العولمة الرأسمالية

زلزال “نيوليبرالي”

زلزال “نيوليبرالي”

زالزال “نيوليبرالي”، قد يبدو العنوان مفارقة. والجواب هو نعم، لكنها إحدى مفارقات النيوليبرالية/ الرأسمالية، التي تقدم أوجه النمو الاقتصادي التي تصب في صالح الأغنياء على أنها ستشمل “حتما” كل طبقات المجتمع الأخرى. وجه المأساة هو دولة تروج لمنجزات البنية التحتية الهائلة والعاجزة عن إنقاذ وإسعاف منكوبي الكوارث الطبيعية.

في مراكش، حيث كانت الدولة تعتزم استعراضَ منجزاتها الاقتصادية أمام أغنياء العالم ومؤسساتهم ومنظمات المجتمع المدني الموالية لهم، في هذه المدينة وأحوازها تكفل زلزال بكشف مسبَق لزيف تلك الادعاءات. وكانت الدولة تريد من ذلك الاجتماع السنوي لأكبر مؤسستين استعماريتين (البنك وصندوق النقد الدوليين) نيل شهادة تقدير تستعملها لمزيدِ ولوجٍ إلى أسواق التمويل الدولية والقروض، من أجل الاستمرار في نفس نموذج التنمية القائم على إغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، نموذج تنمية يفاقم آثار الكوارث الطبيعية.

يوم 8 سبتمبر 2023 ضرب زلزال بقوة 7 درجات على سلم ريختر المناطق المحيطة بمدينة مراكش ومدن أخرى قريبة، هو “الأعنف في المغرب منذ أكثر من قرن” حسب المعهد الوطني للجيوفيزياء. خلَّف الزلزال حصيلة بشرية كبيرة (2862 قتيل) وأكثر من 2562 مصاب حسب الأرقام الرسمية حتى مساء يوم 11 سبتمبر. حصيلة لم تتوضح بعدُ أبعادُها الكارثية، التي يُفاقمها إهمالٌ إجرامي من طرف الدولة. إهمالٌ ينضاف إلى عقود من سياسات اقتصادية تجعل ملايين الكادحين- ات عزَّلا أمام كوارث طبيعية (جفاف وفيضانات وحرائق وزلازل) أكثر تدميرا، بفعل انعدام بنية وقائية استباقية وتدهور مريع للخدمات العمومية وهشاشة البنية التحتية (الطرقية بالأساس) في المناطق التي تصيبها هذه الكوارث. هذه الخيارات الاقتصادية تجعل الكوارث الطبيعية ذات أبعاد طبقية ومجالية، حيث أكثر المتضررين هم فقراء- ات القرى وهوامش المدن الكبرى.

كانت بؤرة زلزال 8 سبتمبر 2023 قريبة من سطح الأرض (8 كلمتر حسب رئيس مصلحة الرصد الزلزالي في المغرب هاني لحسن). وكانت “نتيجة صدع مائل ضحل في سلسلة جبال الأطلس على بعد 75 كليموترا من جنوبي غربي مراكش. تشير آلية بؤرة الزلزال إلى حدوث صدع مائل شديد الإنحدار بإتجاه الشمال الغربي أو صدع مائل عكسي بإتجاه الشرق. حيث تحتوي سلسلة جبال الأطلس على مجموعة متنوعة من الصدوع الجانبية و العكسية، و التي تكون عادة بإتجاه الشرق- غرب والشمال الشرقي- الجنوب الغربي. وقع هذا الزلزال داخل الصفيحة الإفريقية، على بعد حوالي 550 كيلومترًا جنوب حدود الصفيحة بين صفيحتي إفريقيا وأوراسيا. في موقع هذا الزلزال، تتحرك الصفيحة الأفريقية حوالي 3.6 ملم/سنة غربًا جنوب غرب نسبةً لصفيحة أوراسيا”[1].

هل هناك احتمال لقصور في تتبع النشاط الزلزالي؟

يوجد بالمغرب “المعهد الوطني للجيوفيزياء”، ومن مهامه “مراقبة الزلازل والإنذار 24 ساعة على 24 وطيلة أيام الأسبوع”، كما عُيِّن هذاالمعهد “كوكيل منفذ للمغرب على الاتفاقية الموقعة في ديسمبر 2008 بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية والتي تهدف إلى تركيب وتشغيل منظومة زلزالية وطنية”[2]. يشير موقع “المركز الوطني للبحث العلمي والتقني” إلى وجود “النظام الوطني للرصد والإنذار ضد الزلازل”، الذي يتوفر على “مركز الحصول على البيانات ومعالجتها وتخزينها وشبكة من المحطات الزلزالية ومجموعة زلزالية عالية الوضوح وشبكة من أجهزة قياس التسارع وشبكة من أجهزة قياس المد والجزر”، وللمزيد حول هذا الموضوع يمكن الاطلاع على نشاط المركز الوطني للبحث العلمي والتقني المعنون بـ”ملخص الإنجازات” لسنة 2021[3]. طبعا “لا يمكن توقع حدوث الزلازل بشكل دقيق” حسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. لكن حسب نفس الهيئة “يمكن للعلماء فقط، حساب احتمال وقوع زلزال كبير في منطقة معينة خلال عدد معين من السنوات”[4]. فهل جرى حساب احتمال وقوع زلازل بالمغرب؟

أم هل هناك ميل إلى الطمأنينة؟ قد يكون الأمر كذلك. فقد صرح رئيس مصلحة الرصد الزلزالي في المغرب هاني لحسن لموقع الجزيرة قائلا: “إن إقليم الحوز (جنوب غربي مدينة مراكش) منطقة معروفة بنشاطها الزلزالي الضعيف، سواء من حيث العدد أو من حيث القوة، وغالبا لم تتجاوز الزلازل المسجلة في المنطقة 5 درجات على سلم ريختر، وبالتالي فهي ليست مرشحة من الناحية التاريخية لتعرف زلزال بهذا الحجم والقوة”[5].

