الاتفاقات الاستعماريةالحروب والعسكرة

موت المهاجرين عبر الحدود: “سياسية القتل” الاستعمارية

 

موت المهاجرين عبر الحدود البرية أو البحرية عبر العالم ليس نتيجة تهاون جماعي في انقاذ أشخاص عابري الحدود. ظاهرة موت المهاجرين.ات هي جوهر “سياسية القتل” كنمط تدبير التنقلات البشرية من الشمال الى الجنوب. محاولة للفهم من أجل المواجهة.

أعلنت مؤخرا وكالة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة (المنظمة الدولية للهجرة) أن عدد القتلى على طرق الهجرة في العالم في عام 2024 بلغ رقماً قياسياً تجاوز 8,900 شخص، مؤكدةً أن الحصيلة الحقيقية” ربما تكون أعلى بكثير “لأن العديد من الوفيات لم يتم توثيقه”. رقم في ارتفاع كل سنة منذ خمس سنوات على الأقل، حيث سجلت 8747 حالة وفاة بين المهاجرين خلال سنة 2023. هذه الحصيلة المأساوية أصبحت تقدم بشكل روتيني ولم تعد تثير اهتمام الدول والمجتمعات التي طبعت مع المظاهر الأكثر دموية للنظام العالمي وخاصة في شقه الخاص بسياسات الهجرة والتنقل.

هذا الوضع يحيل أن الموتى في طريق الهجرة من الشمال الى الجنوب هم نتيجة “طبيعية” للسياسات الأمنية للهجرة عبر العالم ومحاولات دول الشمال للحد بشكل عنيف من حرية التنقل. الموتى في طريق الهجرة هم ليسوا ضحايا اختيارات شخصية ” انتحارية” أو ضحايا شبكات الاتجار للبشر فقط بل هم في قلب “سياسة القتل” (نيكرو بوليتك) الممنهج له من طرف سياسيات الهجرة والساهرين على تنفيذها منذ الثلاث عقود الأخيرة. من خلال ممارستها السيادة الخاطئة تقرر اليوم الدول – خاصة دول الشمال الاستعماري- من له الحق في التنقل ومن له الحق في الحياة ومن الحق في “التنمية”. كما بالأمس واليوم، في صلب النظام الرأسمالي الحالي ضبط الحق في التنقل والحياة.

فهم “سياسية القتل” على الحدود  

يقترح الباحث الكاميروني “أشيل مبيبي” والمتخصص في التاريخ وعلم السياسية “أن التعبير النهائي للسيادة يكمن إلى حد كبير في السلطة والقدرة على تحديد من يمكن أن يعيش ومن يجب أن يموت وبالتالي، فإن جعل الناس يموتون أو تركهم يعيشون هي حدود السيادة، وهي سماتها الرئيسية. أن تكون سياديًا هو ممارسة السيطرة على الفناء وتعريف الحياة على أنها نشر وتعبير عن السلطة” (مبيبي، 2006). من خلال متابعة تطور الوفيات على الحدود يمكن وصف الوضع الحالي للهاته المأساة الصامتة والمغيبة أنها من سمات عن تعبير سيادي للمجموعات من الدول المهيمنة ( القوى الامبريالية) في مناطق جغرافية معينة. تمارس الولايات الأمريكية “سياسية القتل” السيادي على حدودها مع المكسيك. حيث سجلت سنة 2024، حصيلة فادحة وتم تسجيل ما لا يقل عن 1,233 حالة وفاة في عام 2024. ويشمل هذا الرقم 341 حالة وفاة غير مسبوقة في منطقة البحر الكاريبي في عام 2024، و174 حالة وفاة قياسية للمهاجرين الذين يعبرون غابة “دارين”.

