عندما اندلعت أزمة الرهون العقارية سنة 2007-2008، أمل الكثيرون بنهاية الليبرالية الجديدة؛ واعتبروا أن تدخل الحكومات المذعور لأجل إنقاذ البنوك بمثابة عودة كينز إلى واجهة المسرح الرأسمالي. إلا أن الجرافة النيوليبرالية لا تزال مستمرة دون أن يزعجها أحد، ويجب أن تستمر تحسن معرفتنا بالنظام إذا أردنا أن نوجه له الضربة القاضية التي طالما استحقها بسبب سوء أفعاله. يهدف النص التالي إلى لفت الانتباه إلى عدد من النقاط التي غالبا ما يتم نسيانها أو التقليل من أهميتها في العديد من النصوص حول الليبرالية الجديدة: أولا، وجود وأهمية الأوردو ليبرالية، التيار الطليعي لليبرالية الجديدة؛ وثانيا، تلخيص موجز لبعض عناصر فكر فريدريك حايك، ”بابا“ الليبرالية الجديدة؛ وثالثا الاعتراف بحقيقة أن الليبرالية الجديدة ليست مجرد فهرس للتدابير الاقتصادية الكلية: إنها أيضاً آلية تؤثر بشكل كبير على طريقة تفكير الناس وتصرفاتهم – في مكان العمل وكذلك في حياتهم الخاصة.
1. الأوردو ليبرالية تمهد الطريق أمام الليبرالية الجديدة
هناك سردية جاهزة حول الاستيلاء الليبرالي الجديد على الرأسمالية العالمية. هذه هي. في عام 1947، في الوقت الذي كانت فيه الكينزية تكتسب زخما في جميع أنحاء العالم الرأسمالي، أسس فريدريك حايك جمعية مونت بيليرين. وحتى أوائل السبعينيات، لم يكن للأفكار التي كان ينادي بها هو وأصدقاؤه (بمن فيهم ميلتون فريدمان) سوى جمهور محدود. ومع ذلك، تم إنشاء مختبر أولي في شيلي في عام 1973، حيث ترافقت ديكتاتورية بينوشيه الدموية مع تطبيق الأفكار الليبرالية الجديدة. لكن لم تترسخ هاته الاخيرة فعليا في إنجلترا في عهد مارغريت تاتشر وفي الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان حتى نهاية الستينيات الذهبية، قبل أن تنتشر في بقية أنحاء العالم. لذا، كان من المفترض أن تكون الليبرالية الجديدة قد توارت في الظل حتى عام 1973، عندما ظهرت في أعقاب الإطاحة بأليندي في تشيلي و”أزمة النفط“ عام 1973، التي كانت مقدمة لأفول الرأسمالية الكينزية-الفوردية. وبناء على هذه الرواية، نعتقد أن أصول الليبرالية الجديدة أنجلو-ساكسونية بالأساس: فحايك الآتي من النمسا، درّس في الولايات المتحدة، وجامعة شيكاغو هي مكان مهم للتخمر الفكري للنيو ليبرالية. ومع ذلك، هناك عدد من العناصر المثيرة للقلق التي تشير إلى أن واقع الحال يختلف عن القصة.
فعلى سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالاستقلالية عن السلطة السياسية، فإن البنك المركزي الأوروبي أكثر أصولية من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي: فعلى عكس الثاني، فإن البنك المركزي الأوروبي ليس مسؤولا عن دعم التوظيف، كما أنه ليس مسؤولا أمام البرلمان الأوروبي. وعندما تصدر محكمة العدل الأوروبية أحكاما بشأن السلوكيات المناهضة للمنافسة، فإنها غالبا ما تكون أكثر شكلية من محاكم أمريكا الشمالية[1]. هل كانت هناك عناصر أوروبية حقيقية في ظهور الليبرالية الجديدة؟ من الواضح أن الإجابة هي نعم – إنها الأوردو ليبرالية – حتى لو تجاهلها الكثيرون (أو قللوا من أهميتها رغم إدراكهم لوجودها)[2]. وقد سلط عدد من المؤلفين، بما في ذلك فرانسوا دينورد [3] وبيير داردو وكريستيان لافال[4]، الضوء على وجود وأهمية الاوردو ليبرالية. ماذا يقولون لنا؟
1.1 ظهور الأوردو ليبرالية
لنعد إلى أجواء الثلاثينيات. فبينما كانت الخطط الخمسية السوفياتية تثير إعجاب حتى منتقديها، كانت الرأسمالية تمر بأخطر أزماتها. وبدا أن الليبرالية الكلاسيكية كانت تتعثر، ولكن أولئك الذين أرادوا إنقاذها بأي ثمن، كليا أو جزئيا، كانوا قد بدأوا بالفعل في المجاهرة بذلك. وبينما كان البعض، مثل كينز، يعتقد أن الدولة يجب أن تتدخل في الاقتصاد للتعويض عن أوجه القصور في السوق المتروكة لأجهزتها الخاصة، بدا البعض الآخر متمسكا ببساطة بعقائد الليبرالية البحتة. ومن هؤلاء النمساويان لودفيج فون ميزس وفريدريك حايك[5]. وبين دعاة التدخل الاقتصادي للدولة ومعارضيهم، يبدو أن تيارا واحدا بدأ يظهر كحل وسط بين الاثنين: الأوردو ليبرالية الألمانية[6]. ولكن يجب أن نكون حذرين دائما من العروض القائمة على مخطط يضع ”وسطا سعيدا“ بين ”النقيضين“. فالأوردو ليبرالية لا علاقة لها بالكينزية؛ بل هي جزء مما سيصبح ليبرالية جديدة.
كان فالتر أوكن وفرانز بوم وفيلهلم روبكه وألكسندر روستو وألفريد مولر-أرماك وغيرهم، من الألمان الذين شاهدوا بفزع التضخم الذي خرج عن السيطرة في عام 1923، وانهيار جمهورية فايمار، والكساد الكبير الذي حدث في 1930-1931، ووصول هتلر إلى السلطة. ومن هذه التجربة الفوضوية، استمد هؤلاء الأوردو ليبراليبن ثلاثة مبادئ توجيهية: هاجس حقيقي بالاستقرار النقدي؛ والخوف من احتكار السلطة الاقتصادية، الذي رأوا فيه مقدمة لاحتكار السلطة السياسية (من قبل النازيين في حالة ألمانيا)؛ وعدم الثقة الشديدة في الحركة الجماهيرية.