في نفس اليوم الذي ضرب فيه الزلزال المغرب (8 سبتمبر) كان هناك ما يقارب الـ 27 زلزالا في مناطق أخرى من العالم[6]، لكن لم يكن هناك أي تحذير بإمكان وقوع زلزال بالمغرب. وقبل ما يقارب السنة سُجلت هزة أرضية بعرض ساحل أكادير بتاريخ 12 ديسمبر 2022، بقوة 3.3 درجة على سلم ريختر على عمق 2 كيلومترات، تلتها هزة ثانية بعد أسبوع بتاريخ 18 ديسمبر بقوة 3.3 درجات. هل جرى أخذ كل هذه الوقائع والمعطيات بالحسبان؟

لا يتعلق الأمر بجهل بالمعطيات العامة حول الكوارث الطبيعية، فتقارير المؤسسات المالية الدولية ذاتها تعج بها:

* “يُعد المغرب من أكثر البلدان تعرضا للأخطار الجيولوجية والمناخية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”؛

* “يتحمل المغرب بالفعل العبء الأكبر من تغير المناخ، الذي سيزيد من تفاقم تأثير الكوارث المرتبطة به”؛

* “بحلول عام 2030، من المتوقع أن يكون %42 من الساحل المغربي معرضا بشكل كبير لخطر الفيضانات والتعرية”؛

* “صُنِّفت المدن الساحلية المغربية، مثل الرباط وطنجة، على أنها “حساسة للغاية للفيضانات… وبما أنه من المتوقع أن يبلغ مستوى التحضر في المغرب %77 بحلول عام 2050، فمن المحتمل أن يتركز سكان الحضر في المستقبل في مناطق شديدة التأثر بالفيضانات”[7].

ماذا تُعد الدولة لمواجهة مخاطر الكوارث هذه التي تمتلئ بها صفحات تقارير المؤسسات الدولية والمعاهد المختصة؟ لا شيء، باستثناء وقوع الفأس في الرأس، وتدبير الكوارث بنفس المنطق النيوليبرالي. تفضل الدولة توجيه المالية العمومية للاستثمارات ذات المردودية العالية لرأس المال، بينما تُهمِل الاستثمارات ذات الطابع الاجتماعي والبيئي، رغم كل الدعاية الهائلة لمجهودات رصد والحد من الكوارث الطبيعية، وهي مجهودات ممولة بقروض من البنك الدولي.

سياسات نيوليبرالية فقامت مخاطر كوارث الطبيعة

فاقم “غياب” الدولة آثار وعواقب كارثة الزلزال، وغيره مما سبق من كوارث (حرائق العرائش سنة 2022). يتحدث “النموذج التنموي الجديد” عن “عودة الدولة القوية”، إلا أن هذا صحيح فقط عندما يتعلق الأمر بإنقاذ القطاع الخاص وحفزه ودعمه، كما وقع إبان وبعد جائحة كوفيد- 19، إذ أعلنت الدولة عن خطة لإنعاش الاقتصاد (المقصود المقاولات) بغلاف مالي قدره 120 مليار درهم، بينما المبلغ المرصود لـ”الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا “كوفيد- 19″، هو 42 مليار درهم، صُرف منها 15.26 مليار درهم لدعم 5.5 ملايين أسرة، و6 مليار درهم تعويض الأجراء- ات والمستخدمين- ات الذين توقفت المقاولات حيث يشتغلون. تكشف تركيبة هذه الأرقام عن كنه “الدولة القوية” التي تحدث عنها النموذج التنموي الجديد: عكاز دائم يسند الرأسمال الخاص، ودعمُ مستهدِف ومحدود ومؤقت للكادحين- ات لتفادي الكارثة الاجتماعية من أجل ضمان السلم الاجتماعية والاستقرار السياسي.

أما السكان في البوادي والأحياء الهامشية فلا يوجدون ضمن معادلة عودة الدولة القوية، إلا حينما يتعلق الأمل بقمعهم حين يهبون إلى النضال، أو برامج إحسانية لتضميد جراح التفقير تسمى “حماية اجتماعية”. أصاب الزلزال بعمق المناطق الأكثر فقرا (البوادي وهوامش المدن والمراكز الحضرية الصغيرة (حوز مراكش شيشاوة وتارودانت ووارزازات وأزيلال). دمر الزلزال شروط الحياة البائسة التي يصارع فقراء القرى للبقاء على قيدها. شروط حياة جعلتها الخيارات الاقتصادية للدولة (النيوليبرالية) أكثر بؤسا. صرحت منظمة الصحة العالمية بأن الزلزال المدمر “أثر على أكثر من 300 ألف شخص بمدينة مراكش المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي”[8].

بعد أعوام من ادعاء تنمية العالم القروي، تتذرع الدولة بانعدام المسالك للوصول إلى ضحايا الزلزال! لكن هذا مجرد مبرر لتغطية واقع أصبح مرئيا: 1) الدولة تتدخل بسرعة في أوعر المناطق عندما يتعلق الأمر بقمع نضال اجتماعي؛ 2) الدولة تتدخل بسرعة لإنقاذ القطاع الخاص عبر حقنه بمليارات الدراهم من المالية العمومية… إنها الدولة القوية التي وعد النموذج التنموي الجديد بعودتها: دولة قامعة للفقراء وداعمة للأغنياء.