وتبقى مجموعة دول الاتحاد الأوروبي أول ممارس “لسياسية القتل” على الحدود حيث طريق البحر الأبيض المتوسط من مختلف حدوده الأكثر دموية على الإطلاق عبر مناطق الهجرة حول العالم. الدول الاستعمارية داخل هذا التجمع الاقتصادي والسياسي (فرنسا وألمانيا واسبانيا وإيطاليا وبلجيكا) تستمر عبر ” سياسات القتل” في ممارسة نهجها الاستعماري من خلال فرض شروط التنقل (الفيزا) واختيار وفرز وتصنيف واستغلال من لهم الحق التنقل والولوج والعمل داخل هذا الفضاء الشبه خالي داخليا من الحدود، ولكن الذي تحول لثكنة عسكرية على حدوده الخارجية. “الاتحاد الأوروبي” كتكتل استعماري قديم-جديد يتعامل مع دول جنوب المتوسط على أنها مستعمرات وسكانها ” متوحشون”. ويسعفنا “أشيل مبيبي” من أجل فهم النظرة الاستعمارية التي تحملها دول الشمال لمستعمراتها السابقة:  “تشبه المستعمرات الحدود. يسكنها” المتوحشون“. المستعمرات ليست منظمة في شكل دولة، ولم تولد عالمًا بشريًا”. واستمرارا للسياسات الاستعمارية “للاتحاد الأوروبي” سيطلب من دول الجوار الجنوبي بأن تلعب دور “الدركي” في حق المهاجرين المارين عبر بلدانها وحتى في حق مواطنيهم الراغبين في الرحيل. دول الجنوب الفاشلة في تقديم “مشروع مجتمعي” وتنموي قادر على استقطابهم واقناعهم إمكانية العيش داخل دول ليست فقيرة اقتصاديا، ولكن معدمة ديمقراطيا واجتماعيا. أمام رغبة الرحيل الجامحة للشباب المغاربي والأفريقي عموما تمارس دول الجنوب المتوسط “سياسة القتل” بالوكالة لصالح المستعمر.

مناولة “سياسية القتل” : مهنة دول ” الجنوب”

في 19 مارس الأخير توفي سيدة وابتنها (6 سنوات) جراء حريق بأحد مخيمات المهاجرين بمدينة تزنيت (جنوب المغرب). مأساة تتكرر في كل مرة داخل الفضاءات العيش ” للمنفيين”. يوم الأحد 28 فبراير 2024، توفي مهاجر حرقا بمخيم المهاجرين المحاذي للمحطة الطرقية ولاد زيان بالدار البيضاء. في الساعات الأولى من ذلك اليوم انطلق عملية اخلاء قوية للمخيم من طرف السلطات الأمنية بدون انذار مسبق، حيث طالبت السلطات “المنفيين” بإخلاء المخيم في ظرف وجيز جدا حيث كان المهاجرين نيام. اندلع حريق في خضم العملية – ولا نعلم بالضبط سبب الحريق- في الساعات الأولى من الصباح أعلنت السلطات المحلية عن وفاة شخص كان يعيش بالمخيم. هذا المهاجر يبقى لحد الساعة مجهول الهوية. حاله حال عدد كبير من المهاجرين الذين يفقدون أرواحهم على الحدود البرية أو البحرية أو على السياجات التي أصبحت رمزا لعسكرة لحدود أوروبا أو أمريكا الشمالية. ويوجد في بلدان الجنوب دول “طيعة” كالمغرب أو تونس أو المغرب أو ليبيا التي تمارس “سياسة القتل” من خلال تدبير الهجرات وجعل حياة المهاجرين العابرين – خاصة أصحاب البشرة السوداء- جحيم واقناعهم بعنف باستحالة استمرار “مشروعهم الهجروي”. ممارسة هاته الدول تختلف حدها. حيث تمارس ليبيا وتونس اليوم منهج العبودية المباشر من خلال فضيحة بيع المهاجرين داخل ترابها وعلى حدودها. وتلتقي الجزائر والمغرب في “سياسية الانهاك” من خلال التنقيل للمهاجرين الأجانب. ولكن تلتقي هاته الدول في كونها ممارسة “لسياسية المناولة” لصالح الاتحاد الأوروبي وينقلون حدود القارة الأوروبية حتى مدنهم. 

