الحروب والعسكرة

محاولة لفهم انسياق المجتمع الإسرائيلي نحو الإبادة الجماعية! (للفلسطينيين)

محاولة لفهم انسياق المجتمع الإسرائيلي نحو الإبادة الجماعية! (للفلسطينيين)

كيف وصلنا إلى الأمر الذي تدعم فيه الغالبية العظمى من المواطنين الإسرائيليين، بل وتشيد، بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني؟

  27 فبراير بواسطة يورغوس ميترالياس *

*الصحفي يورغوس ميترالياس هو أحد مؤسسي ومنسقي اللجنة اليونانية لمناهضة الديون، وهو عضو في شبكة CADTM الدولية والحملة اليونانية لمراجعة الديون. وهو عضو في اللجنة من أجل الحقيقة حول الديون اليونانية والمبادر بالدعوة إلى دعم هذه اللجنة

إن الإبادة المنهجية للشعب الفلسطيني التي ينفذها الجيش الإسرائيلي بنجاح منذ أربعة أشهر لم تكن لتسقط من السماء، ولم تكن ممكنة دون موافقة نشطة بل ومتحمسة من المجتمع الإسرائيلي. لكن هذه الحماسة تجاه الإبادة الحالية في المجتمع الإسرائيلي ما كانت لتكون ممكنة أيضاً لو لم تكن نتاج وحصيلة المنطق الداخلي للمشروع التأسيسي للدولة العبرية، أي المشروع الصهيوني! وهذا ما مكّن المناضل القديم المعادي للصهيونية ميشيل فارشفسكي الذي يتسم بالوضوح والإدراك من التحذير في عام 2014 من أن إسرائيل “دولة تنزلق نحو الفاشية”. وبعد ذلك بعام، أشار إلى أننا “انتقلنا من مجتمع استعماري إلى مجتمع همجي. مجتمع يحتمل أن يكون مجتمع إبادة جماعية يجب أن يُمنع من الانضمام إلى محفل الأمم المتحضرة”!

لكن فارشفسكي ذهب إلى أبعد من ذلك، وبعد أن أشار إلى أن “إسرائيل أصبحت الغرب المتوحش، مع قائدها الدموي نتنياهو“، أشار إلى أن “السبيل الوحيد للمضي قدما، بالنسبة للإسرائيليين الذين يرفضون الهمجية التي نغرق فيها، هو اعتقال نتنياهو وأتباعه على الفور. ومن المتوقع أن يخرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع”. وفي يأس، صرخ: “لكن أين هم؟ هل يعيشون مختبئين في ظل الهمجية – أيديهم ليست مغطاة بالدماء، لكنهم مشغولون بالنظر في الاتجاه الآخر”. وهذا ما يردده الكاتب الشجاع والصادق والمساهم في صحيفة هآرتس والناشط المناهض للاحتلال جدعون ليفي عندما يتأسف لأن “العديد من أصدقائي في اليسار قد تغيروا خلال هذه الحرب، حتى هم. هكذا تصبح وحيدا أكثر فأكثر. إنه أمر غير مسبوق”…

كان من الممكن كتابة سطور فارشفسكي اليوم، والفرق الوحيد هو أن المجتمع الإسرائيلي الذي كان من “المحتمل أن يكون مجتمعا ينساق نحو الإبادة الجماعية” في عام 2015 هو الآن مجتمع يقبل بإبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فكيف وصلنا إلى هنا؟ كيف وصلنا إلى النقطة التي يقول فيها 72% من الإسرائيليين إنهم يعارضون “إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة حتى يتم إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين”؟ وأن المئات من الإسرائيليين الآخرين المحتشدين على مداخل غزة، وهم يلوحون بالأعلام الإسرائيلية قد أوقفوا مرارًا وتكرارًا الشاحنات التي تنقل المساعدات الإنسانية إلى هذا الشعب الفلسطيني اللاجئ مرتين أو ثلاث مرات، والذي يعاني من الهلاك والجوع والموت؟ باختصار، كيف حدث أن الغالبية العظمى من المواطنين الإسرائيليين يؤيدون بل ويصفقون لما هو تعريف الإبادة الجماعية وإبادة الشعب الفلسطيني؟

نسارع إلى التأكيد على أن الإسرائيليين لا يختلفون عن الفرنسيين والبلجيكيين والإنجليز والأمريكيين، ولا عن اليونانيين والصرب والأتراك واليابانيين والروس والروانديين وشعوب أخرى كثيرة جداً يحفل تاريخها بالمجازر أو حتى الإبادة الجماعية لشعوب أخرى. ولهذا السبب يمكن أن تساعدنا الإجابات التي قدمها مفكر (يهودي) كبير من القرن الماضي يدعى إرنست ماندل، على سؤال “ما الذي جعل محرقة الشعب اليهودي ممكنة”، في فهم الانسياق الحالي للمواطنين الإسرائيليين نحو الإبادة الجماعية [1].