ضرب الزلزال بقوة في العالم القروي، الذي طالما تغنت الدولة بتنميته وأحدثت صندوقا خاصا لذلك الغرض. وبعد عشرين سنة عن ذلك، تتذرع الدولة بغياب البنية التحتية والطرق للوصول إلى المناطق المنكوبة.

حسب آخر تقرير للمندوبية السامية للتخطيط: “تكون ظاهرة الفقر المتعدد الأبعاد ظاهرة قروية بامتياز حيث يعيش 85,4% من مجموع الفقراء بالوسط القروي سنة 2014 مقابل 80% سنة 2004″، مضيفا أن “مراكش  آسفي هي الجهة التي تضم أكبر عدد من الفقراء بالمغرب”[9]، ولا يعني هذا أن الفقر الحضري أقل كارثية.

تعيد الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية للدولة إعادة إنتاج التقسيم الاستعماري القديم بين “مغرب نافع” وآخر “غير نافع”، مع الإشارة إلى أن الأول يضم تناقضاته الخاصة بين مراكز المدن الكبرى حيث الاستثمارات موجَّهة لتجهيز بنية تحتية جبارة موجهة لاستقطاب الاستثمارات الخاصة، وهوامش حيث ملايين العمال- ات والمهمشين- ات. إن مؤشر “النافع” هنا يتعلق بمدى منفعة منطقة ما لمراكمة الأرباح. فالبنية الطرقية الحديثة والجبارة (مطارات دولية وطرق سيارة وقطارات وقطار سريع- البراق)، كلها مموَّلة بمالية عمومية من أجل حفز الاستثمار الخاص.

هذا التوجه نحو حفز الاستثمار الخاص عبر تجهيزه بالبنية التحتية الممولة من الميزانية العمومية توجهٌ قديم، أقر به تقرير الخمسينية الصادر سنة 2006، إذ أشار إلى أن مالية صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي مالية متأتية من خوصصة المقاولات العمومية، وُظِّفت في مشاريع مهيكلة، من قبيل تشييد البنيات التحتية، كالطرق والطرق السيارة والسكك الحديدية، أو بنيات استقبال الاستثمارات الخاصة… فهو يُسهم في تمويل برامج إنجاز البنيات التحتية لاستقبال الاستثمارات، ويقدم دعما ماديا مباشرا للمستثمرين”[10]. وهو نفس الدور الذي خصصه “النموذج التنموي الجديد” (أبريل 2021) للقطاع العام: “يجب على القطاع العام الاستمرار في لعب دور أساسي في تقوية تنافسية الاقتصاد الوطني وتحفيز المبادرة الخاصة”.

الزلازل والفيضانات والحرائق والجفاف كوارث طبيعية، لكن سياسة الدولة وخياراتها الاقتصادية تجعل تلك الكوارث أكثر تدميرا وذات أبعاد طبقية (حيث يتضرر الفقراء) ومجالية (حيث تتضرر المناطق الهامشية)، خصوصا تجاه الأكثر هشاشة وفقرا: سكان البوادي والأحياء الهامشية. وليس هذا إلا الوجه الآخر للكارثة الاجتماعية الناتجة عن السياسات النيولبرالية:

* يسجل المغرب سنويا ما يزيد عن 31 ألف حالة إصابة بداء السل، فيما يصل عدد الوفيات إلى 3000، بنسبة 87 حالة لكل 100 ألف نسمة، حسب الجمعية الوطنية للتوعية ومحاربة داء السل[11].

* ارتفع عدد الأطفال المنقطعين عن الدراسة أو المتسرّبين من 331 ألفاً و558 منقطعاً في الموسم الدراسي 2019-2020 إلى 334 ألفاً و664 في الموسم الدراسي 2021-2022[12].

* عدد المغاربة الذين يعانون من نقص التغذية بالمغرب ارتفع بنسبة 31.25 في المائة، من 1,6 ملايين إلى 2.1 مليون شخص ما بين سنتي 2018 و2021[13].

وليس هذا خاصا ببلداننا المتخلفة، فسياسات التقشف المطبقة في كل بقاع العالم تجعل الأمر سيان سواء في المغرب أو في الولايات المتحدة. يتحدث نعوم تشومسكي عن الإعصار الذي ضرب نيو أورلينز، مشيرا إلى مسؤولية الاقتطاعات من الميزانية المخصصة لـ”الوكالة الفيدرالية لإدارة الحالات الطارئة” خلال السنوات الثلاث السابقة للإعصار، في مفاقمة آثاره متخذا أبعادا طبقية وعرقية، حيث أغلب المتضررين- ات سودٌ وطبقة عاملة وفقراء- ات. يستنتج تشومسكي قائلا إن الأجندات النيوليبرالية لحكومة بوش قد خلقت “‘دولة عاجزة’ عن خدمة المواطنين بعامة؛ وتلك لعمري سمة صارخة أخرى من سمات الدولة الفاشلة”[14].