لقد أرادوا محاربة الفاشية والنازية، وكذلك الشيوعية؛ وباعتبارهم ليبراليين جيدين، لم يرغبوا في أن تلعب الدولة دورا في أداء الاقتصاد (على عكس الكينزيين). ومع ذلك، فهم يعتقدون أن نهج ”عدم التدخل، وعدم السماح“ الذي تتبعه الليبرالية الكلاسيكية لا مستقبل له. ومن وجهة نظرهم، فإن المنافسة الحرة، إذا ما تُركت لنفسها، ستتدمر ذاتيا: فهي تؤدي إلى نشوء الاحتكارات والكارتلات. وخلافا لما كتبه الليبراليون الكلاسيكيون، فإن السوق ذات المنافسين المتعددين ليست ظاهرة طبيعية. إنه منتوج بشري يتطلب المراقبة والتدخل إذا ما أريد له البقاء على قيد الحياة. ولكن ليس أي تدخل. فعلى عكس الكينزيين، الذين يعتقدون أن الدولة يجب أن تعوض عن أوجه القصور الجوهرية للسوق (على سبيل المثال، من خلال إطلاق الأشغال العامة لتعزيز الطلب وإعادة العاطلين عن العمل إلى العمل)، يرى الأوردو ليبراليين أن تدخل الدولة يقتصر بشكل صارم على إنشاء إطار قانوني ومؤسسي مصمم لتشجيع المنافسة. والتدخل الوحيد المسموح به للدولة في عمل الاقتصاد هو الحفاظ على الاستقرار النقدي.
ومن أجل ضمان المنافسة الكاملة واستقرار الأسعار، يجب حماية أسسها من تقلبات الرجال والحكومات. لذلك يجب وضع قواعد معينة في دستور اقتصادي حقيقي، بما في ذلك المبادئ التالية: وجود عملة مستقرة؛ وحرية التجارة مع الدول الأجنبية؛ ومكافحة الاحتكارات؛ وحرية التعاقد ونتيجتها الطبيعية وهي المسؤولية الكاملة للأفراد والشركات. وهذه هي السمة المميزة للأوردو ليبرالية: عدم الثقة في الحركات الجماهيرية وعدم الإيمان بالتوازن الطبيعي لاقتصاد السوق، ويميل الأوردو ليبراليون إلى وضع قواعد صارمة منصوص عليها قانونيا للسماح للمنافسة الحرة بأداء دورها الكامل. وينبغي ألا يعهد بالمؤسسات المسؤولة عن ضمان استقرار الأسعار وتنظيم المنافسة إلى الإدارات الحكومية بل إلى سلطات مستقلة. ففي ألمانيا ما بعد الحرب، على سبيل المثال، تم إنشاء البنك المركزي الألماني ومكتب الكارتل الاتحادي، وكلاهما يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية عن السياسة.
دعونا نعود إلى الأحداث. في الفترة من 26 إلى 30 أغسطس 1938، عُقدت ندوة كان من المقرر أن تكون بمثابة ميلاد الليبرالية الجديدة. جمعت ”ندوة والتر ليبمان“[7] ستة وعشرين اقتصاديا ومثقفا ليبراليا في باريس. وكان من بين المشاركين الأمريكي والتر ليبمان، والفرنسيان جاك روف وريمون آرون، والنمساويان لودفيغ فون ميزس وفريدريك حايك، والألمانيان فيلهلم روبكه وألكسندر روستو. لقد أرادوا جميعا إنقاذ الليبرالية من الشيوعية والفاشية والنازية، ومن نزعة الاقتصاد المخطط، ومن الجبهة الشعبية ومن صفقة روزفلت الجديدة. وبينما دافع كل من روبكه وروستو عن فكرة التدخل القانوني من قبل الدولة من أجل استعادة المنافسة الكاملة، أبدى فون ميزس وحايك تحفظات قوية على هذا الموضوع. ودون تسوية هذا الجدل، أراد المشاركون في ندوة والتر ليبمان إنشاء مركز دولي لدراسة تجديد الليبرالية (CIRL). وقد وضعت الحرب العالمية الثانية نهاية لهذه التجربة.
في 10 أبريل 1947، وبمبادرة من فريدريك حايك وبفضل تمويل سخي (لا سيما من كبار أرباب العمل السويسريين)، تأسست جمعية مونت بيليرين في فيفي بسويسرا. وكان بعض المشاركين في ندوة والتر ليبمان (بما في ذلك الأوردو لليبراليين) موجودين هناك، ولكن ظهرت وجوه جديدة أيضا، لا سيما ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو. والهدف من الجمعية التي تم إنشاؤها على هذا النحو هو جمع المفكرين الليبراليين الجدد بشكل منتظم بهدف نشر أفكارهم بين ”النخب“ السياسية والاقتصادية، من أجل إعادة الرأسمالية إلى المسار الصحيح.
1.2 تأسيس الأوردو ليبرالية في ألمانيا الغربية
في وقت تأسيس جمعية مونت بيليرين، وفي مواجهة الكينزية السائدة بعد عام 1945، بدا أن هؤلاء الليبراليين الجدد محكوم عليهم بالتهميش. ومع ذلك، كان هناك بلد واحد حظيت فيه أفكارهم – على الأقل الأفكار الليبرالية – بجمهور حقيقي: جمهورية ألمانيا الاتحادية. ففي ألمانيا، تم تعيين لودفيغ إرهارد وزيرا للشؤون الاقتصادية في عام 1948. وكان مؤيدا قويا للأوردو ليبرالية وضم أشخاصا مثل أوكن وبوم ومولر-أرماك إلى مجلسه الاستشاري العلمي. فرض إرهارد على الفور تحريرا واسع النطاق للأسعار وبدأ في خصخصة الشركات الكبرى المملوكة للدولة. وبقيامه بذلك، كان من الواضح أن إرهارد كان يسير عكس تيار الإدارة الاقتصادية والتخطيط الذي كان يمارس في البلدان الأوروبية الأخرى. وفي عام 1957، تم إنشاء سلطتين مستقلتين عن السلطة السياسية:
- البنك المركزي الألماني : وهو مسؤول عن العملة الألمانية، وعن ضمان استقرار الأسعار، وليس عليه أن يقلق بشأن الحفاظ على القوة الشرائية للسكان أو تحقيق العمالة الكاملة والحفاظ عليها;
- مكتب الكارتل الاتحادي مسؤول عن ضمان تطبيق المنافسة بصرامة.
في جمهورية ألمانيا الاتحادية هذه، لا يوجد مجال لسياسة صناعية تقودها السلطات العامة: لا يوجد أي أثر لمثيل ”الكونكورد“ الفرنسية البريطانية، ولا يوجد أي نظير لـ ”MITI اليابانية“. لا توجد مسألة تدخل الدولة في ”يد السوق الخفية“. بل مثل قرية أستريكس الغالية، فإن ألمانيا الغربية هي جزيرة نيوليبرالية معزولة (أو بالأحرى أوردوليبرالية) بين البلدان الكينزية الأخرى في أوروبا.
