الاتفاقات الاستعماريةالبيئة

أزمة فيروس كورونا: انتشار الأوبئة ناتج عن طبيعة الغذاء والنموذج الزراعي السائد

 أصبحت الجوائح، على غرار الظواهر المناخية القصوى (موجات الجفاف، وموجات الحر، والفيضانات، والأعاصير)، دورية في القرن 21. فالفيروس المسمى “المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة” (SRAS) ظهر كتهديد عالمي في مارس 2003، ثم إنفلونزا الخنازير في 2009، وإيبولا في 2014، وكورونا في 2020. وليست التغيرات المناخية سوى جزء من الأزمة البيئية التي بات مستوى تدميرها للتنوع الإحيائي يوصف بالانقراض الجماعي الكبير السادس في تاريخ كوكب الأرض. كما أن انتشار الأوبئة ليس سوى أحد تجليات الأزمات الصحية الناتجة أساسا عن طبيعة النظام الغذائي المرتبط بالنموذج الزراعي الصناعي والتجاري السائد. فغالبية المواد الغذائية المعروضة حاليا في الأسواق من خضر وفواكه وزيوت ولحوم حمراء وبيضاء وتوابل وغيرها مضرة بالصحة، وتقلل المناعة، وتسهل الإصابة بالأمراض. فليس إذن ظهور فيروس كورونا حدثا عرضيا أو صنعته مختبرات دولة بالمؤامرة. إن هشاشة المناعة الصحية أمام خطورة عدواه ترتبط بسلاسل الإنتاج النباتي والحيواني والتوزيع والاستهلاك التي تهيمن عليها الشركات متعددة الجنسيات. وتفشيه السريع تسهله عولمة النقل والمواصلات، وتوسع التمدن، وأحزمة البؤس التي تغذيها الهجرة القروية الناتجة عن إفقار جماهير الفلاحين الصغار. فكورونا إذن في قلب النظام الرأسمالي المعولم. وهنا تكمن الأسباب الهيكلية لظهوره ولغيره من الفيروسات الوبائية وتواترها. ولا يمكن القضاء عليها فقط بالتدابير الاحترازية وحالات الحجر والطوارئ الصحية، بل بتغيير جذري للرأسمالية.

توسع نمط الإنتاج الرأسمالي في الزراعة ودمر الفلاحة المعيشية، واستحوذت الشركات متعددة الجنسيات باسم الملكية الفكرية وبراءة الاختراع على الموروث الجيني الذي راكمه الفلاحون الصغار. وتعممت أصناف البذور الهجينة وسلالات الماشية التي تعدل في المختبرات وفق منطق إنتاجوي. وتشكل هذه الأنواع أساس الزراعة الأحادية المدمرة للأرض، وتقنيات الإنتاج التي تستعمل الأسمدة الكيماوية والمبيدات السامة، والأعلاف الصناعية والهرمونات والمضادات الحيوية في تربية الحيوانات.

وتقابل وفرة المنتجات معاناة ملايين الأشخاص عبر العالم من الجوع[1] وما يصاحبه من أمراض وأوبئة ووفيات، ويتركزون في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.

إن هذه الأرقام لا تعكس حقيقة سوء التغذية الذي تعانيه شعوب بلدان الجنوب التي تنهب مقاولات بلدان الشمال ثرواتها، وتفرض عليها مؤسسات الرأسمال العالمي سياسات فلاحية تدمر نظُمها الغذائية والزراعية.

في المغرب، ارتكز “مخطط المغرب الأخضر” في الفلاحة الذي اعتمدته الدولة منذ سنة 2008 على تحسين شروط الاستثمار الخاص الذي تطالب به الشركات متعددة الجنسيات، وتوسيع الدعم المالي العمومي لكبار المنتجين والمصدرين. وبالمقابل، تعمق تهميش زراعات الحبوب والقطاني، أي أكثر من 61% من المساحة الزراعية الاجمالية للبلد، التي يرتبط بها غالبية الفلاحين الصغار (أكثر من مليون فلاح). وتمثلت حصيلة عشر سنوات من تطبيق هذا المخطط في احتداد التبعية الغذائية.

