بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن الصفقة الخضراء وأوروبا بدون كربون في أفق 2050، توجهت أنظاره إلى الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط للتزود بالطاقات النظيفة. أُطلقت مشاريع ضخمة للطاقات الريحية والشمسية والهيدروجين الأخضر، ومعها انطلق التنافس بين دول شمال أفريقيا حول من يقدم أفضل العروض، في دوامة تنافس نحو القعر حيث توجَّه ثروات وخيرات هذه البلدان لضمان استدامة العملاق الشمالي المسؤول (إلى جانب الدول الرأسمالية الأخرى) عن أزمة الاحترار العالمي. وفي الوقت التي تعاني فيه بلداننا من التبعية الطاقية وكلفتها المالية العالية، تكرس مشاريع الطاقات المتجددة هذه نفس الآلية الاستعمارية القديمة/ الجديدة: تحميلُ شعوبِ وبلدانِ الجنوب العالمي كلفة انتقال المراكز الرأسمالية العالمية البيئي.
في المغرب هناك ما يشبه غزوا لهذه المشاريع، التي تعلن أنها موجَّهة لتأمين السيادة الطاقية لبلد يتزود بجزء مهم من طاقته من السوق الدولية، لكن في الحقيقة تلك المشاريع مًعَدَّة لتزويد أوروبا بالطاقات المتجددة (الريحية والشمسية والهيدروجين الأخضر)، مثل مشروع توتال إيرين لإنتاج الهيدروجين الأخضر، ومشروع إكس- لينكس لإنتاج الكهرباء الخضراء… إلخ. وتقدم الدولة كل التسهيلات لاستقطاب هذه الاستثمارات، وضمنها “عرض المغرب للهيدروجين الأخضر”، الذي يعتزم توفير مليون هكتار لهذه المشاريع، فضلا عن الكلفة البيئية الأخرى (المياه بالأساس).
إلى جانب الإجماع الرسمي المطلق، هناك نوع من إهمال هذه المشاريع الاستعمارية الجديدة من طرف منظمات النضال؛ نقابات وجمعيات والنضالات الشعبية، ضمن إغفال مألوف للمسألة البيئية بشكل عام.
نقدم تجربة نضالات تونس في مواجهة مشاريع الهيدروجين الأخضر، علها تكون نبراسا ومناسبة لإطلاق نقاش مواجهة تلك المشاريع الاستعمارية الخضراء بالمغرب. ينشر موقع أطاك المغرب ترجمة لمقال بعنوان “مقاومة الاستعمار الأخضر الجديد”، للمناضل صابر عمار، وهو مناضل عضو حركة stop pollution “اوقفو التلوث” من تونس ومساعد برنامج شمال افريقيا بالمعهد العابر للقوميات TNI:
في الأشهر الأخيرة، هيمنت المناقشات حول الهيدروجين الأخضر في تونس على وسائل الإعلام، لا سيما في ما يتعلق بمذكرة التفاهم الموقعة في 28 مايو 2024 بين شركة توتال إنرجي/ TotalEnergies (شركة فرنسية متعددة الجنسيات ومتكاملة للطاقة والبترول) وشركة إيرين جروب/ Eren Groupe (شركة فرنسية متخصصة في الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الموارد) وشركة فيربوند/ Verbund (شركة الكهرباء الرائدة في النمسا) والحكومة التونسية.
تهدف مذكرة التفاهم هذه إلى استكشاف تنفيذ مشروع هيدروجين أخضر كبير يحمل اسم “H2 نوتوس/ H2 Notos“. يستهدف هذا المشروع التصدير إلى وسط أوروبا عبر خطوط أنابيب ”ممر جنوب تونس H2“ الذي يمتد من الساحل الشمالي الأفريقي في تونس عبر إيطاليا والنمسا وألمانيا، ويهدف إلى إنتاج 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً خلال مرحلته الأولية، مع إمكانية زيادة الإنتاج إلى مليون طن سنوياً في جنوب تونس. وتتيح هذه البنية التحتية تصدير الهيدروجين المتجدد منخفض التكلفة المنتَج في الجنوب إلى مجموعات الطلب الأوروبية الرئيسية، ومن المتوقع أن يتم تشغيلها بالكامل في أوائل عام 2030.
