الاتفاقات الاستعماريةملفات دراسية

حوار مع د/نجيب أقصبي حول الفلاحة في اتفاقيات التبادل الحر: الاتفاقيات الفلاحية مع الاتحاد الاوروبي ضلال مبين

حوار مع د/نجيب أقصبي حول الفلاحة في اتفاقيات التبادل الحر

نجيب أقصبي[1]

تم استجوابه (ن أ) من طرف لوسيل دوما (ل د) (Lucile Daumas)

 

ل د: الأعمال التجارية الزراعية agrobusiness  والاستحواذ على الأراضي وتركيز الملكية واستمرار الجوع في العالم هي بعض من المشاكل العالمية الكبرى للمسألة الفلاحية. هل يمكن لك أن تقول لنا شيئا عن الوضع في المغرب فيما يتعلق بهذه التحديات العالمية؟

ن أ: الوضع في المغرب لا يبعث على الاطمئنان بالرغم من المظاهر التي قد تشير إلى “الاستثناء المغربي”. يجب أن نعرف أن “مخطط المغرب الأخضر” الذي هو في الواقع الاستراتيجية الفلاحية الحالية للبلاد يرتكز بشكل أساسي على منطق “الأعمال التجارية الزراعية”. إنه يتبنى موقفا واضحا لصالح نموذج “الضيعات الكبرى”، ويعبئ جميع وسائل الدولة والمساعدات الدولية لتعزيزها، وهو ما يعود فعليا بالنفع على كبار الفلاحين من خلال منظومة مثيرة للإعجاب للدعم والمنح والقروض والامتيازات الضريبية ومساعدات أخرى تهدف إلى تعزيز قاعدتهم العقارية والإنتاجية.

وعلى ذكر القاعدة العقارية على وجه التحديد، فنحن نعلم أن المشكل في المغرب هو مشكل مضاعف: فمن جهة، مساحة الأرض الصالحة للزراعة في البلاد محدودة نسبيا (نحو 9.2 مليون هكتار) ولا تتيح فرصا ذات أهمية للتوسع، ومن جهة أخرى، ونظرا لعدم وجود إصلاح زراعي حقيقي لا تزال البنيات العقارية حتى يومنا هذا مقيدة بقوانين عقارية قديمة وتجزيئ مفرط للاستغلاليات (بمعدل 6 إلى7 قطع أرضية لكل استغلالية ذات مساحة 0.9 هكتار). كما لا يزال السواد الأعظم من المزارعين يفتقرون إلى الرسوم العقارية لأراضيهم ويتبعون نظام توريث كابح … وباختصار، فإن نتيجة كل هذا هو غياب “سوق عقارية” حقيقية في المغرب، وهو ما يحد بشدة من طموحات امتلاك الأراضي وتركيزها من طرف كبار الفلاحين. لهذا السبب سعى مخطط المغرب الأخضر للتحايل على هذه المشكلة عن طريق تطوير تنظيم الفلاحين عبر “التجميع”: فمن خلال “تجميع” العشرات أو حتى المئات من صغار الفلاحين حوله، يمكن لفلاح كبير –دون أن يكون مضطرا للشراء – أن يحوز على قاعدة عقارية أكبر بكثير من تلك التي يملكها. ومن خلال دعم هذا التجميع بالمليارات، تعزز الدولة المغربية بالتالي حاليا هذا النموذج المغربي “المكيف” للاستيلاء على الأرض … وعلاوة على ذلك، فإن الدولة المغربية لا تريد البقاء خارج المسار الدولي للاستيلاء على الأراضي. فهي تحاول على الرغم من المحدودية الطبيعية للأراضي الزراعية في المغرب، توفير بضعة آلاف من الهكتارات في جنوب البلاد لصالح مستثمرين من الخليج العربي، رغم أنها ليست على يقين من أن هذا سوف سيكون في نهاية المطاف ممكنا نظرا للمشاكل السياسية والاجتماعية الواضحة.

وأخيرا، ورغم أن مخطط المغرب الأخضر يهدف إلى أن يكون فائق الإنتاجية (حتى لو كان ذلك على حساب القواعد الأساسية لحماية الموارد الطبيعية)، فإنه يظل صامتا تماما عن الحاجة الملحة إلى الأمن الغذائي للبلاد. فهو يركز بوضوح على الإنتاج من أجل التصدير، ولا يهتم للعجز في المواد الغذائية الأساسية الذي يتراكم من سنة إلى أخرى جاعلا من المغرب أحد كبار المستوردين في منطقة البحر الأبيض المتوسط للحبوب والبذور الزيتية والسكر… هذه الحاجيات الاستراتيجية التي تعطي بعدا مأساويا للتبعية الغذائية للبلاد. مأساويا، لأنه إذا لم يكن من الممكن الحديث عن المجاعة في المغرب اليوم، فنحن نعلم للأسف أنه عندما يتم ارساء انعدام الأمن الغذائي في بلد ما تصبح جميع السيناريوهات محتملة.