تمثل الطماطم والحوامض نسبة 32% من قيمة الصادرات الغذائية كمعدل في العشر سنوات الأخيرة، والحبوب حوالي 35 % من قيمة الواردات الفلاحية. هكذا أصبح نظامنا الغذائي مرتبطا بكبار المنتجين والمصدرين والمستوردين. وغزت المواد الغذائية القادمة من البلدان المتقدمة الأسواق، وتغيرت عادات أكل المغاربة ومحتويات أطباقهم. ويلعب الإشهار، كأحد أدوات الرأسمالية الفعالة، دورا رئيسيا في توجيه الاستهلاك نحو منتجات الصناعات الغذائية مستهدفا الأطفال والشباب بصورة أساسية. ويفرض تدني القدرة الشرائية لدى غالبية الأجراء والشرائح الشعبية اقتناء ليس ما هو مفيد للصحة بل ما هو أرخص. فحسب أرقام منظمة الأغذية والزراعة لسنة 2018، يشمل سوء التغذية الناتج عن الفقر حوالي 4% من مجموع السكان المغاربة، و12% من الأطفال ما دون سن الخامسة. ويفاقم ارتفاع الأسعار وتقليص الدولة الكبير لميزانية صندوق دعم مواد الاستهلاك الرئيسة (المقاصة) ضعف سلة السوق الأسبوعي لغالبية الأسر كما ونوعا. كما أن استهلاك السمك لا يتعدى ما بين 10 و12 كيلوغراما للمغربي في السنة، ويبقى بعيدا عن معدلات الاستهلاك العالمية التي تتراوح بين 17 و20 كيلو دائما حسب منظمة الأغذية والزراعة. وهكذا تحتد هشاشة صحة الغالبية من السكان، وتكثر الأمراض والعدوى التي تصيبها في ظل نظام صحي عمومي ضعيف التجهيزات والبنيات والأدوية بعد أن دمرته السياسات الليبرالية.

إن الرأسماليين الزراعيين الكبار الذين يدعمهم “مخطط المغرب الأخضر” لا يهمهم توفير غذاء صحي بقدر ما يبحثون عن زراعات ذات مردودية عالية للتصدير. كما يستغل قسم منهم الخصاص الكبير في المواد الغذائية الأساسية لاستيرادها والمضاربة فيها. وتوسع في السنوات الأخيرة استحواذهم على الأراضي والمياه والغابات ومجالات الرعي والثروات المحلية لصغار الفلاحين، كشجر الأركان والتمور والزعفران، إلخ. كما يسمح مخطط أليوتيس في البحر بتنامي استحواذ أقلية من الرأسماليين محليين وأجانب على الثروة البحرية المتوفرة، وتوجيهها أساسا للتصدير هي أيضا.  وبالمقابل تسارعت سيرورة افقار جماهير صغار الفلاحين الصغار، والبحارة، والرعاة، والعاملات والعمال الزراعيين، وهم قاعدة إنتاج الغذاء الفعلية. هذه القاعدة هي التي تخاطر حاليا بحياتها، مع تفشي فيروس كورونا، لتتواصل عملية الإنتاج بظل استهتار أرباب العمل بتنصلهم من توفير وسائل الوقاية في أماكن العمل، وغياب دعم الدولة لقوتها الشرائية بظل ارتفاع أسعار المواد والخدمات المرتبط بأزمة كورونا.

إن إنتاجا زراعيا يضمن غذاء صحيا للشعب يتعارض مع منطق الربح الذي يرتكز عليه النموذج الفلاحي المالي، التصديري، الصناعي، والتجاري الذي تنهجه الدولة المغربية ويرعاه ثالوث البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. لذا تطرح جمعية أطاك المغرب بديل السيادة الغذائية الذي استلهمته من تجارب النضال والشبكات الدولية وضمنها أساسا حركة نهج المزارعين الدولية (لافيا كامبسينا). وبسطته للنقاش في عديد من اللقاءات المحلية مع صغار المزارعين والمزارعات، والبحارة، والمهنيين الغابويين، والرعاة، والعاملات والعمال الزراعيين، جمعت خلاصاتها في دراسة ميدانية أصدرتها في أكتوبر المنصرم (2019)[2].