تمتلئ تقارير البنك وصندوق النقد الدولي، وينقل المغرب عنها حرفيا، عبارة “مراجعة دور الدولة”. والمقصود هنا تقليص الأدوار الاجتماعية التي كانت تقوم بها الدولة (بسبب ميزان قوى اجتماعي وسياسي في سياق ما بعد نزع الاستعمار)، وتعظيم أدوارها التدخلية لصالح الرأسمال الخاص فضلا عن تشديد وجهها القمعي. أدت التقشفات الرهيبة في ميزانيات الاستثمار في البنيات التحتية (الاستشفائية والتعليمية والبنيات التحتية) وفي الميزانيات الموجهة نحو استباق الكوارث الطبيعية والوقاية منها، إلى تضاعف آثار تلك الكوارث.

نالت سياسة التقشف أيضا من “المركز المغربي للبحث العلمي والتقني” الذي يضم “المعهد الوطني للجيوفيزياء”، وشمله البند الذي يعفي الدولة من تمويل منظومة التعليم والبحث العلمي: “تنويع مصادر التمويل”. أشار تقرير خبرة صادر عن “برنامج TAIEX” (أداة المساعدة التقنية وتبادل المعلومات) التابع للمفوضية الأوروبية إلى ذلك بالحرف: “في إطار رسالته المتمثلة في تعزيز وتطوير البحث العلمي، يعمل المركز الوطني للبحث العلمي على تنويع مصادر تمويل البحث العلمي من خلال جعل خبرته في إدارة برامج البحث متاحة لأي مؤسسة ترغب في تعزيز البحث في مجال ما من خلال تمويل برنامج بحثي في هذا المجال”[15].

تجار أزمات؟

امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارت استنكار استغلال تجار الأزمات لفرصة الزلزال من أجل مراكمة الأرباح في إشارة إلى الأسواق الكبرى ومحطات الوقود التي لم تعمَد إلى تخفيض أسعار مواد التموين والوقود وإلى شركة السكك الحديد التي لم تعفِ قوافل التضامن من رسوم العبور. كل هذا في تذكير بالأرباح الطائلة التي راكمتها شركة الأوكسجين المملوكة لأخنوش التي اغتنت من احتكار تزويد المؤسسات الاستشفائية بالأوكسجين في عز جائحة كوفيد- 19. لكن كل هذا يغفل كبار تجار أزمات آخرين: البنك الدولي والدولة وشركات التأمين.

ماذا أعدت إذن الدولة للكوارث التي يفاقمها تدمير الرأسمالية للطبيعة. لم تُعِد الدولة سوى نفس المنظور الرأسمالي الحالي لمواجهة أزمة المناخ: اعتبارها فرصة لمراكمة الأرباح عبر آليات “التأمين والتعويض” الموصى بها من البنك الدولي. وهو توجه يركز على “أنشطة التعافي اللاحقة”، على حد تعبير البنك الدولي. وتشكل أنشطة التعافي سوقا مُغرية بعد الصدمات (“طبيعية” كانت أو اقتصادية مثل الأزمات، أو سياسية مثل الحروب والحروب الأهلية). وهذا هو مغزى تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، في مقابلة مع الجزيرة: “إن جهود جميع الجهات الرسمية في المغرب تنصب حاليا على الانتهاء من المرحلة الأولى المتعلقة بجهود الإغاثة تمهيدا للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار”[16]. والترجمة الحرفية لهذا التصريح هو: فلتتكلف مبادرات التضامن الشعبي والتبرعات لصندوق تدبير آثار الزلزال بـ”جهود الإغاثة” غير المُجزية والتي يجب أن تنتهي بسرعة، كي يتأتى لشركات العقار الأبناك تسريع “الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار”، وهذا محض صيغة أخرى لشعار “تشريك الخسائر وخصخصة الأرباح”.

ومحل الاستباق والوقاية القَبليين حل توجه جديد: “التأمين”. يخفي البنك الدولي هذ التوجه تحت عناوين مُبهِرة مثل “دعم مسيرة المغرب نحو بناء القدرة على الصمود لمجابهة الكوارث”. وبدل تعزيز منظومة الوقاية والتوقع، يتحدث البنك الدولي عن مشاريع ممولة بقروض غايتها: “تقليص مخاطر الكوارث وتعزيز القدرة المالية على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية للسكان المستهدَفين… ومساندة نظام مبتكر للتأمين ضد مخاطر الكوارث يُغطِّي القطاعين العمومي والخاص”[17]. منح البنك الدولي للمغرب قرضا بمقدار 200 مليون دولار بتاريخ 20 أبريل 2016، لتمويل برنامج “الإدارة المتكاملة لمخاطر الكوارث والصمود في المغرب”، الذي يهدف إلى “تحسين المرونة المالية للأسر والشركات المغربية ضد الكوارث الطبيعية والبشرية”[18].

تبنت الدولة هذا المنظور القائم على “التأمين”، وهو ما أثنى عليه البنك الدولي بقول: “اعتماد نظام مبتكر للتأمين ضد المخاطر في 2018 (القانون رقم 110-14) الذي أصبح نافذاً في يناير 2020. واستحدث القانون آلية تأمين خاصة تغطي نحو 9 ملايين شخص وأنشأ صندوقاً عاماً (صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية) منفصلاً عن صندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية ومُوجَّهاً لمساندة الأسر الأشد فقراً والأكثر احتياجاً (التي يقدر عددها بنحو 6 ملايين شخص). وتُقدِّم الآليتان الخاصة والعامة للتأمين مجتمعتين نحو 100 مليون دولار تعويضاتٍ للمتضررين كل عام”[19]. طبعا ستكون “شركات التأمين” هي المستفيدة الأولى من هذه الآلية، وهو ما أقره البنك الدولي عند حديثه عن اعتماد المغرب لقانون رقم 110-14 حول “إدخال نظام تأمين ضد مخاطر الكوارث سنة 2016”: “يضمن التغطية للأسر والشركات من خلال أقساط إضافية تتلقاها وتديرها شركات التأمين الخاصة”[20].