ل د: لقد دخل الاتفاق الفلاحي الذي تم التفاوض بشأنه بين المغرب والاتحاد الأوروبي طيلة ست سنوات حيز التنفيذ في 1 أكتوبر 2012. ما هي أهم بنوده؟

ن أ: يبقي الاتفاق على منطق عدم التوازن والاستئثار بنصيب الأسد الذي ميز كل الاتفاقات السابقة. يجب أن نعرف أنه فيما يخص التبادل التجاري في المنتجات الصناعية (الذي هو لمصلحة الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير) فقد دخل المغرب منذ مارس 2012 منطقة تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي فاتحا باب سوقه على مصراعيه للمصدرين الأوروبيين. وتبقي الاتفاقية الفلاحية التي وقعت في العام نفسه على “نظم استثناء” على وجه التحديد ضد المنتجات الفلاحية المغربية الرئيسية المعدة للتصدير (الطماطم والحوامض والقرعة السوداء …). و”نظام الاستثناء” المعني هو في الواقع ترسانة هائلة من الإجراءات الحمائية الجمركية وخاصة غير الجمركية التي تحد بشكل كبير أي تطور للصادرات المغربية نحو الأسواق الأوروبية: الحصص والجداول الزمنية وسعر الدخول ومعايير الجودة التي أضيفت إليها مؤخرا “القيمة الجزافية للاستيراد”، والتي ليس هدفها سوى الحد من صادرات المغرب لبعض المنتجات (بدءا بالطماطم …) من خلال قيود صارمة فرضتها لوبيات المنتجين الأوروبيين المعنيين.

وهذا هو بيت القصيد: جهاز حمائي قائم ويتكامل ليتماشى مع الاتفاقية الجديدة. وكل ما زاد على ذلك هو حشو، لأن هذه الآلية الكبرى لا تزال تجعل من شراكتنا مع الاتحاد الأوروبي صفقة أغبياء ليس إلا. ما هو مدى مصداقية الخطاب حول “الوضع المتقدم” (“كل شيء إلا المؤسسات” كما يقولون…)، في وقت لا نزال نواجه فيه الكثير من المتاعب لإدخال بضع أطنان إضافية من الطماطم للأسواق الأوروبية؟

ل د: من هم أهم المستفيدين من هذا الاتفاق؟

ن أ: سؤال جيد! إذ غالبا ما ننسى بفعل الوقوع في فخ المنطق “الوطني” (المصالح المغربية / المصالح الأوروبية) من هو الفائز الحقيقي من هذه الاتفاقات التي تعبئ الدولة ومواردها لفترة طويلة من المفاوضات قد تستمر لسنوات.

يمكن على مستوى الماكرو اقتصادي أن يستفيد بالتأكيد الإنتاج والتشغيل في بعض القطاعات والجهات، فضلا عن تحسين نسبي لاحتياطيات البلاد من العملة الصعبة (بشرط أن تعاد عائدات الصادرات المعنية إلى البلاد بالكامل …). ولكن من حيث الأرباح الملموسة، ونعني بذلك العملة الصعبة نقدا، فغالبا ما تستأثر حفنة من كبار الفلاحين بحصص كبيرة جدا من الصادرات المغربية المعنية. كما “تعمل” في الواقع الدبلوماسية المغربية ومفاوضوها لصالحهم في المقام الأول لأنهم هم الذين يجنون الجزء الأكبر من” الأرباح “المحصلة، على الرغم من أن التنازلات الأوروبية لا تزال مخيبة للآمال على مستوى البلاد ككل .

