البيئة

الجزائر: رهن السيادة الغذائية وتنمية أرباح كبار المستثمرين الرأسماليين

تميّزت الفترة الاستعماريّة بفرض رأسماليّة فلاحيّة في خدمة المعمرّين و ملاّك الأرض المحليّين و هذا بتحطيم البنية الاجتماعيّة (النّظام القبلي الجموعي) و اتلاف القاعدة الاقتصاديّة’ ما رهن السّيادة الغذائيّة للجزائريّين. ارتكز الإنتاج الفلاحي الاستعماري على المواد السّلعية (الخمور،الحمضيات،التبغ) المخصّصة للتّصدير إلى السوق العالميّة في سياق اللّيبرالية الاحتكاريّة على حساب جماهير الفلاّحين المفقّرة.

مثل الفلاحون محرّك الثّورة التّحريرية كما أن مسألة الأرض  كانت جوهر الحركة الوطنيّة الثّورية منذ انتفاضة الخطابي1926 ’إنشاء نجم شمال إفريقيا إلى غاية حرب التحرير(54-62)’ حيث بدل الاستعمار قصارى جهده لمنع التضامن و الوحدة العضوية للحركات التحررية المغاربية تحت قيادة الفلاحين من أجل استرجاع الأرض. تجلّى هذا بإنشاء خطّي شال و موريس على الحدود التونسيّية و المغربيّة في1956لقطع الارتباط الأرضي بين الشعوب الشّقيقة عسكريّا (اكبر تركيز للألغام في العالم) .

تمّ استرجاع الأرض في الجزائر غداة الاستقلال في إطار ما يسمّى بالتّسيير الذّاتي بعد ما تحكّم العمال الزّراعيون في الضيعات الاستعمارية صيف 1962،لكن هذا الحراك تم تأطيره سريعا من قبل الدولة الناشئة (قانون مارس 63). تعمّق هذا التّأطير عبر تأميم كل الأراضي الزّراعية تحت شعار “الأرض لمن يخدمها” في 1971، حيث أنشئت أكثر من 5000 تعاونيّة  فلاحية في مجالات الإنتاج ،التسويق و الإدارة بهدف بناء القاعدة الماديّة للاستقلال و السّيادة الشّعبية عبر تحقيق الاكتفاء الذّاتي. لكن ظروف المعارضة الشّديدة لملاك الأراضي و حلفائهم ذوي التوجه اللّيبرالي داخل الحزب الواحد تحت الغطاء الديني مضافة إلى الطابع التنظيمي الهرمي الممركز (القابل للتبقرط) الذي صبغ الاصلاح، أتم دفن تجربة الّثورة الزراعية أواخر السبعينيات مدشنا عهد التبعية الاقتصادية.

التبادل  الحر يفرض نفسه

تمّ حل التّعاونيات الفلاحيّة مطلع الثّمانينات في إطار”إعادة الهيكلة الاقتصادية” عبر إصلاح سلك القرض الزّراعي، و تحرير أسعار الخدمات بالإضافة إلى سوق المنتوجات الزّراعية، لفائدة المتعاملين الخواص. مُنحت في هذا السّياق اكتر من 2.8 مليون هكتار من الأراضي المؤمّمة في صيغ”امتيازات على الاستفادة الدّائمة” لصالح المستثمرين الخواص. أصبح هذا ممكنا بواسطة اجتهاد قانوني يفصل بين الملكية التي هي في يد الدولة و حقوق الاستغلال في وسائل الإنتاج و المنتجات لصالح المستثمرين الخواص. بالإضافة إلى قانون “التوجيه العقاري1990” الّذي اتم بناء الإطار اللّيبرالي للقطاع الفلاحي. هذا ما مكّن من نمو السّوق الموازية والمضاربة (حقوق الاستغلال؛ المنتوجات) ،عمّق التبعية للواردات و أجهض كل أفق تحقيق السيادة الغذائية.

عرفت سنوات التسعينيات فرض التبادل الحر و قانون السوق في جو سياسي مشحون ميزه التحالف الدامي بين ملاك الأرض و التجار المضاربين في سبيل اقتصاد السوق وراء القناع الديني الظلامي بوسيلة السطو الإرهابي و الرعب الممنهج.

في ظل أزمة المديونية تم تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي في شكل خطة التعديل الهيكلي الناصة على وجوب تحرير سائر المبادلات التجارية تجسيدا لتوافق واشنطن، هذا ما عمق تبعية القطاع الفلاحي للبذور المستوردة و التبعية  في مجال المواد الإستراتيجية (القمح، الحليب) و فجر ممارسة المضاربة بما أن المنتوجات المحلية غير كافية لتلبية الحاجة الوطنيّة (الخضر، الفواكه، اللحوم). هكذا إذا ارتفعت نسبة الواردات الغذائيّة إلى 31 % من مجمل الواردات في 1998. عرفت الظّروف المعيشيّة للفلاّحين تدهورا كبيرا، حيث اجبر انعدام الأمن، التفقير و اللاّعدل الصّارخ آلافا منهم إلى الهجرة القسرية نحو المدن.

