقيق انتصارات تطبيعية ليس فقط مع الدولة الصهيونية، بل مع تأبيد احتلال ما تبقى من فلسطين، ومع القاعدة النيوليبراليةلهذا التطبيع، ليس فقط تحت هيمنة اميريكية بل تحت هيمنة الكيان الصهيونيالمتساوق مع رؤية أمريكية، عبرت عنه بشكل واضح اتفاقية التجارة الحرة مع الإمارات العربية المتحدة.

لكن السياق النيوليبرالي الجديد له خصوصية عما سبقه: فما بعد عام 2008 تزامن تطرف وتوطد الأرثودوكسية النيوليبرالية مع نمو النزعة الحمائية، ومفاعيل هاته الأخيرة لا زالت في بدايتها، لكن لها نتائج آنية: تضاعف السعي للابتكار التكنولوجي والذكاء الاصطناعي واستمرار الاعتماد على الوقود الاحفوري، بما أعطانا تنافسا امبرياليا محموما على المعادن الحرجة. وعلى عودة السعي للإلحاقات من جديد: الحديث عن غرينلاند ماهو إلا محطة من هاته المحطات، وبداخلها منظور تصفية تامة للقضية الفلسطينية مدخلها: مشاريع إعمار غزة بإخلائها من الفلسطينيين: التي ليست فقط مشروعا ترامبيا بل هناك تصور إماراتي/عربي لذلك (استملاك غزة من قبل شركة استثمارية عملاقة، برأسمال عربي/ دولي بقيمة 50 مليار دولار) وهي جزء من الخطة النيوليبرالية العامة للمنطقة. استخلاص هذه الرؤية من تصريحات لـ”ترامب”، ومؤخراً لـ”ويتكوف”، تنظر إلى غزة كفرصة استثمارية عقارية، وإلى سكانها الفلسطينيين كأيد عاملة رخيصة وشديدة المرونة، الذي، بحسب رأيهم، سيحل مشاكل الجميع من دون الحاجة إلى التفاوض حول الحقوق أو الأرض أو الحدود. أي، أنه بدلا من الوصول إلى حل للوضع الدائم يُقر بالحقوق الفلسطينية في فلسطين، أو بدلا من العودة إلى سياسات ما قبل 2023 للاحتواء غير المتكافئ، على افتراض وجود “طريق نحو حل الدولتين” (بحسب وصفة إدارة “بايدن” السابقة)، فإن الإدارة الأمريكية حسمت الجدل اللامنتهي، من دون المزيد من اللف والدوران. فقرار “ترامب” هو توظيف السلام الاقتصادي، والازدهار المادي، ليس كحافز لتحقيق “سلام عادل”، أو حتى كوسيلة لتأجيل إنهاء الصراع مثلما تعودنا، بل صار السلام الاقتصادي هو الحل الوحيد المطروح شكلا ومضمونا.

وسط هذه اللوحة كيف يبدو التطبيع المغربي؟

السياق الاقتصادي: استدخال قرارات المؤسسات المالية في السياسات العمومية حتى دون فرضها – وهو ما يعبر عنه بوضوح ما يسمى النموذج التنموي الجديد، والذي يتم فيه المضي قدما في تعميق النموذج النيوليبرالي: خوصصة متسارعة  – إخضاع الخدمات العمومية وأنظمة الحماية الاجتماعية لمنطق السوق إعادة هيكلة القطاع المالي ومشروع تحرير صرف الدرهم تعديل القوانين الضريبية لصالح رأسالمال فتح المجال لحرية الاستثمار وتنقل الرساميل …

السياق السياسي: الاجماع النيوليبرالي (النخب الحاكمة – اليسار التاريخي (الاتحاد والتقدم) – الإسلاميون (العدالة والتنمية والسلفيون) – الحل النيوليبرالي/الاستخراجي لقضايا الخلاف بشمال إفريقيا: قوامه جعلها فضاء مفتوح للاستثمار العالمي وللأنشطة الاستخراجية، ضعف حاد لليسار والحركة النقابية بما يجعل طرح وفرض بدائل مسألة بالغة الصعوبة.

السياق الاجتماعي: حداثيون دون حداثة واسلام نيوليبرالي/استهلاكي: تهييئ الأرضية المجتمعية على مهل لتطبيع “شعبي”.

مكانة التطبيع في السياق:

العلاقات مع إسرائيل: من الاعتراف بإسرائيل كامتداد للتموقع في ذيل الغرب الرأسمالي وفق المنظور المعروض أعلاه من اعتبار إقامة علاقات مع الكيان تسهل على الطبقات السائدة تعظيم منافعها من تبعيتها للمراكز الامبريالية، إلى الاعتراف بإسرائيل كفرصة، وفقا لشعارات السلام الجديدة: السلام مقابل الاقتصاد. أي الاعتماد على ما يوفره منظور إسرائيل المعروض أعلاه في جعل المنطقة سوقا لمنتجاتها ولأدوات تفوقها: الصناعات العسكرية – التكنولوجيات الجدية – القطاع الفلاحي والسياسات المائية. وفتح المجال واسعا لها للاستثمار في البلد.

– العلاقة السياسية: اتفاقيات أبراهام

تقوم اتفاقيات إبراهام على أركان خمس: 

+ السلام في مقابل الاقتصاد: إي توفير بيئة شاملة بالمنطقة لتوسع الاستثمارات باعتبار ذلك الهدف النهائي، لم يعد الحديث عن تحرر وطني أو استقلال، بل كل الحديث عن المال والأعمال.

+ “ملائكية إسرائيل” و”شيطانية الفلسطينيين”: في هذه اللوحة، يبقى الفلسطيني الرافض و”المتنطع” هو العقبة الشيطانية، هو ذلك المتطرف المتمسك بمقولات من الماضي حول الاستقلال والعودة وتقرير المصير، بينما الإسرائيلي فهو المبشر بالرخاء الاقتصادي والقضاء على أسباب الفقر والكراهية.

+ “خلجنة” المشهد السياسي العربي: أضحت ممالك الخليج نموذجا يجب الاحتذاء به، بعد أن فشلت كل محاولات شعوب المنطقة للتحرر من الهيمنة ومواجهة المسان الصهيوني.  

+ المزايدة على حالات التطبيع السابقة: أي المزايدة على التطبيعين المصري والأردني، بالعمل على جعل التطبيع شاملا كل المناحي. 

+ تطبيع لا حدود له ولا سقف: وهو الهدف النهائي للمشروع الصهيونيوليبراليبالمنطقة.

– العلاقات الاقتصادية: اتفاق تبادل حر في الأفق

البداية كانت بأربع اتفاقيات: الاتفاقية الأولى مرتبطة بالإعفاء من إجراءاتالتأشيرة بالنسبة لحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات الخدمة؛ بينماالثانية، مذكرة تفاهم في مجال الطيران المدني، والثالثة، مذكرة تفاهم حول”الابتكار وتطوير الموارد المائية”. وتنص الاتفاقية الرابعة على إنعاش العلاقاتالاقتصادية بين البلدين، من خلال التجارة والاستثمار، إضافة إلى التفاوضحول اتفاقيات أخرى تؤطر هذه العلاقات.

   “عمليا، وحين نقوم بالمقارنة، نجد أنفسنا أمام اقتصادين يقومان على أرضية نيوليبرالية متفاوتة التطور ومختلفين كميا ونوعيا، الاقتصاد الاسرائيلي يمثل كمياما يمثل أربع مرات الاقتصاد المغربي”. “الناتج الداخلي “الإسرائيلي” يبلغحوالي 400 مليار دولار، والناتج الداخلي للمغرب يصل 115 مليار دولار.. نصيب الفرد من الناتج الداخلي 40-45 ألف دولار في “إسرائيل”، وفي المغرب3000 دولار”.

إذن هي علاقات اقتصادية بين “بلد متقدم” يتعامل مع بلد متخلف. فالمغربليس له منتجات عالية القيمة المضافة ليصدرها للكيان، وبالتالي سيصبحسوقا له ليس إلا. سنستورد فيه أمراضا خبيثة ستمس كل شيء مثلما استوردنا مرضا خبيثا أصاب الطماطم المغربية.

الأمل في المقاومة العمالية والشعبية

وسط هاته اللوحة تنتصب المقاومة الشعبية بالمغرب لسياسة التطبيع، وفي قلبها التململ العمالي ضد استعمال الموانئ المغربية كمحطات شحن وتفريغ ومرور الأسلحة للكيان” كأمل في انبعاث حركة شعبية لمناهضة التطبيع باعتباره أحد أشكال فرط استغلالنا وتهديد السيادة الوطنية والقضاء على امل بناء السيادة الشعبية على وطننا وعلى مقدراته وعلى مستقبله… يتطلب توطيد وتوسيع هاته الحركة الشعبية إنماء متزايدا للوعي بتلازم النضال ضد الصهيونية بالنضال ضد الرأسمالية وضد سياسات طورها النيوليبرالي. 

يونس الحبوسي

زر الذهاب إلى الأعلى