لذا، وفقًا لماندل، فإن “ما جعل الهولوكوست ممكنًا – وهو حدث فريد من نوعه في التاريخ حتى الآن – كان أولاً وقبل كل شيء الأيديولوجية العنصرية المفرطة في شكلها البيولوجي (شكل متطرف من أشكال الداروينية الاجتماعية). ووفقًا لهذه العقيدة، هناك “أعراق دون البشر” (Untermenschen) التي تعتبر إبادتها مبررة، بل وضرورية. بالنسبة لأنصار هذه الأيديولوجية، اليهود هم “الحشرات التي يجب إبادتها”، والسود هم “القرود”، و”الهنود الجيدون فقط هم الهنود الموتى”، وهكذا. ولهذا السبب يصرح عضو بارز في الحكومة الإسرائيلية الحالية، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت، بأن “الفلسطينيين “حيوانات بشرية”. وهو تصريح يبدو أن زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي سارة نتنياهو لا تتفق معه، حيث كتبت أن مقارنة الفلسطينيين بالحيوانات … “إهانة للحيوانات”!

إن تجريد اليهود من إنسانيتهم في نظر النازيين ليس ظاهرة معزولة في التاريخ. فقد حدثت ظواهر مماثلة فيما يتعلق بالعبيد في العصور القديمة، والقابلات أو المولدات(“السحرة”) في القرنين الرابع عشر والسابع عشر، والهنود الأمريكيين، والسود الذين خضعوا لتجارة الرقيق، إلخ.”

بالمحصلة، ما من مجتمع بشري “محصن” ضد مثل هذه الانحرافات الهمجية واللاإنسانية. ومع ذلك، من أفضل العنصريين والفاشيين ذوي الدم النقي في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وزيريها بن غفير وسموتريتش، لتجسيد هذا الانحراف نحو جحيم الإبادة الجماعية؟ إن صعودهم الصاروخي إلى السلطة في غضون عقد من الزمن لا يمثل فقط التحول الذي مر به المجتمع الإسرائيلي في نفس الفترة الزمنية (قبل أيام قليلة سقط آخر معاقل الصهيونية الليبرالية و”اليسارية” القديمة عندما أعلن رئيس حركة الكيبوتس نير مئير أن ” يجب أن ينفصل الكيبوتس عن اليسار لأن المستوطنين هم على حق!) كما أنه يعيد إلى الأذهان “التحولات” الأخرى و”الصعود المبهر إلى السلطة”، على سبيل المثال، في ألمانيا بين الحربين…

ووفقًا لماندل، فإن تجريد العدو من إنسانيته هو الشرط الأيديولوجي المسبق للقدرة على “معاملة مجموعات بشرية محددة بطريقة لا إنسانية بحيث تنشأ بالضرورة تقريبًا الحاجة إلى تبرير أيديولوجي – أيديولوجية التجريد من الإنسانية – وإلى “تحييد” الضمير السيئ والشعور بالذنب الفردي”. ويضيف ماندل: “إن التجريد المنهجي لليهود من إنسانيتهم في نظر النازيين ليس ظاهرة معزولة في التاريخ. فقد حدثت ظواهر مماثلة فيما يتعلق بالعبيد في العصور القديمة، والنساء الحكيمات (“الساحرات”) في القرنين الرابع عشر والسابع عشر، والهنود الأمريكيين، والسود الذين خضعوا لتجارة الرقيق، إلخ.”

إذن نحن هنا في قلب “اللغز” الإسرائيلي الذي قاد سياسيين هامشيّين وقذرين مثل غفير وسموتريتش، المسجونين بسبب نشاطات متطرفة وإرهابية في عامي 2005 و2006، والذين تم تقديمهم قبل 10 أشهر من قبل المؤسسة الإسرائيلية على أنهم “خطر على دولة إسرائيل” (جيروزاليم بوست)، إلى أن يتمكنوا اليوم ليس فقط من إملاء سياسة بلدهم، بل أيضًا وقبل كل شيء من التعبير عن أعمق رغبات الغالبية العظمى من مواطنيهم وتجسيدها! ووفقًا لماندل، “لكي يكون لمثل هؤلاء الأفراد صدى لدى الملايين من الناس، يجب أن تكون هناك أزمة اجتماعية عميقة (كماركسيين، يمكن أن نقول: وقد نجمت الأزمة عن عدد من العوامل: أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة، وأزمة عميقة في نمط الإنتاج، وأزمة عميقة في هياكل السلطة). ولكي يكون هؤلاء الأفراد مرشحين فوريين للسلطة، أو حتى للاستيلاء على السلطة، يجب أن يكون هناك ترابط بين القوى الاجتماعية التي تسمح بحدوث ذلك: ضعف الحركة العمالية التقليدية (وبدرجة أقل، الليبرالية البرجوازية)؛ تقوية الطبقات الأكثر عدوانية من الطبقات المالكة؛ يأس الطبقات الوسطى؛ زيادة كبيرة في عدد المسحوقين، إلخ…” ولا بد من القول إن العديد من هذه الشروط المسبقة التي ذكرها ماندل، إن لم يكن كلها، موجودة في إسرائيل اليوم.