وتُعرف الأوردو ليبرالية التي تم تأسيسها في ألمانيا الغربية باسم ”اقتصاد السوق الاجتماعي“. يخفي هذا المصطلح، الذي صاغه مولر-أرماك، غموضا مزدوجا: كلمة ”اجتماعي“ نفسها والمضمون الذي سيتخذه اقتصاد السوق الاجتماعي هذا في الواقع. بالنسبة لمولر-أرماك، يسمى هذا الاقتصاد ”اجتماعيا“ لأنه يخضع لخيار المستهلك، لأنه ديمقراطية الاستهلاك من خلال المنافسة. ستجعل المنافسة من الممكن زيادة متوسط الثروة، وستمنح الجميع فرصة المشاركة فيها. بالاعتماد على شعور الأفراد (وكذلك الشركات) بالمسؤولية، يعتقد الأوردو ليبراليون أن الأمر متروك لكل فرد أن يحصل على تأمينه الخاص لدى الشركات الخاصة من أجل حماية نفسه من مخاطر الحياة. فالمساعدات والمزايا الاجتماعية التي تقدمها الدولة تنطوي على خطر إضعاف إحساس الناس بالمسؤولية، وبالتالي يجب أن تقتصر على الحالات الهامشية فقط.
إن ”اقتصاد السوق الاجتماعي“، على الرغم من غموض المصطلح، لا علاقة له بالتدابير الاجتماعية الكينزية. ولكن بطبيعة الحال لم يستطع الأوردو ليبراليون أن يمسحوا الصفحة البيضاء من سجلات التاريخ، فمنذ بسمارك، كان لدى ألمانيا ترسانة قوية من التشريعات الاجتماعية (التأمين الصحي، والتأمين ضد الحوادث الصناعية، والتأمين ضد الشيخوخة والعجز، وقد تم إدخالها قبل عام 1890). كما أن قوة الحركة العمالية الألمانية جعلت من غير المتصور إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في هذا الصدد. ومع ذلك، وحتى عام 1966، وتماشيا مع الأوردو ليبرالية، لم يطور القادة الألمان الإعانات الاجتماعية إلا بدرجة أقل من تلك التي تحققت في فرنسا أو بريطانيا العظمى في الوقت ذاته. على سبيل المثال، كانت الإعانات العائلية، التي تم تقديمها في عام 1954، تُدفع فقط من الطفل الثالث فصاعدا.
ويمكننا القول إنه غموض مزدوج، بما أن مصطلح ”اجتماعي“ (خطأ!) يستحضر الكينزية، وبما أن ”اقتصاد السوق الاجتماعي“ هذا (عن غير رغبة) قد تضمن (عن غير قصد) عناصر من التشريعات الاجتماعية بالنظر إلى ماضي ألمانيا وحالة ميزان القوى. ويساعد هذا على تفسير سبب عدم اعتراف بعض الليبراليين الجدد بالأوردو ليبرالية.
فمنذ عام 1966، في ذروة ازدهار ”الستينيات الذهبية“، استولى الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) على مقاليد السلطة في ألمانيا من الحزب الديمقراطي المسيحي. (CDU) . ومع احتفاظهم بأسسهم الأوردو ليبرالية، إلا أنهم أدخلوا المزيد من العناصر الكينزية في إدارتهم الاقتصادية والاجتماعية. وارتفعت مساهمات الضمان الاجتماعي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 50% في غضون سنوات قليلة فقط، وتم تمرير قانون يعزز الاستقرار والنمو. عاد الديمقراطيون المسيحيون إلى السلطة في عهد هلموت كول بين عامي 1982 و1998، وقد أعاق العبء المالي لإعادة توحيد ألمانيا محاولتهم لإعادة إدخال المزيد من الليبرالية التقليدية. وفي ظل حكومات الاشتراكيين الديمقراطيين في عهد غيرهارد شرودر (1998-2005) أصبحت العودة إلى الأوردو ليبرالية أكثر وضوحا. في سياق أصبحت فيه الليبرالية الجديدة في هذه الأثناء هي الدوكسا الاقتصادية العالمية، وتحت وطأة الابتزاز من عمليات الانتقال إلى الشرق (بولندا، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، إلخ)، تبنت الحكومة الألمانية ”أجندة 2010“؛ فتم تضييق نطاق التأمين الصحي، وتقليص المعاشات التقاعدية، وجعل سوق العمل ”أكثر مرونة“ (وظائف صغيرة بأجور زهيدة، وفترات دفع إعانات البطالة أقصر، إلخ).
1.3 تأثير الأوردو ليبرالية على التكامل الأوروبي
كان من المقرر أن تترك ألمانيا التي يغلب عليها الطابع الأوردو ليبرالي بصماتها على التكامل الأوروبي إلى حد كبير. فقد تحولت المجموعة الاقتصادية الأوروبية، التي تأسست عام 1957 بموجب معاهدة روما، إلى حل وسط بين الأفكار الفرنسية التي كانت موجهة إلى حد ما نحو التخطيط والتوجيه في ذلك الوقت والأفكار الأوردو ليبرالية للعديد من المفاوضين الألمان (على سبيل المثال، كان والتر هالشتاين، أول رئيس للمفوضية الأوروبية من 1958 إلى 1967، أوردو ليبراليا خالصا). وحصلت فرنسا على السياسة الزراعية المشتركة، وبعض التحسينات الاجتماعية، وتعريفة جمركية مشتركة عالية إلى حد ما، وتفضيل المنتجات من مستعمراتها أو مستعمراتها السابقة[8]. ولكن في الواقع تم إرساء الحريات الاقتصادية الأساسية الأربع (حرية تنقل الأشخاص والسلع والخدمات ورأس المال)؛ ولم يتم وضع سياسة صناعية استباقية؛ وكانت سياسة المنافسة (”المنافسة الحرة وغير المشوهة“) منذ البداية ركيزة الاتحاد الأوروبي.
وبمرور الوقت، ستثبت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي أنها أكثر تشددا من المفوضية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع النزاعات المتعلقة بالامتثال لقواعد المنافسة. وبما أن المنافسة، في المفهوم الليبرالي النظامي، هي من صنع السلطات بشكل طوعي، فمن الضروري رفض أي قرار من شأنه أن يصادق على فشل هذه الأخيرة. وبالتالي، لتبسيط شروط النقاش إلى حد ما، إذا سيطرت شركة عملاقة على السوق في قطاعها، ولكن من أجل ثني المنافسين عن التعدي على أرضها، تحافظ هذه الشركة (على الأقل لفترة معينة) على الحد الأدنى لأسعار البيع، يجب تجاهل هذه الميزة بالنسبة للمستهلك؛ يجب اتخاذ تدابير لإعادة خلق منافسة حقيقية. هذه هي الطريقة التي تفكر بها محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي اليوم، في حين أن سلطات مكافحة الاحتكار الأمريكية قد تميل إلى الحل الآخر في مواجهة مثل هذه الحالة[9]. هذا النوع من العناصر هو ما يميز الأوردو ليبرالية عن الليبرالية الأنجلو-ساكسونية الجديدة. هناك شيء ما شكلي في الموقف الأوردو ليبرالي. فليست نتيجة الفعل هي التي تجعل من الممكن تمييز القرارات الجيدة من غيرها: ما يجعل من الممكن اتخاذ القرار هو احترام قواعد المنافسة من عدمه.