الاختفاء القسري للمهاجرين

في مارس 2024، لقي ثمانية من شبان المغاربة من منطقة الريف حذفهم جراء انقلاب قارب كان ينقلهم من ضفاف جنوب المتوسط الىم جنوب اسبانيا. مأساة جديدة-قديمة على الحدود البحرية لأوروبا تحمل في كل مرة الطابع العنصري. وهذه واحدة من الكوارث المتكررة التي تقع عرض البحر طوال السنة.

“سياسية القتل” على الحدود تتشابه في أهدافها مع سياسية “الاختفاء القسري” التي كانت تمارسها الدولة المغربية خلال سنوات الجمر والرصاص. رغم اختلاف السياقات والأزمنة والفاعلين لكن نفس ميكانزمات التغييب حاضرة.  في زمن الاختفاء القسري (1956-1999) كان الدولة توجه هجومها على فئة الشباب، شباب كان يشكل خطر داهم على النظام من خلال نضاله ضد الديكتاتورية في ذلك الوقت. وكان مصير الشباب المناضل السجن والتعذيب والاختفاء القسري. منذ بداية التسعينات يتحول الاختفاء القسري. يمارس اليوم تهجير في حق الشباب المغربي. شباب التسعينات أو شباب الألفية الأولى ليس كلهم حاملين لنضال سياسي أو اجتماعي. جزء منهم يعتبر العبور للضفة الأخرى من المتوسط حلا لجميع مشاكله بحث عن “الفردوس الأوروبي”. هو هارب من سياسيات فاشلة في مجالات التعليم والشغل. تجد الدولة في موجات الهروب الجماعي المتتالية حلا لم تكن تخطط له بشكل رسمي لكن تتمناه. حيث ينقذها من مأزق الإجابة على المطالب الاجتماعية للشباب المغربي. نزوح عبر مختلف الوسائل حيث تختلف أوجه المخاطرة والكلفة. في الان نفسه تدير الدولة ظهرها (“دايرة عين ميكة” كما يقول المثل الشعبي) لهاته الموجات. ومن اختفى أو مات في البحر أو الحدود فهو ” ضحية صامتة” لسياسات الدولة. أخر مرة تم الاستعانة بهذه الطريقة كان خلال حراك الريف، حيث تم فتح طريق الهجرة عبر القوارب وبشكل مكثف في حق شباب الريف المنتفض وعرفت ومازلت هجرة شبه جماعية للشباب القاطن بالريف.

هذا شكل جديد من “الاختفاء القسري” يكون مسؤول عنه المباشر ” العهد الجديد”. لا يوجد تقييم لعدد الوفيات المغاربة عبر الحدود لكن تعداد هؤلاء الشبان والشابات يعد بالمئات سنويا منذ بداية التسعينات…”سياسية القتل” يخطط لها في “الشمال” من أجل قتل أبناء وبنات “الجنوب”. سياسية “القتل الصامت” حل مؤقت لفشل دولة التابعة في تحقيق تنمية حقيقية وتوزيع عادل للثروة. 

بقلم: صلاح الدين لمعيزي، مناضل بجمعية أطاك المغرب وصحفي متخصص في مجال “الهجرات واللجوء”.

مصادر:

Mbembe, A. (2006). Nécropolitique. Raisons politiques, no 21(1), 29-60. https://doi.org/10.3917/rai.021.0029.

https://shs.cairn.info/revue-raisons-politiques-2006-1-page-29?lang=fr#s1n5

Un nombre record de plus de 8.900 personnes sont mortes sur les routes migratoires en 2024 (OIM), https://news.un.org/fr/story/2025/03/1154156

زر الذهاب إلى الأعلى