ل د: ومن هم أهم الخاسرين؟

ن أ: الخاسرون هم أولئك الذين يجد المغرب نفسه مجبرا على التضحية بهم “مقابل” ما يجنيه الفائزون … لأن الأمر يتعلق بالأخذ والعطاء ولا يجب أن ننسى ذلك. إنهم في الفلاحة صغار المنتجين للمواد المعاشية الذين تركوا لحالهم، في الوقت الذي تدعم فيه الفلاحة التصديرية ذات” تنافسية وقيمة مضافة عالية”. إنهم في الصناعة آلاف المقاولات الصغيرة والمتوسطة المعرضة لمنافسة غالبا غير عادلة من عمالقة أوروبا الذين يعتبرون أن المغرب قد عاد تقريبا إلى وضعية “الباب المفتوح” التي كان عليها في فترة ما قبل الاستقلال. إنهم أيضا الصيادون الساحليون الصغار الذين تمت التضحية بهم بفعل اتفاقية الصيد البحري التي تجيز عودة الأسطول الاسباني إلى المياه المغربية مع عواقب نعرفها على حالة الموارد السمكية. إنهم كذلك مئات الآلاف من العمال الزراعيين الذين يتم إجبارهم على مواصلة العمل في ظروف القرون الوسطى بحجة المحافظة على “التنافسية” … وتبقى هذه القائمة بعيدا على أن تكون شاملة.

ل د: تتضمن اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت حيز التنفيذ في 2006 جانبا فلاحيا. ما هو تأثيره؟ وما الذي يمكن أن ينجر عن الاتفاقية العابرة للأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالنسبة للمغرب إذا ما تم التوقيع عليها؟

ن أ: قلنا ما يكفي في وقته أن اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة هي اتفاقية تم تحديدها أساسا لاعتبارات سياسية تخدم فقط المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في وقت معين. وقد كنا في الواقع نعرف تماما أن المغرب لم يكن على الاطلاق مجهزا ليستفيد منها بالشكل الذي كان يوعد بها، بل أنه بالخصوص سوف يخسر الكثير بسبب مبدأ “الأخذ والعطاء” مرة أخرى. وإذا كانت “المنافع” الممنوحة للمغرب ستبقى افتراضية إلى حد كبير، فإن تلك التي منحها بلدنا للولايات المتحدة ستكون سريعة جدا وملموسة جدا وبالأحرى مدمرة. واليوم في الواقع، أي بعد أكثر من ثماني سنوات من دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، ها هي النتائج أمامنا. بين عامي 2006 و 2013، نجح الأميركيون في زيادة صادراتهم إلى المغرب من 9،5 إلى 28،7 مليار درهم، في حين أننا مازلنا نصارع من جانبنا لزيادة صادراتنا إلى الولايات المتحدة من 2،2 إلى 7،6 مليار درهم، بحيث أن عجزنا التجاري مع هذا “الشريك” الخاص جدا تضاعف ثلاث مرات خلال نفس الفترة وارتفع من 7 إلى 21 مليار درهم … لا أظن أننا في حاجة إلى مزيد من التعليقات!

ل د: الفلاحة شأن لا يهم الفلاحين فقط بل عامة الشعب، حيث أن كمية وجودة ما نضعه في أطباقنا يتوقف على الفلاحة. ما هو أثر هذه الاتفاقية الفلاحية من وجهة النظر هذه؟ وكيف تتم ترجمتها فيما يتعلق بالسيادة الغذائية؟

ن أ: إن المشكلة في الواقع ليست كمية فقط ولكن “نوعية” أيضا. إذ لابد أن نعرف ماذا نستورد من الولايات المتحدة وما ينطوي عليه ذلك أحيانا حتى لصحتنا. فعلى سبيل المثال، وحتى نبقى في إطار الفلاحة، يجب علينا أن نعرف أنه منذ هذه الاتفاقية، فاضت علينا الذرة الأمريكية التي يعلم الجميع أنها المادة الخام الرئيسية لتربية الدواجن، وبالتالي لإنتاج اللحوم البيضاء (التي تسمى “لحوم الفقراء” …). ونحن نعلم جيدا أن هذه الذرة هي من ” المنتجات المعدلة وراثيا” بشكل كامل. وبالتالي، فإن المواطنين المغاربة يستهلكون اليوم “الكائنات المعدلة وراثيا” بكثافة من خلال اللحوم البيضاء دون إخبارهم أو على الأقل طلب رأيهم …إن انعدام الأمن الغذائي في البلاد بالتالي لا يطرح فقط من حيث توفر وسهولة الوصول إلى الغذاء، ولكن أيضا من حيث الجودة وتأثيرها على صحة المستهلكين. كل هذا يهدد السيادة الغذائية للبلد بشكل خطير. وباختصار فإن الحصيلة سلبية جدا وتدفعنا إلى التساؤل كيف حدث كل هذا. لقد كان هذا في الواقع ممكنا لأن الدولة التي تقرر في هذا الأمر هي دولة استبدادية تخدم مصالح معينة ولا تكلف نفسها عناء معرفة رأي أولئك الذين يمكن لهم تنويرها وإفادتها. لنقل أنه من أجل تلبية الجنون الجيوسياسية للبائس الشهير جورج بوش أدخلت الحكومة المغربية البلاد في صفقة كارثية لم ننته بعد من دفع ثمنها الباهض.