1.4 ماستريخت وما بعدها
بمعاهدة ماستريخت، شرع الاتحاد الأوروبي في طريق إنشاء عملته الموحدة: اليورو. وقد تم وضع النظام الأساسي للبنك المركزي الأوروبي (البنك المركزي الأوروبي، الذي أنشئ في عام 1998) على غرار النظام الأساسي للبنك المركزي الألماني. وفي حين أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مسؤول أمام الكونجرس الأمريكي ويجب أن يضمن ليس فقط استقرار الأسعار ولكن أيضا تنمية الإنتاج والتوظيف، فإن البنك المركزي الأوروبي مستقل عن السلطة السياسية ويجب أن يقتصر دوره على الحفاظ على استقرار الأسعار. أما بالنسبة لمعايير التقارب المصممة لاختيار البلدان المرشحة للانضمام إلى اليورو، فهي انعكاس للمفهوم الأوردو ليبرالي للقواعد شبه الدستورية، خارج نطاق القرارات التي تتخذها المجالس البرلمانية. وقد أصبحت هذه البصمة الأوردو ليبرالية أكثر وضوحا منذ طرح معاهدة الاستقرار والتنسيق والحكامة (TSCG) مؤخرا.
دعونا نتذكر ركائز هذه المعاهدة:
- لا يجوز أن يتجاوز العجز الهيكلي للميزانية (أي باستثناء التغيرات الدورية) لكل دولة عضو في منطقة اليورو نسبة 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهذه هي ”القاعدة الذهبية“
- يجب أن تكون هذه القاعدة الذهبية منصوصا عليها في الدستور (أو في قانون مماثل) ويجب أن تكون مصحوبة بآلية تصحيح تلقائية لا تخضع لمداولات برلمانية
- عندما يتجاوز الدين العام 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي، يجب على الدول سد الفجوة بنسبة واحد إلى عشرين في السنة
- يجوز للمفوضية الأوروبية ومحكمة العدل الأوروبية تغريم الدولة التي لا تلتزم بهذه القواعد.
2. فريدريك حايك وتسونامي الليبرالية الجديدة
لا يمكن إنكار أن الأوردو ليبرالية، التي تم تجريبها لأول مرة في ألمانيا الغربية، لعبت دورا مهما في تشكيل المجموعة الاقتصادية الأوروبية، التي أصبحت الاتحاد الأوروبي في عام 1992. إن الثقل الكبير للاقتصاد الألماني في الصرح الأوروبي يفسر إلى حد كبير هذه البصمة. ولكن في غضون ذلك، اجتاحت موجة الليبرالية الجديدة العالم بأسره تقريبا. ولا شك أن فريدريك حايك (1899-1992) كان أحد المهندسين الرئيسيين لهذا التسونامي.
2.1 فريدريك حايك
تجدر الإشارة في البداية إلى أن حايك لم يدّعِ أبدا أنه ليبرالي جديد، بل كانت أطروحاته استمرارا مباشرا لفكر الليبراليين الكلاسيكيين مثل آدم سميث. في البداية، التزم حايك بتعاليم المدرسة الكلاسيكية الجديدة[10]. وقد أعلنت هذه المدرسة الليبرالية التي تأسست في نهاية القرن التاسع عشر أن المجتمع لا يتكون من فئات أو طبقات اجتماعية بل من أفراد، وأن هؤلاء الأفراد عقلانيون في خياراتهم الاقتصادية (وبشكل أعم في جميع خياراتهم الحياتية)، وأن السوق الحرة تؤدي إلى توازن مرض لكل من البائعين والمشترين، على الأقل طالما أن الدولة لا تتدخل في الاقتصاد.
أما فيما يتعلق بموضوع السوق والمنافسة، فقد سارع حايك إلى الابتعاد عن أفكار الكلاسيكيين الجدد. فبالنسبة لهم، فإن المنافسة الخالصة والمثالية (أي مع وجود العديد من الشركات المتنافسة والمستهلكين المطلعين) تنتج بالضرورة حالة من التوازن ترضي البائعين والمشترين على حد سواء. يرى حايك الأمور بشكل مختلف. فبالنسبة له، تؤدي المنافسة بين البائعين وبين المشترين إلى سعي الجميع إلى جمع المعلومات المفيدة التي تمكنهم من تحقيق مكاسب إضافية. وبدلا من أن تكون السوق حالة ساكنة، فهي عملية ديناميكية لا تنتهي أبدا؛ وبدلا من أن تكون السوق ذاتية التنظيم، فهي ذاتية البناء[11]. بالنسبة لحايك، السوق هو مسرح لصراع مستمر يعزز إمكانات الجميع. مثل هذه المحاكاة تقود كل فرد إلى محاولة التفوق على الآخرين، وبالتالي التحسين المستمر. ولكن كيف وصلنا إلى هنا، وفقا لحايك؟
من وجهة نظره، تطور المجتمع البشري ببطء، عبر المحاولة والخطأ، من خلال العمل تدريجيا على وضع ”قواعد السلوك الصحيح“. بالنسبة له، المجتمع ليس نتيجة نظام طبيعي بحت (أي مستقل عن الفعل البشري) ولا هو نتيجة نظام مصطنع بحت (ناتج مباشرة عن الإرادة الواعية للبشر). إنه نظام تلقائي، أي ناتج عن الفعل البشري، ولكن دون أي نية مسبقة[12]. لقد مكّن تطور اقتصاد السوق على مر الزمن المجتمع من التوسع إلى ما هو أبعد من الحشد والعشيرة والقبيلة: إن نظام السوق (الذي أسماه هايك ”الكاتالاكسي“) يجعل من الممكن التوفيق بين المشاريع المتباينة (وليس فقط في المجال الاقتصادي). رافق هذا التطور التدريجي للمجتمع البشري ظهور ”قواعد السلوك الصحيح“. بالنسبة إلى حايك، تتلخص هذه القواعد في ثلاثة قوانين أساسية: استقرار الممتلكات (حرمة الملكية)؛ ونقل الملكية بالتراضي (حرية التعاقد)؛ والوفاء بالوعود الواردة في العقود (تحت طائلة الأمر بتعويض الآخرين عن الضرر الذي يلحق بهم).
بالنسبة إلى حايك، سيكون من غير المقبول والخطير محاولة استبدال نظام آخر بالنظام التلقائي للسوق لأن معرفتنا بكيفية عمل الأنظمة الاجتماعية المعقدة محدودة للغاية. ففي العلوم الاجتماعية، من غير المجدي محاولة تفسير الأحداث في مجملها أو التنبؤ بها. يجب أن نتحلى بالتواضع لنكتفي بالتأمل في الآلة العجيبة التي هي السوق كما تطورت على مدى آلاف السنين الماضية[13]. مع العلم أن ما لا يمكن فهمه بالكامل لا يمكن التخطيط له، سيكون من الخطورة بمكان محاولة استبدال السوق بنظام آخر (نظام اشتراكي على سبيل المثال). سيكون الأمر أشبه ما يكون بلعب دور الساحر. سيخاطر ذلك بإغراقنا مرة أخرى في البربرية (لا أقل من ذلك!) أو الشمولية (أو كليهما).
هل يمكننا على الأقل أن نغير اتجاه اقتصاد السوق هذا، من خلال توجيهه نحو الأهداف الاجتماعية؟ لا، ألف مرة لا. إن القيام بذلك سيكون بمثابة إدخال عنصر مصطنع في صرح عفوي. لا بأس من مساعدة الفئات الأكثر حرمانا من خلال ضمان حد أدنى من الدخل لهم، ولكن بالنسبة للبقية، لا يمكن للدولة أن تطبق سوى القواعد العامة التي تنطبق على الجميع: لا يوجد سبب لاتخاذ تدابير لإعادة توزيع الثروة على أساس أقل تفاوتا. وحتى لو قررت الأغلبية ديموقراطيا أن تأخذ حصة من ثروة الأغنياء لصالح الأفقر، فلن يكون ذلك مقبولا. يجب أن نلتزم بقواعد السلوك العادل والقواعد الإضافية التي تنطبق على الجميع. فالسماح للسيادة الشعبية بمخالفة ذلك سيكون بمثابة التصديق على ”طغيان الأغلبية“ – أي طغيان أغلبية الطبقات الفقيرة والمتوسطة على أقلية الأغنياء – ستكون ”ديمقراطية غير محدودة“ معرضة للتحول إلى ”ديمقراطية شمولية“. من هذا المنظور قال حايك عن تشيلي في عهد بينوشيه: ”أنا شخصيا أفضل الديكتاتورية الليبرالية، وليس حكومة ديمقراطية تغيب عنها كل الليبرالية“.
2.2 أفول الستينيات الذهبية والتسونامي الليبرالي الجديد
حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، كان النمساويون-الأمريكيون (بمن فيهم فون ميزس وحايك) وأتباع مدرسة شيكاغو (لا سيما ميلتون فريدمان) والأوردروليبراليون النظاميون يعيشون معا داخل جمعية مونت بيليرين. ثم حدث انقسام أدى إلى تحول الأوردو ليبراليين إلى أقلية داخل هذه الهيئة. وقد مهد ذلك الطريق لكي تسود أفكار حايك في صفوف الليبراليين المجتمعين في جمعية مونت بيليرين. كانت هذه هي الأفكار التي سادت عندما اجتاح تسونامي الليبرالية الجديدة العالم الرأسمالي في أواخر السبعينيات.
طبقت النيوليبرالية لأول مرة[14] في شيلي عندما أطاح أوجوستو بينوشيه بحكومة سلفادور أليندي في عام 1973. وبتوجيه من ميلتون فريدمان و”فتيان شيكاغو“، شهد الاقتصاد التشيلي بطالة هائلة، وخصخصة القطاع العام، والقمع المناهض للنقابات، وإعادة توزيع الثروة على الأغنياء. ثم، في نهاية السبعينيات، عندما استنفدت السنوات الثلاثين المجيدة قدرتها على تنمية الثروة، وصلت مارغريت تاتشر، المعجبة بكتابات فريدريك حايك، إلى السلطة في إنجلترا عام 1979، بينما فعل رونالد ريغان، الذي نصحه ميلتون فريدمان، الشيء نفسه في الولايات المتحدة في العام التالي. وحذت حذوهما في أماكن أخرى حكومات ليبرالية واشتراكية ديمقراطية على حد سواء.
ثم جاء وقت التشنيع الكبير بكل مايمت بصلة ما بالكينزية، وبشكل أعم، بالسياسات الاستباقية التي تهدف إلى تحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية. و”تبرهن“ التقارير والمقالات أن إعانات البطالة والحد الأدنى للأجور يشجعان على زيادة البطالة، وأن التأمين الصحي الإجباري يؤدي إلى الإفراط في استهلاك الرعاية الطبية، وأن التعليم العالي المجاني معاد للمجتمع لأنه ممول من المجتمع ولا يفيد إلا أقلية، وهكذا. لا تفيد المساعدة الاجتماعية والضمان الاجتماعي الأفراد: فهي تضعهم في حالة من المساعدة، وتجعلهم تابعين وتمنعهم من السيطرة على حياتهم وتحمل مسؤولياتهم بالكامل.
من بين الإصلاحات التي تم تبنيها كجزء من الليبرالية الجديدة – والتي تسمى دائما ”تحديثات“ – ينبغي أن نذكر ما يلي، متبنين طريقة التفكير النيوليبرالية
– من الاستقرار إلى المرونة
إن تحديد يوم العمل بثماني ساعات كحد أقصى، والراحة الإجبارية يوم الأحد، والمكافآت المدفوعة (بالإضافة إلى الأجر العادي) عن العمل الإضافي، والتعويضات بدلا من الإشعار في حالة التسريح، وحظر دفع أجر أقل من الحد الأدنى المضمون للأجور – هذه هي أوجه الجمود والحواجز التي تحول دون الحرية الاقتصادية الكاملة. فهي تقلل من الحافز لدى ”صانعي القرار“ لاستثمار رؤوس أموالهم. لذلك من الضروري تحرير علاقات العمل وإضفاء أقصى قدر من المرونة من أجل تشجيع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار.
– الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد
تتسم الشركات العامة (النقل، والخدمات البريدية، والاتصالات، وتوزيع الطاقة، وما إلى ذلك) بإدارة متواضعة: فغياب المنافسة يعني أن هناك حافزا ضئيلا لخفض التكاليف، مما يضع المستخدمين في وضع غير موات. كما أن البيروقراطيين الذين يديرون الشركات العامة لا يحفزهم احتمال تحقيق الربح – على عكس مديري القطاع الخاص – لذلك لا يوجد حافز للإدارة الجيدة. لذلك نحن بحاجة إلى خصخصة أكبر عدد ممكن من الشركات العامة أو، في حال فشل ذلك، إدخال آليات السوق.
عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، يجب أن تتدخل الدولة فقط عندما يكون هناك خطر ألا تكون الاستثمارات مربحة لفترة طويلة (لا سيما بناء البنية التحتية مثل الجسور والطرق المائية والسكك الحديدية والطرق[15]، إلخ). أما أي شيء من المرجح أن يدر ربحًا – أي شيء مربح – فينبغي أن يترك للمشاريع الخاصة[16].