بعد ذلك بوقت قصير، في 31 مايو 2024، جرى توقيع مذكرة تفاهم أخرى مع شركة أكوا السعودية. أعلنت هذه الاتفاقية هدف إنتاج 600,000 طن من الهيدروجين الأخضر سنويًا على ثلاث مراحل، للتصدير إلى أوروبا أيضًا. تشهد تونس الآن طفرة في الاهتمام بالهيدروجين. في 29 يوليو 2024، وقعت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة فاطمة ثابت شيبوب ست مذكرات تفاهم جديدة مع شركات أجنبية مختلفة من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا. يبدو الأمر كما لو أن حمى الهيدروجين تجتاح البلاد.
تعتزم تونس أن تكون مركزًا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، مع طموحات لتصدير ستة ملايين طن سنويًا بحلول عام 2050، كما هو موضح في الاستراتيجية التونسية للهيدروجين. على الرغم من إمكاناتها في مجال الطاقة المتجددة، تواجه تونس حاليًا عجزًا كبيرًا في الطاقة، والذي بلغ حوالي 50% في عام 2022. وقد أكد كاتب الدولة التونسي للتحول الطاقي وائل شوشان على قدرة الهيدروجين الأخضر على معالجة عجز البلاد الطاقي وتوليد فرص عمل كبيرة.
ولكن بدلاً من إعطاء الأولوية لاستثمارات الطاقة المتجددة المحلية لتوليد الكهرباء الخضراء لسد هذه الفجوة، تخطط الحكومة لاستخدام هذه الكهرباء لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره إلى الاتحاد الأوروبي. يتماشى هذا النهج، رغم أهميته المركزية في استراتيجية تونس للتحول في مجال الطاقة، مع مبادرات مماثلة في دول أفريقية أخرى، مثل ناميبيا وجنوب أفريقيا ومصر والمغرب.
يجادل النقاد بأن اندفاع الاتحاد الأوروبي نحو اقتصاد الهيدروجين الأخضر، الذي يوصف بأنه مفيد لكلا الاتحاد الأوروبي والبلدان المصدرة من دول الجنوب، يتجاهل العديد من القضايا الحرجة. وتشمل هذه القضايا الآثار السلبية المحتملة على موارد المياه، والوصول إلى الطاقة، فضلاً عن المخاوف بشأن الاستيلاء على الأراضي والتهجير. وعلاوة على ذلك، قد تكون المكاسب الاقتصادية لبلدان الجنوب محدودة، إذ أنها تواصل استيراد تكنولوجيات ذات قيمة مضافة عالية بينما تصدّر موادا خاما ذات قيمة مضافة أقل، مما يعزز العلاقات التجارية غير المتكافئة.
على الرغم من تأكيد مفوضة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين في خطابها الذي ألقته في 16 يونيو 2022، أن ”فكرة مناطق النفوذ هي من أشباح القرن الماضي“، يبدو أن الأفارقة لا يزالون يعملون ضمن مجال الاتحاد الأوروبي. من الواضح أن هذا الأخير، ولا سيما ألمانيا، يدفع باتجاه اقتصاد هيدروجيني أخضر يهيمنون فيه على سلاسل القيمة والتكنولوجيات بينما يحوّلون التكاليف الاجتماعية والبيئية إلى الأطراف (أي جنوب الكرة الأرضية). ويمكن النظر إلى ذلك على أنه شكل جديد من أشكال إمبريالية الطاقة، حيث تهدف الدول الأوروبية، أو على نطاق أوسع، النوى الإمبريالية، إلى استخدام القارة الأفريقية كبطارية لتلبية احتياجاتها.
لا جديد تحت الشمس هنا؛ فهو رجيع صدى قوي من الماضي الاستعماري. لا تزال دول الاتحاد الأوروبي في حاجة أساسية لاستخراج الموارد والثروات من أطرافها، وخاصة من أفريقيا. إن المواد الخام التي تختزنها هذه المناطق، بالإضافة إلى القوى العاملة المضبوطة والرخيصة، لا تزال تدعم ما يسمى بالعالم المتقدم، بينما تتسبب في تدفق هائل للثروة والموارد من أفريقيا إلى أوروبا. ليس هذا النمط من الاستغلال والتقييد الاقتصادي جديدًا، ويتوافق بقوة مع الحجج التي قدمها والتر رودني في كتابه ”أوروبا والتخلف في أفريقيا“، حيث يشرح رودني كيف استخرج الاستعمار الأوروبي بشكل منهجي الثروة من أفريقيا وفرض هياكلا أعاقت قدرة القارة على تحقيق التنمية المستدامة ذاتيًا. ويهدد الاستخراج المستمر للموارد تحت ستار مشاريع مثل مبادرة الهيدروجين الأخضر في تونس بإدامة هذه الحلقة من التبعية والاستغلال، مما يقوض السيادة المحلية في مجال الطاقة والتنمية.
قدمت ألمانيا حلم الهيدروجين الأخضر إلى تونس بعد توقيع مذكرة تفاهم في ديسمبر 2020. خلال السنوات الأربع الماضية، قامت الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) بتمويل وصياغة الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين. بحلول منتصف عام 2024، جرى توقيع أول مذكرة تفاهم لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر من قبل الشركات الخاصة المذكورة أعلاه.
ومع ذلك، لا يتقبل التونسيون، بشكل سلبي، هذه المشاريع الهيدروجينية الخضراء الاستعمارية الجديدة ذات الطابع الأجنبي، بل يجري التشكيك والتدقيق فيها. حتى أن هناك مقاومة شعبية. ففي 24 أبريل، وبالتزامن مع اليوم العالمي لمناهضة الاستعمار، نُظمت مظاهرة صغيرة أمام مجمع الطاقة التابع للوكالة الألمانية للتعاون الدولي في تونس العاصمة. وقد نَظم الاحتجاجَ ائتلافٌ من المنظمات، بما في ذلك حركة أوقفوا التلوث، والنقابات العمالية، والاتحادات الطلابية، والأحزاب السياسية، والنشطاء المؤيدين لفلسطين. انضم هؤلاء النشطاء إلى الاحتجاج لأنهم أرادوا تسليط الضوء على أن ألمانيا لا تسعى فقط إلى تنفيذ مشاريع استعمارية جديدة في تونس، بل إنها متواطئة أيضًا في الإبادة الجماعية في غزة وتدعمها بشكل فعال من خلال كونها أكبر مزوِّد أوروبي للأسلحة إلى إسرائيل، حيث وفرت 30 في المائة من أسلحة إسرائيل بين عامي 2019 و2023.
خلال الاحتجاج، ركز أحد المطالب الرئيسية على عرقلة وإيقاف مشاريع الهيدروجين الأخضر المخطط لها والتي تستهلك كميات كبيرة من المياه والأراضي والتنديد بسيطرة المنظمة الألمانية ونفوذها على أجندة الطاقة التونسية. وهذا ما يفسر هدف الاحتجاج ومكانه أمام مجمع الطاقة التابع للوكالة الألمانية للتعاون الدولي، وليس أمام وزارة الصناعة والمناجم والطاقة القريبة. يعتقد المحتجون- ات أن الوكالة الألمانية للتعاون الدولي هي صانع القرار الرئيسي عندما يتعلق الأمر بالطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر.
دعا المتظاهرون- ات إلى سيادة الطاقة التي تتمحور حول الشعب والتحول العادل في مجال الطاقة الذي يخدم احتياجات البلاد أولاً.