عقود التبادل الحر و خطط  تنمية الأوليغارشيا

عرفت بداية الألفية الجديدة ارتفاعا محسوسا في أسعار البرميل، ما سمح بامتصاص أزمة المديونيّة وفتح أبواب ما سمي باقتصاد الاستيراد أو الريع، في هذا الصّدد وقّع عقد الشراكة و التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي في 2002. استوردت الجزائر أكثر من 250 مليا ر دولار من الاتحاد الأوروبي بينها 3 ملايير دولار قمح سنويّا لأكثر من عشر سنوات. تكلفت الدّولة بدعم المواد الإستراتيجية المستوردة من قبل خواص، ما مكنهم على غرار يسعد أرباب (الزيت،السكر) من تسجيل أرباح باهظة عن طريق الاستفادة من سقوط الحواجز الجبائية، سياسات الدعم، اتساع السوق المحلية المحتكرة و تصدير الفائض إلى دول المنطقة حيث المواد غير مدعمة عن طريق المنطقة العربية للتبادل الحر. هكذا استطاعت سيفيتال أن تصبح أكبر متعامل بقطاع “الصناعات الزراعية” في المنطقتين العربية والأفريقية.

شكلت الخطّة الوطنية للتنمية الفلاحيّة هيكل تأطير أُريد” لتشجيع الاستثمارات الفلاحية الكبرى” عن طريق التمويل لإنشاء مؤسّسات فلاحية. هدف الخطة استصلاح أكثر من 3 ملايين هكتار و تركيز إنتاج القمح في 1.2 منها لامتصاص التبعية في هذه المادة الإستراتيجية، عن طريق تطبيق توصيات البنك العالمي و الفاو لتحسين مردود الأراضي باعتبار التوازنات البيئية و الإقليمية. هذا لتحقيق”الأمن الغذائي”.

لكن هذا المثال التنظيمي (المؤسسة الاقتصادية) بعيد جدا عن حقيقة 950000 عائلة فلاحية لم يجر تكوينها على الإجراءات القرضية (صياغة المشاريع) مثلا، الأغلبية الساحقة لا تملك عقود الملكية  التي تعتبر شرطا مفروضا من المؤسسات المالية.  في نفس الوقت تكونت و تطورت سريعا شريحة برجوازية صغيرة وبرجوازية جديدة) بتحويل أموال الدعم الفلاحي عبر طرق ملتوية طفيلية (الفساد، المحسوبية)، بالإضافة إلى استقرار  شبكات استيراد وسائل  الإنتاج، البذور و الأسمدة تحت مظلة عقود التبادل الحر بدعم من المال العمومي و لتسويقه للفلاحين، ما عمق التبعية العامة وقوى المقاولة الخاصة الافتراسية.

الأزمة الماليّة و حل الزّراعة التّصديرية

إضافة إلى تنمية أرباح بارونات الموانئ وتعميق الفوارق الطبقية و تضرر الفلاحين الصغار،  تسبّب النّموذج الاستيرادي الاستهلاكي في إصابة الملايين من المواطنين بأمراض مزمنة متّصلة مباشرة بالنّظام الغذائي التّبعي المتدنّي (داء السّكري، أمراض القلب، الضّغط الدّموي، البدانة، السّرطان…) ما عاد بالفائدة على الشّركات الصّيدلانية متعدّدة الجنسيّات و خلف تكاليف باهظة للصحّة العمومية المتأزّمة.

أدّى تهاوي أسعار النّفط في 2014 بالحكومة إلى إعادة النّظر الطّارئة في ضرورة تخفيض تكلفة الواردات، تم هذا بانتهاج التقشف في الميزانية و إعادة النظر في اتفاقيات التّبادل الحر (المنطقة العربيّة للتّبادل الحر، عقد الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي)عبر إعادة إدماج التكاليف الجمركية ابتداء من 2016 “لحماية المنتوج الوطني “.في نفس السياق و في إطار التنقل من”التنمية إلى النمو” حثت الحكومة الخواص المستفيدين من خطّة التنمية الفلاحيّة على استثمار رساميلهم البدائية و  تبنّي نموذج الزّراعة التّصديرية بهدف جلب العملة الصّعبة وفرضية تحقيق الاكتفاء الذاتي.

يمتاز هذا النموذج بالاستعمال المفرط للمياه في مستغلات  كبيرة المساحة، الاستعمال الكبير للمبيدات و الأسمدة الكيمائية المدمّرة للتوازنات البيئية و البذور المستوردة و المعدلة جينيا.منذ 2015 يسجل هذا النموذج نموّا هاما بأكثر من 8%كمعدل  سنوية’ هذا ما يلفت اهتمام كل المقاولين و السماسرة  الراغبين في تحصيل الأرباح في ظل تعمق التبعية الغذائية. فمن المبرهن عليه إن الفلاحة الصناعية الموجهة للسوق العالمي لا تحل مشكل التبعية بل و تعمق من استغلال العمال الزراعيين’ من معاناة الفلاحين الصغار المهددين بالزوال وهذا بتكريس هيمنة الشركات العابرة للأوطان’ السوق “الحرة” والمضاربين (البرازيل،المغرب…).

يفتح هذا الوضع التبعي للجزائر في المجال الزراعي و الفلاحي أفق نضالات اجتماعية في المستقبل القريب، فلنعد العدة للقادم من انتفاضات شعبية، ولنعمل على تقديم بدائل مناهضة للرأسمالية.

سفيان بارودي

مناضل جزائري

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى