يعد المغرب أحد أكثر البلدان تأثرا بالأزمة المناخية عبر العالم، رغم أنه أقل الدول تلويثا (أقل من 1،7 طن من ثاني أوكسيد الكاربون للفرد في السنة)، وليس له أية مسؤولية في التغيرات المناخية التي تضرب كوكب الأرض. لقد أضحى البلد عرضة لكل الظواهر المناخية المتطرفة: حيث أضحى الجفاف معطى بنيويا، وأصبح خطر حدوث فيضانات كبرى ومدمرة أكيدا بعد ارتفاع حدتها في السنين الأخيرة: كما حدث في عدد من المدن والبلدات في الخمس عشرة سنة الاخيرة (الدار البيضاء وكلميم وتزنيت وطنجة وتطوان وتارودانت والعيون …).
في الوقت الذي لم تعد فيه الظواهر المناخية المتطرفة حوادث تقع على فترات متباعدة، وتحولت إلى أمور متوقعة الحدوث بشكل كبير، لم تعمل السياسات العمومية بالبلد على مواجهتها بما يلزم، لكنها على أي حال فرضت على الحاكمين التعاطي معها بالشكل الذي تتعاطى به في كل السياسات: الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية وعلى الاستدانة، بل وعلى فتح مجال “مواجهة” هاته الظواهر لتصبح بدورها قابلة لرفع الأرباح الرأسمالية.
واقع الاجهاد المائي
احتل المغرب المرتبة 22 في قائمة الدول الأشد نقصا في المياه حسب التقرير الصادر عن المعهد الدولي للموارد (غشت 2019)، واعتبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن ندرة المياه بالبلد مقلقة وأن مواردها المائية تقدر حاليا بأقل من 650 متر مكعب للفرد سنويا، مقابل 2500 متر مكعب في سنة 1960، ويرتقب ان تنخفض عن 500 متر مكعب بحلول سنة 2030، في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات الدولية أن التغيرات المناخية يمكن أن تتسبب في اختفاء 80 في المئة من الموارد المائية المتاحة في المغرب خلال السنوات الخمسة والعشرين القادمة.
وقــد أدت ست سنوات متتالية من الجفاف (من 2017 إلى 2023) إلى انخفاض حاد في مستوى المياه في السدود، حيث بلغ متوسط ملء السدود حوالي 32 في المائة ( معطيات يونيو 2024) بعد أن ارتفعت نسبيا إثر التساقطات المطرية لشهري مارس وأبريل 2024، بعد أن كانت وصلت لمستوى غير مسبوق من الانخفاض في فبراير 2024، بما لا يتجاوز 22.85 بالمئة، وإذا استثنينا الحوضين المائيين لمنطقة الشمال الغربي، اللذان تحسن وضعهما نسبيا، وبشكل مؤقت، حيث بلغ مستوى الملء 63.74 بالمئة في حوض لوكوس، و51.11 بالمئة في حوض سبو، بعد تساقطات مارس وابريل، فإن باقي المناطق تعيش إشكاليات آنية عميقة جدا، يعبر عنها مستوى انخفاض حقينتي أكبر سدين بالمغرب: “بين الويدان” و”المسيرة” حيث بلغتا، برغم التساقطات الأخيرة، 8.93 بالمئة و1.73 بالمئة على التوالي، بما يؤكد أن الأمر من الخطورة بما سيجعل هاتين المنشأتين غير ذاتي جدوى في الأعوام القليلة المقبلة.
السياسات المائية في خدمة الرأسمال
بطبيعة الحال، لازالت السياسات الاقتصادية بالمغرب قائمة على منظورات لا تقيم في الواقع وزنا كبيرا كفيلا بحل حقيقي للإشكالية المائية، رغم إقرار الحاكمين بعمق المشكل وكارثية نتائجه، والمثال الفاقع على ذلك هو أن السياسات التي بني عليها المخطط الأخضر وبعده الجيل الأخضر القائمة على حفز وتشجيع سياسة فلاحية موجهة نحو التصدير وعلى استغلال واسع وشبه إجرامي للموارد المائية السطحية والجوفية، لا زالت قائمة وموجهة للسياسات العمومية الفلاحية، والسياسات السياحية التي افتتحها المخطط الأزرق التي لا زالت تقوم على ذات الأولويات: تشجيع نمط سياحي يتسبب في تبذير الماء ويتجلى ذلك بوضوح في مشاريع كبرى: ملاعب كولف ومسابح، وسيتعمق المنحى ذاته بسبب استضافة المغرب للمونديال عام 2030 …..
خلال الشهور الأخيرة، أضحى خطاب المسؤولين والخبراء المغاربة يعج بمصطلحات مثل “أزمة حقيقية” و”وضعية حرجة” و”وضعية مقلقة” عند الحديث عن وضع الموارد المائية بعد سنوات الجفاف المتتالية، واعتبر وزير التجهيز والماء في تقرير قدمه بمجلس النواب أن الصورة قاتمة بعد سنوات من انحباس المطر. لم يكن ذلك مدخلا لإعادة بناء السياسات المائية على أسس جديدة، فالأمر لم يكن يعدو كونه تمهيدا لفرض بعض التدابير التي تحد من الاستهلاك الجماهيري للمياه لأغراض الحياة اليومية، حيث جرى فرض مجموعة من التدابير نظير إغلاق الحمامات الشعبية وفرض قطع المدة اليومية للتزود بالمياه في المنازل…
في حين تمتح السياسات الحقيقية لمواجهة الجفاف، الذي أضحى بنيويا، من نفس النموذج النيوليبرالي المعتمد كعقيدة دائمة للدولة. اعتبرت لجنة “النموذج التنموي الجديد” أن”المغرب يعاني نقصا حادا في الموارد المائية، ما فتئ يتزايد، وأن ندرة المياه تشكل تهديدا مباشرا للتوازنات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية لبلادنا، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة وكذا في المناطق التي يعتمد دخل سكانها بشكل كبير على الموارد المائية. ومن هذا المنطلق، يعتبر مشكل المياه من بين المسائل المستعجلة التي يتعين معالجتها، وذلك من خلال اعتماد مقاربة تراعي ندرة الماء بشكل ممنهج وتجعل مسألة الحفاظ عليه، على المدى الطويل لفائدة الأجيال الحالية والقادمة، من بين الأولويات.” وهذا التشخيص صحيح لكن ما نتج عنه من توصيات تنبني على أسس نيوليبرالية ستجعل من الماء سلعة يجري وضعها في يد كبار المستثمرين لاعتصار المزيد من الأرباح ولجعل الماء وسيلة أخرى للتحكم في مصائر الناس. يعتبر النموذج التنموي الجديد أن المدخل الأساس لفرض تكيف مع الإجهاد المائي يكمن في:
- تفكيك المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، بفصل الطاقة عن الماء، وتحويلهما إلى مؤسسات قابلة للتقييم التجاري، وبالتالي قابلين للخصخصة.
- إدماج تكاليف البنيات التحتية لتعبئة الماء ضمن تكلفة هذا المورد، ورميه على المستهلكين، بما يعنيه من أرباح للرأسمال ومزيد من الضغط على الأجور وعلى شروط عيش الطبقات الشعبية، بما فيه على مستوى تزودهم بحاجياتهم الأساسية من الماء.
- الرفع التدريجي لتعريفة المياه بالنسبة لكافة المستهلكين، أسرا وفلاحين. وهذا الامر يترافق مع ذلك الكلام المستهلك عن “دعم الحصص الاجتماعية” لشرائح معينة. وهو ما يعني ارتفاع أسعار فواتير الماء إزاء الأغلبية الشعبية ودفعها لتقليص ذاتي لاستهلاكها، الذي لا يعني البتة حل إشكالية الندرة، بل إطلاق يد الأغنياء لمزيد من التبذير ورمي تكاليفه على من هم تحت.
- وضع آليات “للتشجيع على اقتصاد الماء” في الفلاحة اعتمادا على حصص للسقي تتناسب مع مساحات الاستغلاليات الفلاحية، وبطبيعة الحال دون الحديث على جوهر السياسات الفلاحية التي تعتمد على مزروعات موجهة للتصدير، تستهلك الكثير من المياه. بهذا المعنى تحكم أصحاب الأراضي الكبرى (كبار الفلاحين والرأسمالية الزراعية) في أكبر نسب من المياه، والتضييق على صغار الفلاحين ومنتجي القوت الحيوي للمغاربة. لتكون النتيجة توجيه ما تبقى من الثروات المائية، في ظل الجفاف، لخدمة استراتيجيات الفلاحة التصديرية.
- تعبئة الموارد غير التقليدية والحفاظ على الموارد الجوفية، نظير إقامة محطات تحلية مياه البحر، كمصدر مكمل ومضمون للتزود بالماء في المدن الساحلية وتوفير موارد مائية إضافية للمساحات المسقية، كل ذلك ضمن منظور يتخذ من الاستثمار الخاص رافعة لهاته التعبئة، عبر آليتي الاستثمار المباشر والشراكة عام/خاص. إن معنى ذلك (إذا ما اعتبرنا أن هاته الموارد غير التقليدية تمثل مستقبل السياسة المائية في بلد معني باستمرار الجفاف وبنيويته) أنه يتم وضع هذا المورد الحيوي بين أيدي رأس المال.
لا أهلا ولا سهلا بالبنك الدولي
ضمن المنظور المعلن للسياسة المائية، وافق مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك الدولي في 18 يوليو/تموز على برنامج تمويل بقيمة 350 مليون دولار، في إطار أداة تمويل البرامج وفقا للنتائج لدعم الحكومة المغربية في تنفيذ برنامجها الوطني لإمدادات مياه الشرب والري (2020-2027) في سياق المخطط الوطني للماء الذي يغطي ثلاثين عاما.
ويهدف هذا البرنامج، الذي أُطلق في عام 2020، وفق عرابيه، إلى تحسين ما يسمونه “الأمن المائي”، من خلال تسريع وتيرة الاستثمارات في قطاع المياه، وزيادة قدرة إمدادات مياه الشرب والري على الصمود. عبر “تعزيز حكامة في قطاع المياه، وتحسين الاستدامة المالية وكفاءة استخدام المياه، وتدعيم دمج وتكامل موارد المياه غير التقليدية”. إن البرامج الممولة من البنك الدولي خاصة وباقي المؤسسات المالية المقرضة، تسير في اتجاه وضع الماء، كمادة حيوية، في يد الرأسمال.
لم يعد مدهشا، إذن، توجه سياسة “تدبيرالإجهاد المائي” نحو مزيد من اعتصار الأرباح، التي ستوصل الأمور للكارثة، إذا لم يجر القطع مع منظور البنك الدولي، وانتهاج سياسات مائية جديدة لمواجهة الكارثة البيئية المحدقة.
إن مواجهة الجفاف البنيوي، وسن سياسة مائية جديدة، مستدامة بالفعل وضامنة للسيادة في مجال الماء، تمر بالضرورة عبر القطع مع كل منظور يحول الماء إلى سلعة، عبر كف يد الرأسمال الخاص عن الاستثمار فيه، وجعل الماء موردا عموميا مشتركا يدبر بأعلى درجات الرقابة الشعبية، وليس عبر مجالس للاستبداد تخدم الأقلية النهابة. ولن يتم عكس السير نحو الكارثة دون مواجهة أصل المشكلة، عبر الانخراط في النضال ضد نظام الإنتاج والتوزيع الذي يقربنا من الكارثة، وفي الطريق، النضال من اجل سياسة فلاحية شعبية ضمن منظور السيادة الغذائية، ومن أجل تقليص جذري لحصص الطبقات السائدة في استهلاكها التبذيري للماء، وبطبيعة الحال وقف تدخل المؤسسات المالية الدولية في تحديد السياسات التي ينبغي اتباعها في الموضوع.
يقتضي هذا، من النضال الشعبي ببلدنا، المزيد من تفكيك أسس السياسة المائية للطبقات السائدة، ومواجهتها ببرنامج بديل.
بقلم: يونس الحبوسي، عضو جمعية أطاك المغرب.