– تخفيض الضمان الاجتماعي والضرائب
الضمان الاجتماعي مكلف للغاية بالنسبة للشركات والأفراد والدولة. كما أنه مصدر تبذيرات أيضا؛ على سبيل المثال، كلما كانت الرعاية الصحية أرخص (لأنها تسدد إلى حد كبير من الضمان الاجتماعي)، كلما زاد عدد الأشخاص الذين يسيؤون استخدامها. على العكس من ذلك، نحن بحاجة إلى العودة إلى الأسعار الحقيقية كما يحددها سعر تكلفة السلع والخدمات، حتى يتمكن الجميع من استعادة الشعور بالمسؤولية. وعلى نفس المنوال، يجب تخفيض إعانات البطالة وإلغائها بعد فترة معينة. مرة أخرى، الهدف هو جعل الناس أكثر مسؤولية. فبطالة مغطاة بتعويضات عنها مرتفعة للغاية تشجع الناس على التوقف عن البحث عن عمل ورفض بعض الوظائف التي يعتبرونها شاقة جدا و/أو ذات أجور منخفضة كثيرا. وبصفة عامة، لا ينبغي إلغاء الضمان الاجتماعي بشكل كامل؛ بل ينبغي تخفيضه إلى الحد الأدنى من شبكة الرعاية.
يتطلب التدخل الاقتصادي من قبل الدولة فرض ضرائب مفرطة. فالضرائب المرتفعة (خاصة على الأرباح والدخول المرتفعة) لا تشجع على المخاطرة والمسؤولية وريادة الأعمال والجهد الشخصي. نحن بحاجة إلى خفض الضرائب على الدخول العالية وأرباح الشركات من أجل إعادة خلق روح المبادرة والسماح للأفراد بالادخار. وبهذه الطريقة، سيتمكن الأفراد من تجميع مدخرات يمكن استثمارها في الشركات أو إقراضها.
دعونا الآن نتخلى عن طريقة التفكير الليبرالية الجديدة من أجل استعادة قدرتنا على الحكم. تسمح لنا مقارنة الرغبة في تقييد إعانات البطالة بالرغبة في خفض الضرائب على الأرباح والدخول المرتفعة بالوصول إلى صميم المنطق الليبرالي الجديد – وقياس معارضته لليبرالية الكينزية. إذ يوصي الكينزيون بفرض ضرائب على الأرباح، ولا سيما حتى يتمكنوا من دفع الإعانات للعاطلين عن العمل[17]؛ وبهذه الطريقة، يمكن حتى للعمال العاطلين عن العمل الاستمرار في الاستهلاك، مما يحافظ على فرص العمل. في الطرف الآخر من الطيف، يوصي الليبراليون الجدد بخفض الضرائب وإعانات البطالة؛ وهذا سيشجع المستثمرين على الاستثمار (نظريا على الأقل) وسيسهل عليهم العثور على عمال لتوظيفهم، لأن البطالة ستصبح أقل جاذبية.
3. التلاعب الكبير: الفرد في السوق، الفرد في الشركات
لقد حان الوقت لترك تدابير السياسة الاقتصادية التي أنتجتها الليبرالية الجديدة وسابقتها، الأوردو ليبرالية، عند هذا الحد، وعلينا الآن أن ننتقل إلى التلاعب الكبير الذي تجلبه الليبرالية الجديدة على سلوك الأفراد.
في جزء من إخلاصها لأفكار المدرسة الكلاسيكية الجديدة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، تقدم الليبرالية الجديدة المجتمع على أنه لا يتألف من طبقات اجتماعية بل من أفراد عقلانيين ومسؤولين. أضافت الليبرالية الجديدة إلى هذه الأسس السابقة ضرورة أن يكون الأفراد قادرين على المنافسة. قدم هايك السوق كمكان يمكن للناس أن يطوروا فيه قدراتهم؛ لذلك من المناسب وضع الناس في وضع سوق تنافسي قدر الإمكان. حتى عندما يبدو وضع السوق التنافسي غير وارد (في الوظيفة العمومية، على سبيل المثال). سيؤدي ذلك إلى تحقيق الأفراد لإمكاناتهم (أو حتى تجاوزها). سيتمكن الجميع من أن يصبحوا رواد أعمال بأنفسهم ومن تلقاء أنفسهم. وليس فقط في العمل. يجب على الأفراد أن يكونوا قادرين على المنافسة على جميع الجبهات، لأن السوق التنافسي ليس مجرد واقع اقتصادي رأسمالي فحسب، بل هو حياتنا كلها. توسع الليبرالية الجديدة قيم السوق لتشمل جميع جوانب الحياة.
ولكن هل الفرد عقلاني ومسؤول وتنافسي بشكل حقيقي وكامل؟ أو، إذا لم يكن الأمر كذلك، هل يجب توجيه السلوك البشري من خلال سلسلة من الآليات لجعل الفرد كائنا يناسب هذا الوصف؟[18] على أي حال، هذا ما تسعى الليبرالية الجديدة إلى تحقيقه. ووللوصول لهذا الهدف، تطور الليبرالية الجديدة عقلانية خاصة. ماذا يعني هذا؟ لقد أعادت ويندي براون[19]تفسير الأفكار التي طرحها ميشيل فوكو في نهاية السبعينيات بشأن مفهوم ”العقلانية الحكومية“ بطريقتها الخاصة، وواصل بيير داردو وكريستيان لافال[20] هذه العملية. دون الرغبة في تعريف من وجهة النظر هذه، فإن الليبرالية الجديدة هي وضع ينغمس فيه الجميع بشكل دائم تقريبا في وضع تنافسي؛ ويكون الجميع ملزما بأن يرى نفسه كفرد/شركة عليه/ها أن تحافظ على ”رأس مالها البشري“ وأن تنميه، دائما وبلا هوادة. كيف يمكننا تحقيق هذا الهدف؟
3.1 الفرد المسؤول، الفرد/الشركة
إن أول ما يجب القيام به هو التخلص من كل ما يسلب المسؤولية من الفرد. علينا أن نتخلص من كل ما يندرج تحت دولة الرفاهية: الحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في الحفاظ على الدخل في مواجهة تقلبات الحياة (إعانة البطالة، دفع الإجازات المرضية، معاش التقاعد، إلخ) يسلب من الناس إحساسهم بالمسؤولية ويجعلهم يفقدون كبرياءهم في الاعتماد على أنفسهم (أو على أسرهم) فقط. فالأمر متروك للعاطلين عن العمل لإثبات أنهم يبحثون بنشاط عن عمل؛ والأمر متروك للعمال لتكوين مدخرات تقاعدية إضافية لتعويض الانخفاض ”الحتمي“ في معاشات التقاعد في المستقبل؛ والأمر متروك للطلاب للاقتراض لدفع تكاليف تعليمهم العالي بدلا من أن تكون دراستهم مدعومة من المجتمع. على الجميع أن يدركوا أن لديهم رأس مال بشري يجب أن يحافظوا عليه ويطوروه بأنفسهم (التعلم مدى الحياة، وبناء مجموعة من المهارات، وما إلى ذلك). وأننا يجب أن نتوقف عن لوم الآخرين على ما هو نتيجة لسلوكنا: فالبدين والجانح والمراهقة الحامل والمتسرب من المدرسة والفقير والمستبعد لا يلومون إلا أنفسهم. يجب على الأفراد المكلفين بالحفاظ على رأسمالهم البشري وتطويره أن يصبحوا ”أصحاب مشاريع ذاتية“، يجب أن ينظروا إلى أنفسهم كشركة تبيع الخدمات التي تمكنهم مهاراتهم من تقديمها للشركات التي توظفهم كعمال (عذرا: كمتعاونين). يجب أن يصبحوا هم أنفسهم مراكز للربح.