تموَّل هذه البرامج عبر قروض ثنائية ومتعددة الأطراف: “قدَّم البنك الدولي للإنشاء والتعمير 300 مليون دولار من خلال مشروع التدبير المندمج لمخاطر الكوارث الطبيعية والصمود باستخدام أداة تمويل البرامج وفقاً للنتائج. وتلقَّى البرنامج أيضاً مساندة من خلال عدة برامج للمساعدات الفنية تم تمويلها من خلال الصندوق العالمي للحد من الكوارث والتعافي من آثارها، وأمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية بمبلغ يقارب 1.5 مليون دولار شاملةً دعماً لصندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية، والإستراتيجية الوطنية لإدارة مخاطر الكوارث، وبناء قدرة المناطق الحضرية على الصمود، وتمويل أنشطة مواجهة مخاطر الكوارث في المناطق والتأمين ضدها”[21].

أصدرت الدولة مرسوما بتاريخ 12 سبتمبر 2019 يقضي بإلزامية إدراج الضمان ضد عواقب الوقائع الكارثية في عقود التأمين، وآخر ينص على إحداث رسم التضامن ضد الوقائع الكارثية[22]. وبنفس منظور “الحماية الاجتماعية المعممة”، وقبلها “التغطية الصحية”، خصصت الدولة للفقراء الذين لا يشكلون سوقا مغرية “صندوق تضامن ضد الوقائع الكارثية” يُموَّل في جزء منه عبر مخصص مالي من ميزانية الدولة، والجزء الآخر عبر عائدات رسوم شبه ضريبية تسمى “ضريبة التضامن ضد الوقائع الكارثية، المحدَث بموجب مرسوم صادر بتاريخ 30 سبتمبر 2019، القاضي باقتطاع نسبة %1 من الأقساط أو اٌساط الإضافية أو الاشتراكات المؤداة بموجب عقود التأمين ذات الصلة بعملية التأمين غير التأمين على الحياة[23]. والغاية تجميع عديمي- ات القدرة الشرائية في صندوق من أجل إنشاء قدرة شرائية جماعية موجهة نحو صناديق شركات التأمين.

ولم يغب مفهوم “ألتوازنات المالية” العزيز على قلوب المؤسسات المالية الدولية عن “التأمين ضد الكوارث”. إذ نص القانون 110.14 المتعلق بإحداث نظام لتغطية عواقب الوقائع الكارثية على مهام الصندوق اعتماد استراتيجية مناسبة وناجعة تروم إيجاد حلول مبتكرة ضامنة للتوازن بين التغطية الشمولية للمتضررين وبين الامكانيات المالية المتاحة للصندوق. هكذا ستتقلص المبالغ المفرَج عنها للتأمين عن مخاطر الكوارث، و”الحلول المبتكرة” هي سبل الاحتيال المعهودة لدى تلك شركات التأمين من أجل “لتخفيف عبء تغطية أضرار الحوادث عن كاهلها”: اللجوء إلى خبراء منتدبين من قبل الشركات، اشتراط آجال الإخطار، التأخر في التعويض أو اختلالات في ثمن التعويض مقارنة مع حجم الضرر… إلخ[24]. وما يفاقم الأمر هو أن قطاع التأمينات خضع للتحرير الكامل منذ 6 يوليوز 2006، ومنذ ذلك التاريخ لم تعد أقساط التأمين مُدرجة ضمن قائمة السلع والمنتوجات والخدمات المقننة أسعارها[25].

دولة بطيئة وإجراءات بيروقراطية ثقيلة

تمتلئ تقارير المؤسسات المالية الدولية بانتقادات توجَّه إلى الدولة الممركَزة والقطاع العمومي المتضخم المتسم ببطئ الإجراءات وفرط البقرطة[26]. والمحصلة هي دولة سريعة التدخل عندما يتعلق الأمر بحقن المقاولات والأبناك من المالية العمومية وبطء متعمَّد- وحتى جمود- عندما يتعلق الأمر بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لملايين الكادحين، أو بإجراءات تدخل حين وقوع كوارث طبيعية.

لا يريد الرأسمال دولةً تتدخل لفرض الضرائب عليه، ودولة تمول الخدمات العمومية والاجتماعية؛ إنه يريدون “دولة قليلة التكاليف” في وجه مطالب الكادحين- ات، لكنه ينوِّه بالدولة التي تمول مشاريع حفز المقاولات وضمان أرباحها. لقد كانت “دولة قليلة التكاليف” شعار الحركة العمالية في وقت من الأوقات، وقد سطت النيولبيرالية على هذا الشعار مالئة إياه بمضمون في صالح الشركات ورأس المال. لذلك نرى المؤسسات المالية الدولية تنتقد تضخم القطاع العمومي وفرط بيروقراطيته وتوصي بتفكيكه وتحويله لصالح القطاع الخاص “الأكثر كفاءة والأقل بيروقراطية”!

كلما وقعت كارثة طبيعية تتعالى صرخات العديد من الناس متسائلة: “أين الدولة؟”. والجواب قائم في الطابع المفرط البيروقراطية لأنظمة التأمين[27] التي فوضت لها الدولة أمر التدخل للتأمين على الكوارث والتعويض عنها، وتعقد الإجراءات تلك يخدم احتفاظ تلك الشركات بأكبر قدر ممكن من مبالغ التأمين والإفراج عن أقل قدر من التعويض. عندما يتعلق الأمر بالشركات فلا ضير من أن تكون مفرطة البيروقراطية!

يتحدث القانون المحدث لنظام تغطية عواقب الوقائع الكارثية عن “آليات الحكامة”، و”من ضمنها لجنة “تتبع الوقائع الكارثية”، تتولى مهمة تتبع تنفيذ النظام ويُعهد إليها جمع كل المعلومات لدى الإدارات ومصالح الدولة أو الجماعات الترابية أو أي هيأة أخرى. وتتكلف هذه اللجنة بإبداء الرأي للحكومة بشأن الطابع الكارثي للواقعة المعروضة على أنظارها، ومساعدة صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية في تقييم الأضرار اللاحقة بضحايا الواقعة”[28]. ومعنى ذلك في آخر التحليل: دوامة من الإجراءات البيروقراطية وصِفر تدخل. لقد قتل الإهمال ما لم يقتل الزلزال.

وفي الوقت الذي ظل فيه السكان تحت الأنقاض أو يتضورون جوعا، وانبعثت بشكل تلقائي وسريع مبادرات تضامن شعبي، ضيَّع الناطق الرسمي باسم الحكومة[29]، الكثير من الوقت يستعرض فيه “الإجراءات الإدارية/ البيروقراطية” التي انتهت بإصدار مرسوم بتأسيس صندوق تدبير آثار الزلزال، وفوِّضت له صلاحية استقبال أموال المتبرعين!

دولة تسطو على مبادرة تضامن شعبية

في وجه تعاظم جهود التضامن المنبثقة عفويا من أسفل، ومن أجل ضبطها من طرف الدولة، جرى إحداث صندوق خاص سُمِّيَ “الصندوق رقم 126 الخاص بتدبير الآثار المترتبة على الزلزال الذي عرفته المملكة المغربية”. هكذا تسطو الدولة التي روَّجت طيلة عقود لأطروحة “انسحاب الدولة لصالح هيئات آخرى (جهات، مجتمع مدني، قطاع خاص)”، على المجهودات التضامنية الجماعية “الخاصة” بالسكان، وتسعى لتجييرها لصالحها، كما فعلت تماما في عز جائحة كوفيد- 19.

وسيُموَّل الصندوق من التبرعات ليتكفل بتمويل إعادة تأهيل وبناء المنازل المدمرة، والأشخاص في وضعية صعبة، فضلا عن النفقات المتعلقة بتشجيع الفاعلين الاقتصاديين بهدف الاستئناف الفوري للأنشطة على مستوى المناطق المعنية[30]. هكذا سيمول المواطنون- ات عملية إعادة إعمار وتأهيل، لكن ستستأثر الدولة بشرف تلك العملية، إذ هي الساهرة على ذلك عبر صندوق أُحدِث بمرسوم. وستقطف الشركات أرباح إعادة الإعمار.

طبعا، في دولة الاستبداد الفردي، تؤدي مثل هذه الصناديق دورا سياسيا: التحكم في المبادرات الشعبية القادمة من أسفل. فحين يجتمع الناس ويتعاونون من أجل جمع المعونات وإرسالها، فذلك بالنسبة للدولة “تجمهر غير مرخص” لا تؤمن عواقبه. ومن الأفضل اعتماد الآليات البيروقراطية (مراسيم وتأسيس صناديق ولجن بي- وزارية) والآليات النقدية التي تجري بطرق فردية عبر الدفع المباشر من وراء مكاتب البنوك أو الدفع غير المباشر عبر الانترنت. هكذا تتفادى الدولة كل نقاش جماعي، وتقضي على تجمعات المتضامنين- ات، وتحولهم- ات إلى ذرات فردية تغذي بها آليتها الدعائية.

يفضل الرأسماليون صناديق التبرعات تلك، إذ يتقاسمون عبء تكاليف أزمات هم سببها مع المتضررين- ات منها. يرفض الرأسماليون صناديق تموَّل بواسطة ضرائب على الأرباح والمِلكية، ويريدون صناديق يحددون هم- لا الدولة ولا القانون- نسبة التبرع فيها. وبعد انجلاء الكارثة تكون الأرباح المحقَّقة أضعافا مضاعفة مقارنة بمبالغ تبرعهم.

إجماع وطني نيوليبرالي

فضلا عن الفوائد الاقتصادية/ المادية التي تُجنى من مثل هذه الأزمات، لا تفوت الدولة أي فرصة للترويج لخرافة “الإجماع الوطني”. امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات التنويه بـ”الحس الوطني” الذي حفز المغاربة أجمعين للوقوف يدا واحدة من أجل إسعاف وإنقاذ منكوبي- ات المناطق التي ضربها الزلزال.

لكن هذه الموجة الوطنية العارمة تخفي وراءها إجماعا وطنيا حول ما تريد الدولة- ووراءها المؤسسات المالية الدولية- جعلَه “ثوابتَ وطنية”: على الدولة ألا تتحمل وحدها مسؤولية الكوارث الطبيعية ومخاطرها وآثارها. وليس هذا إلا تنفيذا للفصل 40 من الدستور القائل: “على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد”.وهو وجه آخر لنفس الدستور الذي يحمل الأسر والمجتمع المدني والقطاع الخاص مسؤولية توفير الخدمات العمومية من صحة وتعليم وإسكان… إلخ، بينما يقتصر دور الدولة على “تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين” من تلك الخدمات.