لكن إرنست ماندل لم يتوقف عند هذا الحد. ورغبة منه في تعميم وتعميق دروس الهمجية النازية، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ورأى أن الهولوكوست “هو التعبير النهائي عن النزعات التدميرية الموجودة في المجتمع البرجوازي، وهي نزعات تعود جذورها إلى الاستعمار والإمبريالية”، وأضاف إدراج “عقيدة العنصرية البيولوجية … في إطار أوسع، وهو إطار ظهور العقائد المعادية للإنسانية، والمناهضة للتقدمية، والمناهضة للمساواة، والمناهضة للتحرر، والتي تمجد علانيةً أكثر العنف تطرفًا ومنهجية ضد المجموعات البشرية الكبيرة (“العدو”) والتي انتشرت في نهاية القرن التاسع عشر”.

لذلك من “الطبيعي” تمامًا أن يصف سموتريتش المبيد للجنس البشري نفسه بأنه “فاشي معادٍ للمثليين”، بينما شريكه بن غفير وغيره من القادة السياسيين والدينيين الإسرائيليين الذين يتسمون بالعنصرية وكراهية النساء ومعاداة المثليين، المناهضين للاشتراكية والمشككين في المناخ والظلاميين العنيفين الذين يخونون انتماءهم إلى الدوائر العليا لهذه الأممية السمراء** الصاعدة التي تمثل حاليًا تهديدًا مباشرًا ومميتًا للبشرية وما تبقى من حرياتها الديمقراطية. ..

وننهي هذا النص القصير والمختصر بالضرورة بكلمات إرنست ماندل: “هذا التفسير للمحرقة له أيضًا وظيفة ذاتية. كما أنه مفيد وضروري من وجهة نظر مصالح البشرية. فهو يجعل من الممكن الانفلات من المخاطر الفكرية والأخلاقية الكامنة في الأطروحة المعاكسة، التي بموجبها تفلت المحرقة من أي تفسير عقلاني، وتكون غير مفهومة. هذه الأطروحة الظلامية هي، إلى حد كبير، انتصار ما بعد الموت للعقيدة النازية. لأنه إذا كان أي جزء من التاريخ غير عقلاني وغير مفهوم تمامًا، فإن البشرية غير عقلانية وغير مفهومة أيضًا. لذا فإن إمبراطورية الشر ستكون “فينا جميعًا”. هذه طريقة بالكاد غير مباشرة، إن لم تكن نفاقًا، للقول بأن المسؤولية لا تقع على عاتق هتلر ولا على النازيين ولا على أولئك الذين مكنوهم من الغزو وممارسة السلطة، بل على الجميع، أي لا أحد على وجه الخصوص.

ويختتم ماندل بهذه الكلمات المتبصرة: “إن تفسيرنا للمحرقة له أيضًا وظيفة سياسية عملية. فهو يجعل من الممكن الانفلات من العجز العملي، ومن الشعور بالعجز في مواجهة مخاطر تكرار الظاهرة. نحن نقول عمدًا أن الهولوكوست هو حتى الآن (تشديد ماندل) ذروة الجرائم ضد الإنسانية. ولكن ليس هناك ما يضمن عدم معادلة هذه الذروة أو حتى تجاوزها في المستقبل. يبدو لنا إنكار ذلك بداهةً أمرًا غير منطقي وغير مسؤول سياسيًا. وكما قال برتولت بريخت: “الرحم الذي ولد هذا الوحش لا يزال ولودا “.

ترجمة : خليل صدقي

اطاك المغرب

([1]) يمكن الاطلاع على هذا النص لماندل باللغة الفرنسية في كتاب جيلبير الأشقر “Le marxisme d’Ernest Mandel” الصادر عن دار نشر PUF-Actuel Marx Confrontation. للاطلاع على النص نفسه مترجمًا إلى الإنجليزية:

https://internationalviewpoint.org/spip.php?article6381

**أممية الأحزاب اليمينية المتطرفة

—————————————————————————————————–

ملحوظتان المقال منشور في موقعِ CADTM على الرابط التالي:

https://www.cadtm.org/Essayant-de-comprendre-la-derive-genocidaire-de-la-societe-israelienne

كما على مدونة الكاتب الشخصية في Le Club de MediaPart

https://blogs.mediapart.fr/yorgos-mitralias/blog/190224/essayant-de-comprendre-la-derive-genocidaire-de-la-societe-israelienne

زر الذهاب إلى الأعلى