3.2 الشركات الخاصة
كيف يمكننا أن نجعل الفرد/ الشركة يقدم أفضل ما لديه للشركة التي ”تتكرم“ بتوظيفه؟ أولا، عن طريق وضعهم قدر الإمكان في حالة من عدم الاستقرار الوظيفي (عن طريق العقود المؤقتة والمحددة المدة). ثم عن طريق إضفاء الطابع الفردي على جزء من الراتب قدر الإمكان، عن طريق إقناع الموظفين بأنهم لا ينتجون منتجا فحسب، بل إن عليهم واجب إرضاء العميل[21]، سواء من حيث جودة المنتج أو مواعيد التسليم؛ عن طريق تكليف الأفراد والفرق بأهداف يجب تحقيقها وتجاوزها[22]؛ عن طريق إقناع المديرين بأنه لا يجب أن يتغلبوا على منافسيهم فقط، بل يجب أن ”يقتلوهم“؛ عن طريق وضع الفرق داخل الشركة في منافسة مع فرق أخرى أو مع شركات متعاقدة من الباطن. وبعبارة أخرى، فإن المنافسة التي كانت موجودة بين الشركات حتى الستينيات الذهبية انتقلت الآن إلى حد كبير إلى داخل الشركات. فبالإضافة إلى السوق بين الشركات، هناك الآن سوق تنافسية داخل كل شركة.
3.3 في الشركات والإدارات العمومية
هل من الممكن وضع الأفراد في سوق تنافسية عندما يعملون في الشركات العامة؟ بالتأكيد! بدأت نظرية الاختيار العام في ستينيات القرن الماضي تحت قيادة جيمس بوكانان وجوردون تولوك في التقليل من قيمة الشعور بالواجب والمصلحة العامة الذي يحفز بعض موظفي الخدمة المدنية على الأقل. ويرى أنصار الاختيار العام أنه في حين تسعى الشركة الخاصة إلى تعظيم أرباحها، تسعى الإدارة العامة بشكل أساسي إلى تعظيم الميزانية والموارد المخصصة لها. ولمعالجة ذلك، يجب إدخال عناصر السوق التنافسية داخل هذه الإدارات. كيف يمكن القيام بذلك؟
– من خلال وضع المؤسسات العمومية في منافسة مع بعضها البعض و/أو مع الشركات الخاصة.
– من خلال ”تقليص حجمها“، أي تقليل عدد موظفي الخدمة المدنية، الذين يُنظر إليهم على أنهم مجرد تكاليف.
– وضع أهداف كمية لتنفيذ السياسات العمومية.
– من خلال خلق ثقافة مؤسسية لا يكون الهدف منها تقديم خدمة للجميع، بل ”إرضاء العميل“.
– من خلال إسناد إدارة الوحدات الإدارية إلى مدبرين يتمتعون بدرجة من الاستقلالية.
– من خلال تحفيز الموظفين من خلال الحوافز المالية (الإيجابية أو السلبية).
– من خلال إجبار الموظفين على الخضوع لمقابلات فردية مع ”مديرهم“، من أجل التحقق مما إذا كانت الأهداف الموكلة إليهم قد تحققت أم لا، وإذا لم يتحقق ذلك، لمعرفة كيفية تصحيح الأمور.
– عن طريق تآكل الاستقرار القانوني من خلال الاستخدام المتزايد للموظفين المتعاقدين.
وعندما يجد هذا ” التدبير العمومي الجديد“ صعوبة في إنشاء آلية حقيقية للمنافسة، يمكنها أن تستحدث أنظمة للرقابة والتقييم تؤدي إلى المكافآت أو العقوبات. ويعمل تقييم الموظفين والفرق هنا كبديل للسوق.
3.4 دائما أكثر ودائما أفضل، حتى في حياة الفرد الخاصة…
لا يمكن لهذا الفرد العقلاني والمسؤول والتنافسي أن يكتفي بتحقيق مستوى مُرضٍ: يجب أن يكون دائما أكثر تنافسية. يجب ألا يتوقف أبدا عن تحسين نتائجه وأدائه. ليس فقط من خلال تطوير المهارات المفيدة للشركات. بل يجب أن يبحثوا باستمرار عن طرق لتحسين أنفسهم، وأن يكونوا على استعداد لاتخاذ الإجراءات اللازمة. بما في ذلك في حياتهم الشخصية. عندما يتعلق الأمر بالحياة الجنسية، يوصي عدد لا بأس به من المجلات (خاصة المجلات النسائية، ولكن ليس فقط المجلات النسائية) بالبحث عن أي شيء يمكن أن يضيف الإثارة والأداء الإضافي (عدد ومدة اللقاءات الجنسية، وتنوع الشركاء، وعدد ونوع الأوضاع، وما إلى ذلك). علاوة على ذلك، حتى الجسد يجب الحفاظ عليه وتحسين أدائه باستمرار… بما في ذلك من خلال اللجوء المتزايد (والشائع بشكل متزايد) إلى الجراحة التجميلية[23].
حتى نهاية الستينات الذهبية، كان هناك تمييز واضح بين صرامة العمل الزاهدة في مقابل الاستمتاع الهادئ بوقت الفراغ والسلع المكتسبة من خلال العمل. من الآن فصاعدا علينا أن ننتج أكثر فأكثر، ونستمتع أكثر فأكثر![24] مع الليبرالية الجديدة، هناك الأداء، ”المزيد دائما والمزيد أبدا“ هو ما يتم البحث عنه في كل مكان، إلى حد الهوس.