وكما وقع في عز جائحة كوفيد- 19، تنبري أصوات كثيرة لكبت أي صوت منتقد أو داعٍ لمحاسبة الدولة بمبرر أن الوقت وقتُ تضامن وإسعاف وإنقاذ، وليس وقتَ محاسبة وانتقاد. وكأن المغرب جنة حرية التعبير عن الرأي في الأوقات التي لا تشهد كوارث طبيعية. وتستفيد الدولة من ذلك أيما استفادة. ففي لحظات الأزمات والكوارث تُتاح للجماهير فرصة التجمع وإمكانَ اكتشاف حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه. وإذ تكتشف الجماهير حقيقة الوضع وحجم التأخر التاريخي، تسعى إلى تعويض تاريخي عبر قفزات، قد تكون ثورة أو انتفاضة. وكل رفض لانتقاد ومحاسبة الدولة والرأسمالية في هذه اللحظة هو تفويت فرصة لا تأتي إلا نادرا، في الوقت الذي تستغله الدولة لتثبيت وتكريس خياراتها الاقتصادية النيوليبرالية.

ستنتهي موجة “الزهو الوطني” سريعا كما انتهت سابقاتها. وسيكشتف الناس الواقع المر: واقع دولة لا تتدخل بسرعة إلا لقمعهم أو لإنقاذ الشركات الرأسمالية. وكما حدث في الحسيمة سنة 2004 بعد الزلزال المدمر، سيهب الكادحون- ات إلى النضال من أجل إعادة بناء منازلهم- هن المهدمة وإعادة ربط القرى بخدمات الطرق والكهرباء والماء. وآنذاك سيتكشف مرة أخرى الوجه الحقيقي للدولة القامعة. علينا الحفاظ على حذرنا وحسنا النقدي تجاه دولة الاستبداد النيوليبرالي، ونتفادى الانجرار السهل نحو مشاعر وطنية زائفة، ونستعد للقادم من موجات النضال الاجتماعي. فبعد حين سيضطر المتضررون- ات من الزلزال إلى الاحتجاج. علينا أن نستغل فرصة التلاقي وتضافر الجهود القائمة حاليا في إطار حملات التضامن من أجل بناء شبكات لدعم تلك النضالات ولنقاش أصل المشكل والبلاء: سياسات الدولة النيبوليبرالية التي تفاقم آثار كوارث الطبيعة.

علينا ألا نقتصر على جعل مهمتنا حاليا في جمع الدعم المادي (غذاء ولباس ومأكل…)، بل أن نجعل من مجهودات التضامن هذه فرصة لبناء شبكات من أسفل، شبكات علاقات نجعلها فضاءً لنقاش أوضاع العالم القروي وأحياء الهوامش بالمدن الكبرى، هذه المناطق التي دائما ما يُعتبَر سكانها المتضررين- ات الرئيسيين من كوارث طبيعية، فضلا عن كوارث اقتصادية واجتماعية (الفقر، البطالة، غياب البنية التحتية، الأمية).

تضامن شعبي يحتاج إلى تنظيم ومركزة

في وجه جمود أجهزة الدولة، انطلقت بسرعة البرق حملات تضامن شعبي منبثقة من أسفل المجتمع، مستعملة وسائل التواصل الاجتماعي. مئات القوافل من عشرات المدن تمكنت من الوصول إلى أوعر المناطق المصابة بالزلزال، في الوقت الذي تذرعت الدولة بوعورة المسالك لتبرير تخلفها عن إغاثة المنكوبين- ات.

إنها مجهودات تضامن محمودة ومطلوبة. حملات تضامن تؤكد أن حس الانتماء الجماعي لا يزال قائما، ولم تنل منه عقودُ الدعاية النيوليبرالية التي تركز على “الفرد” بدل “الجماعة” وعلى “الخلاص الفردي” بدل “الخلاص الجماعي”، وعلى المبادرة الفردية والتنافس بدل التعاون والتضامن.

ولكن بسبب غياب بنيات تنظيم شعبي وبفعل قصور التنظيمات العمالية (النقابات) عن تنظيم تضامن طبقي ومركزته، تنتهي حملات التضامن الشعبية إلى أن تندرج ضمن نفس السياق الاقتصادي القائم وتبتلعها المؤسسات البيروقراطية لدولة الاستبداد النيوليبرالي. بسبب غياب تنظيم ممركِز ينظم جمعَ المعطيات وعمليات شراء المعونات وتوزيعها، يحدث تضخم في شراء سلع دون أخرى، أو إفراط في تزويد مناطق دون أخرى. وقسم من المعونات قد يُهدَر ويُتلف، خاصة المواد الغذائية. ويؤدي انعدام تنظيم ومركزة التضامن ذاك إلى احتمال ظهور محتالين صغار، يستحصلون أموالا بدعوى اقتناء مواد الإسعاف والتموين. وتستغل الدولة كل نقاط القصور تلك للبرهنة على القصور الفطري للشعب عن تسيير وتدبير أموره، ولتبرير سطوها على عملية التضامن تلك وبقرطتها وتسليعها.

كما يؤدي هذا إلى سرعة عطب التضامن الشعبي. ستتوقف مجهودات التضامن بعد حين، إذ أنها تفتقد إلى مقومات الصمود. فأغلب المتضامنين- ات سيجدون أنفسهم- هن مرغَمين- ات على الالتحاق بمقرات عملهم- هن، وسيجد الفقراء- ات المنكوبون- ات أنفسهم- هن وحيدين- ات ومعزولين- ات.