ل د: يلخص مخطط المغرب الأخضر اليوم الخطوط العريضة للسياسة الفلاحية المغربية. لقد تم اعتماده في 2008 في حين كانت المفاوضات بشأن الاتفاقية الفلاحية مع الاتحاد الأوروبي جارية. فهل هو مجرد تكييف للسياسة الفلاحية المغربية مع متطلبات ومستتبعات هذا الاتفاق أم أنه دليل على نظرة أكثر شمولا على المدى البعيد للمستقبل الفلاحي للمغرب؟

ن أ: إن مخطط المغرب الأخضر هو أولا مخطط يندرج في إطار استمرار السياسات الفلاحية التي طبقت في المغرب منذ ستينيات القرن العشرين. فمن “سياسة السدود” إلى اتفاقيات التبادل الحر مرورا ببرامج التكييف الهيكلي الفلاحية في الثمانينات، بقيت الاتجاهات الرئيسية هي نفسها والتي تدعم كبار الفلاحين على حساب المزارعين الصغار والمتوسطين، والزراعات التصديرية على حساب الزراعات المعاشية، ومن ثم الأمن الغذائي للبلد، وتدعم أنظمة الاستغلال الإنتاجوي على حساب الزراعة العائلية والحفاظ على الموارد الطبيعية، كما تدعم بعض المناطق المتميزة ولكنها قليلة ومحدودة (المدارات المسقية) على حساب غالبية الفضاء القروي والغالبية العظمى من القرويين المحكوم عليهم بالتهميش والتخلف المستمر. وليس مخطط المغرب الأخضر من وجهة النظر هذه سوى استمرارا كاريكاتوريا للخيارات الدائمة التي أقرتها الدولة على مدى عقود مع النتائج التي نعرفها … إن “اتفاقيات التجارة” منذ أول “اتفاقية شراكة” مع “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” لعام 1969 إلى آخر اتفاقية تسمى “التبادل الحر” كانت دائما توقع من طرف الدولة كأدوات في خدمة السياسة الفلاحية المعمول بها، وخصيصا لتوفير منافذ وضمان فتح الأسواق أمام المنتجات المخصصة التصدير التي تشجع بشكل منظم.

يندرج الاتفاق الفلاحي الأخير ضمن هذا المنطق الذي يهدف خصوصا إلى دعم الركيزة الأولى لمخطط المغرب الأخضر التي يصطلح عليها الفلاحة “التنافسية ذات قيمة مضافة عالية” … والمشكلة هي أنه كما سبق وأشرنا أن هذا الاتفاق يبقى حمائيا للغاية خصوصا فيما يتعلق بالمنتجات “التنافسية وعالية القيمة المضافة” التي يطورها المغرب حاليا بقوة وهو التالي قادر على تصديرها بكميات كبيرة إلى الأسواق الأوروبية. يمكننا أن نقول في ظل طموحات مخطط المغرب الأخضر في هذا المجال أن آخر اتفاقية فلاحية مع الاتحاد الأوروبي من المرجح أن تعوقها بدلا من أن تشجعها. إن المفارقة التي يمكن أن نشهدها على مدى السنوات القليلة المقبلة هي أنه بدون فرص كافية في الأسواق الأوروبية (التي لا تزال رغم كل شيء الأقرب والأكثر ربحا) سيتم إغراق السوق المحلية بمنتوجات تفوق قدرتها على الاستيعاب مع خطر انخفاض الأسعار وانخفاض دخل الفلاحين … وهذا على الأقل ما بدأ يحدث بالفعل هذا العام مع الحوامض التي ارتفع إنتاجها (بعد توسيع المساحات في السنوات الأخيرة) إلى أكثر من 2 مليون طن في حين أن الأسواق الخارجية بالكاد توسعت تبعا لذلك. سوف تظهر المفارقة بأكثر قسوة عندما نجد أنفسنا مجبرين على تخفيض أسعار البرتقال والطماطم ومدفوعين لاستيراد المزيد من القمح والزيت أو السكر وربما بالثمن الأغلى … إنه الضلال المبين!

هذا الحوار جزء من دراسة نشرتها أطاك المغرب في شتنبر 2015.

[1] اقتصادي، أستاذ في معهد الحسن الثاني الزراعة والبيطرة، الرباط

زر الذهاب إلى الأعلى