3.5 … والمزيد أكثر من أي وقت مضى، والآثار الأسوأ على الصحة
لنعد إلى الحياة العملية (لمن حالفهم الحظ في الحصول على وظيفة). في مقال حديث[25]، نقلا عن الصحف اليومية البلجيكية، كتب جان بلتييه ما يلي. ”تعتبر منظمة الصحة العالمية أن الإجهاد أصبح السبب الرئيسي للعجز عن العمل (…). وقد سلط باحثون في جامعتي لييج وغنت (…) الضوء على ثلاثة معايير للإرهاق: الإرهاق العاطفي، وتغير في الموقف تجاه العمل، والشعور بعدم الفعالية أو عدم الكفاءة. ويظهر أن 40% من العاملين يقولون أنهم يشعرون بالمعيار الأول وأن 15% إلى 20% يشتكون من المعايير الثلاثة في نفس الوقت[26]. أو مرة أخرى: ”زاد استخدام مضادات الاكتئاب [في بلجيكا] بنسبة 45% بين عامي 2004 و2012“[27].
شكرا لك أيتها الليبرالية الجديدة! أو بعبارة أخرى: شكرا للرأسمالية!
بقلم روجر غودين
روجر غودين، مدرس تاريخ متقاعد، وهو مناضل ماركسي ثوري في بلجيكا.
الرابط الاصلي للترجمة : هنا
ترجمة: يونس. ح / عضو أطاك المغرب
[1] فريديريك مارتي، Politiques européennes de concurrence et économie sociale de marché، ورقة عمل مكتب الاقتصاد الاجتماعي رقم 2010-30، نوفمبر 2010، http://www.ofce.sciences-po.fr/pdf/dtravail/WP2010-30.pdf
[2] وهذا ينطبق بشكل خاص على بيري أندرسون، الذي يعتبر أنه حتى نهاية السبعينيات، ظلت النظرية الأوردو ليبرالية ”مثل الصفة المتنحية في مورثات المجموعة [الأوروبية]، كامنة ولكنها لم تكن مهيمنة أبدا في تطورها“ (بيري أندرسون، لو نوفو فيو موند، أغون، مرسيليا، 2011، ص 98).
[3] لا سيما في François Denord, Néo-libéralisme version française. Histoire d’une idéologie politique, Paris, Demopolis, 2007.
[4] لا سيما في: بيير داردو وكريستيان لافال، La Nouvelle Raison du monde. مقال عن المجتمع الليبرالي الجديد. La Découverte، باريس، 2009، 2010.
[5] لم يكتفِ فون ميزس وحايك بتكرار رسالة الليبراليين الكلاسيكيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر. انظر النقطة 2.
[6] نُسب مصطلح ”الاوردوليبرالية“ لاحقًا إلى هذه الحركة، عندما نشر فالتر أوكن وفرانز بوم (منذ عام 1948) مجلة بعنوان ”ORDO, Jahrbuch für die Ordnung von Wirtschaft und Gesellschaft“ (ORDO، المراجعة السنوية للنظام الاقتصادي والاجتماعي).
[7] سميت بهذا الاسم لأنها صدرت بمناسبة زيارة كاتب المقالات وكاتب الافتتاحيات والتر ليبمان إلى باريس.
[8] منذ ذلك الحين، وتحت تأثير منظمة التجارة العالمية على وجه الخصوص، تضاءلت أهمية كل من السياسة الزراعية المشتركة والتعريفة الجمركية المشتركة للاتحاد الأوروبي تجاه بقية دول العالم.
[9] باسم ”رفاهية المستهلك“.
[10] اشتهرت المدرسة الكلاسيكية الجديدة التي طورها ويليام ستانلي جيفونز وكارل مينجر وليون والراس واستمر فيها كل من فيلفريدو باريتو وألفريدو مارشال وفريدريك فون فيزر ويوجين بوم-باورك، بمفهوم الهامشية ونظريتها للتوازن الاقتصادي العام.
[11] داردوت ولافال، المرجع السابق ذكره، الحاشية 4.
[12] من ناحية أخرى، يرى الاوردوليبراليون أن المنافسة يجب أن تنشأ بفعل إرادي: إنه نظام مصطنع.
[13] لدى حايك نظرة تشاؤمية للمعرفة، ليس فقط في العلوم الاجتماعية أو الاقتصادية.
[14] باستثناء التجربة الاوردو ليبرالية التي بدأت عام 1948 في ألمانيا الغربية!
[15] إلا إذا كان من الممكن فرض رسوم عليها (مثل العديد من الطرق السريعة الفرنسية على سبيل المثال).
[16] تم التعبير عن هذا الإيمان الديني بالفضائل شبه السحرية للمشاريع الخاصة في المقتطف التالي من وثيقة المفوضية الأوروبية: ”من شأن سوق أوروبية موحدة للكهرباء والغاز تنافسية حقا أن تؤدي إلى انخفاض الأسعار، وتحسين أمن الإمداد وتعزيز القدرة التنافسية. كما سيكون له تأثير مفيد على البيئة“ (مقتطف من الورقة الخضراء لعام 2006 بشأن تطوير سوق أوروبية موحدة للكهرباء والغاز).
[17] شريطة أن يتم تمويل الضمان الاجتماعي عن طريق الضرائب، كما هو الحال في بريطانيا العظمى على سبيل المثال. أما في بلجيكا وفرنسا، فيتم تمويل الضمان الاجتماعي بشكل أساسي عن طريق الاقتطاعات من الرواتب. ولكن من وجهة نظر أرباب العمل، هذه تكلفة أجور وليست تكلفة ضريبية.
[18] على أي حال، بالنسبة لليبراليين الجدد، عندما ينحرف الواقع عن النمط المحدد مسبقا، فمن الواضح أن الواقع هو المخطئ: يجب أن يكون الواقع هو الذي يجب أن يتناسب مع النمط!
[19] ويندي براون، الثياب الجديدة للسياسة العالمية، ليه برايرز أوردينير، باريس، 2007.
[20] بيير داردو وكريستيان لافال، مرجع سابق، الهامش 4.
[21] وبالطبع، إذا لم يكن الزبون راضيا عن عمله، فهذا ليس خطأ الشركة بل خطأ كل عامل على حدة.
[22] يقدم كتاب جان بابتيست ماليه (En Amazonie: Infiltré dans le ”meilleur des mondes“، فايار، باريس، 2013) توضيحا رائعا.
[23] حول هذا الموضوع، انظر: منى شوليت، Beauté fatale. Les nouveaux visages d’une aliénation، La Découverte، باريس، 2012.
[24] هذا أيضا بعيد كل البعد عن ”الحياة بلا موت، والعيش بلا موت، والعيش بلا قيود“ لمناصري الموقف ومايو 68…
[25] http://www.avanti4.be/analyses/article/et-la-belgique-sortit-de-la-crise-vraiment
[26] لو سوار، 22 أكتوبر 2013.
[27] La Meuse، 17 أكتوبر 2013.