ووفقًا للاستراتيجية الوطنية التونسية للهيدروجين التي تدعمها الوكالة الألمانية للتعاون الدولي، فإن الخطة تتمثل في استخدام 248 مليون متر مكعب من المياه المحلاة بحلول عام 2050، وهو ما يعادل استهلاك خمسة ملايين مواطن تونسي – أي ما يقارب نصف عدد السكان الحاليين في بلد يعتبر من أكثر البلدان ندرة في المياه في العالم. كما أن إنتاج الهيدروجين الأخضر المخطط له في تونس يتطلب أيضاً استخداماً مكثفاً للأراضي، حيث يتطلب 500,000 هكتار (ضعف مساحة تونس الكبرى) لإنتاج الطاقة المتجددة اللازمة لإنتاج الهيدروجين الذي سيجري تصديره. وتقع هذه الأراضي، التي يشار إليها باسم ”وادي الهيدروجين“، في الجزء الجنوبي من تونس، وهي منطقة تعاني بالفعل من ندرة شديدة في المياه وبعض النزاعات على الأراضي.
تشتهر المنطقة الجنوبية بأراضيها المشاع التي تعود ملكيتها للقبائل التونسية والسكان المحليين الذين يستخدمونها في الرعي والزراعة على نطاق صغير. ولا تتطرق استراتيجية الهيدروجين إلى كيفية الحصول على هذه الأراضي، مما يثير المخاوف بشأن الاستيلاء عليها. يناقش مقال صادر عن مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة هذه المشكلة تحديدًا التي تحدث في جنوب تونس من قبل شركات الطاقة التي يحركها الربح، مما يسلط الضوء على الانفصال بين أهداف الاستراتيجية واحتياجات المجتمعات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يبدو من غير المعقول أن يَستخدم بلدٌ يستورد غذاءَه أراضيه ومياهه لإنتاج الهيدروجين لتلبية احتياجات بلد آخر من الطاقة. بعد التوقيع على مذكرتي التفاهم المذكورتين أعلاه، نشرت العديد من الحركات الاجتماعية، بما في ذلك حركة أوقفوا التلوث والمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بيانات. وتعتبر هذه الحركات أن إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره آلية أخرى من آليات النهب التي تخدم في المقام الأول احتياجات الاتحاد الأوروبي من الطاقة.
ومن الجدير بالذكر أنه جرى تكليف البرلمان التونسي بمناقشة مشروع قانون جديد لتشجيع الهيدروجين الأخضر. ومع ذلك، فإن مشروع القانون هذا يقدم في المقام الأول للمستثمرين الأجانب حوافز ومزايا ضريبية ضارة. ويعني هذا أن هناك حاجة ملحة للتحاور مع البرلمانيين حول هذه المسألة أيضًا. عندما تكون هناك مقاومة، يكون هناك أمل. فالانتقال العادل ممكن لتونس والقارة الأفريقية بأكملها. نظرًا للتطورات التشريعية الأخيرة، أصبح إنشاء حركة معارضة للاستعمار الهيدروجيني الأخضر الجديد أمرًا ملحًا وضروريًا، ليس فقط على المستوى القطري بل على مستوى القارة بأكملها. هناك حاجة إلى مثل هذه الحركة الأفريقية المناهضة للاستعمار للدفاع عن أراضينا ومياهنا وغذائنا وأنظمة الطاقة. يجب علينا نحن الأفارقة أن نحدد أولويات احتياجاتنا ونعمل على تحقيق السيادة على الطاقة والغذاء. فالأولوية في قارتنا هي توفير الكهرباء الخضراء الرخيصة لـ600 مليون شخص يفتقرون إليها حاليًا، بدلًا من الاندفاع نحو إنتاج الهيدروجين الأخضر للاتحاد الأوروبي. ومن الأهمية بمكان متابعة ودعم هذه الديناميكيات ضد الهيدروجين الأخضر وربط النضال من جنوب أفريقيا إلى ناميبيا وحتى دول شمال أفريقيا.
رابط المقال الأصلي: هنا