وتعني السيادة الغذائية “حق الشعوب بغذاء صحي يحترم الثقافات، وينتَج بطرق مستدامة ومحترمة للبيئة، وتعني أيضا حقها بتحديد نظمها الغذائية والزراعية. وتضع السيادة الغذائية تطلعات واحتياجات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء بقلب النظم والسياسات الغذائية بدلا من متطلبات الأسواق والشركات متعددة الجنسيات…وتعطي السيادة الغذائية الأولوية للاقتصادات والأسواق المحلية والقومية، وتعمل على تمكين الفلاحة والزراعة الأسرية، والصيد الحرفي، والرعي الذي يقوده الرعاة، وإنتاج الأغذية وتوزيعها واستهلاكها على أساس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية…وتضمن السيادة الغذائية أن تكون حقوق استخدام الأراضي والمجالات الترابية والمياه والبذور والماشية والتنوع البيولوجي وتدبيرها، بين أيدي اللواتي وأولئك الذين ينتجون الغذاء[3]“.

وتترافق السيادة الغذائية مع إصلاح زراعي شامل وشعبي يضمن توزيعا ديمقراطيا للأرض، وولوج الأسر الفلاحية الى جميع العناصر التي تمكنها من حياة لائقة كالمياه، والبحار، والبذور، وكذا تنظيم السوق. وتنطوي أيضا على تكثيف الزراعة البيئية كشكل لإنتاج غذاء صحي ومحترم للبيئة وقادر على إبطاء تغير المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي.

إن بديل السيادة الغذائية أصبح جد ملموس بفعل تراكمات تجارب قاعدته الاجتماعية (فلاحون وبحارة وعمال زراعيون…) في الشبكات المناضلة على المستوى العالمي طيلة 30 سنة الماضية. ويمكن أن نشير الى إحدى الإنجازات المهمة التي حققتها والمتمثلة في إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحقوق الفلاحين وغيرهم من العاملين بالمناطق الريفية، والذي جرى اعتماده يوم 17 دجنبر 2018 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بدورتها 73 المنعقدة بنيويورك[4].

وبينت دراسة جمعية أطاك من خلال خلاصات لقاءاتها المباشرة مع المنتجين المباشرين الطاقة النضالية الكامنة لدى صغار الفلاحين والبحارة والرعاة ومربي الماشية والعاملات والعمال الزراعيين، واستعدادهم للتنظيم لصد هجوم الرأسمال الذي يسحقهم ومن أجل بديل السيادة الغذائية. ولتحقيق ذلك، لا بد أن يصطف بجانبهم الشباب والنساء، المناضلون النقابيون، والجمعويون، والسياسيون الكفاحيون بالقرى والمدن، وجميع الفئات الشعبية المعنية بنمط غذاء صحي وبيئي.

25 مارس 2020

أزيكي عمر

عضو السكرتارية الوطنية لجمعية أطاك المغرب

[1] – تعريف منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة: ما هو الجوع؟ الجوع إحساس جسدي غير مريح أو مؤلم بسبب عدم كفاية استهلاك الطاقة الغذائية. يصبح مزمنًا عندما لا يستهلك الشخص كمية كافية من السعرات الحرارية (الطاقة الغذائية) على أساس منتظم ليعيش حياة طبيعية ونشطة وصحية. واليوم، يقدر أن أكثر من 820 مليون شخص يعانون من الجوع. وعلى مدى عقود، استخدمت منظمة الأغذية والزراعة مؤشر انتشار نقص التغذية لتقدير مدى انتشار الجوع المزمن في العالم، وبالتالي يمكن الإشارة إلى “الجوع” أيضًا باسم نقص التغذية. http://www.fao.org/hunger/ar/

[2] – عنوان الإصدار: دفاعا عن السيادة الغذائية بالمغرب. دراسة ميدانية حول السياسة الفلاحية ونهب الموارد. للحصول على نسخة اتصلوا بالجمعية عبر موقعها أو صفحتها بالفيسبوك.

[3] – مترجم عن الصيغة الفرنسية لإعلان المنتدى الدولي حول السيادة الغذائية الذي نظم بقرية نيليني بمالي (افريقيا) شهر فبراير 2007. https://nyeleni.org/IMG/pdf/declarationfinalmars.pdf

[4] – النص الكامل للإعلان بالعربية على الرابط التالي: https://undocs.org/ar/A/C.3/73/L.30

زر الذهاب إلى الأعلى