كما علينا أن نعي جيدا بأن مجهودات التضامن المطلوبة هذه، تعالج الأعراض فقط، إذ تركز على تقديم مساعدة ظرفية للضحايا، لكنها لا تعالج أصل المشكل: السياسة النيوليبرالية التي تفاقم آثارالكوارث الطبيعية.

استغلت الدولة غياب تنظيم ومركزة حملات التضامن تلك وتمكنت بسهولة من توجيهها نحو قنوات مؤسساتها البيروقراطية، ووجهت صبيب التضامن نحو “صندوق تدبير آثار الزلزال”، قاطفة الثمار السياسية لموجة تضامن شعبي جاءت لتحل محل غياب الدولة.

من أجل مجتمع بديل آخر ممكن

دخلت الرأسمالية عصر أزمات متطرفة تتضافر كل أبعادها لتشكل أزمة حضارة برجوازية. أصبحت الأزمات هي القاعدة: أزمات مناخ وأوبئة وكوارث بيئية، فضلا عن أزمات اقتصادية وحروب وحروب مضادة، وتصاعد لليمين المتطرف ولحركات الرجعية الدينية. ويتضافر كل هذا لإلقاء الحمل الثقيل لأزمة الحضارة البرجوازية بكل أبعادها على كاهل شعوب الجنوب العالمي وشغيلة المراكز الإمبريالية.

إن التسليع الشامل للطبيعة ولكل أوجه النشاط البشري هو الذي يقف وراء الأزمات الاقتصادية والسياسية، ويخلق ظروف نشواء أزمات بيئية ووبائية ويفاقم مخاطر الكوارث الطبيعية. وستظل كل إجراءات إضفاء الطابع الأخضر على الرأسمالية ومحاولة أنسنتها إلى إطالة أمد نظام يدمر البيئة والإنسان.

لا بد من نضال يدافع عن المشاع المشترك ويحارب منظور تسليع الطبيعة والعمل البشري، ويعيد الاعتبار لمنطق التعاون الجماعي والخدمة العمومية تحت الرقابة المباشرة للمنتجين- ات المباشرين- ات (أجراء- ات وصغار منتجين- ات) والمستهلِكين.

تستعمل المؤسسات المالية الدولة المديونية رافعة لفرض برامجها النيوليبرالية على دول الجنوب العالمي وشماله على حد سواء، وتفرض برامجَ خوصصة المقاولات والمؤسسات العمومية وتسليع الخدمات العمومية والاجتماعية. وترفض تلك البرامج كل نفقة لا تدخل في منطق مراكمة الأرباح، وضمنها النفقات الموجهة لتوقع واستباق والحماية من الكوارث الطبيعية والوبائية، كونها غير مدرة للأرباح. وتفضل تلك المؤسسات ومعها الدول والشركات.

لا بد من النضال من أجل الامتناع عن ووقف سداد الديون غير الشرعية، ومن أجل التمتع الجماعي بالمشاع المشترك (موارد الأرض والخدمات العمومية والاجتماعية) بعيدا عن آليات السوق والتسليع.

علي أموزاي


[1]https://shorturl.at/lmxEH.

[2]https://shorturl.at/tEFV3.

[3]https://www.cnrst.ma/ar/publications/rapports-d-activites.

[4]– 08- 02- 2023، https://shorturl.at/jrHN0.

[5] – 09- 09- 2023، https://shorturl.at/klwO2.

[6] – 11- 09- 2023، https://shorturl.at/mpL06.

[7]– البنك الدولي للإنشاء والتعمير، “وثيقة برنامج من أجل مشروع قرض إضافي بمبلغ 100 مليون دولار للملكة المغربية من أجل برنامج المغرب المتكامل لإدارة مخاطر الكوارث والصمود، البرنامج مقابل النتائج”، 20 ماي 2021.

[8] – 09- 09- 2023، https://shorturl.at/oruLO.

[9] – المندوبية السامية للتخطيط، “النتائج الرئيسية لخريطة الفقر متعدد الأبعاد لسنة  2014، المشهد الترابي والدينامية”.

[10] – “المغرب الممكن، إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك- تقرير الخمسينية”، 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025، اللجنة المديرية، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء- المغرب، 2006.

[11]– 28- 03- 2021، https://shorturl.at/brw79.

[12] – 05- 05- 2023، https://shorturl.at/eirDZ.

[13] – 31- 03- 2023، https://shorturl.at/hEKX2.

[14] – 2007، نعوم تشومسكي، “الدول الفاشلة، إساءة استعمال القوة والتعدي على الديمقراطية”، ترجمة سامي الكعكعي، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان، ص 303.

[15]– «Raport déExpertise», par Remi Barre et Jacques Gaillard, 1- 5 Décembre 2014, TAiEX Sharing Eu Expertise, European Commission.

[16]– 10- 09- 2023، https://shorturl.at/rxNPW.

[17] – “دعم مسيرة المغرب نحو بناء القدرة على الصمود لمجابهة الكوارث وتغير المناخ”، 2022/08/11، https://shorturl.at/uzR38.

[18] – البنك الدولي للإنشاء والتعمير، 20 ماي 2021، مرجع مذكور.

[19] – المرجع نفسه.

[20]– المرجع نفسه.

[21]– المرجع نفسه.

[22] – “الوقائع الكارثية … النصوص القانونية لمنظومة تغطية العواقب”، 18- 09- 2019، https://shorturl.at/auLS9.

[23]– 16- 01- 2020، مجلس المنافسة، https://shorturl.at/ctCHM.

[24] – 18- 03- 2023، https://shorturl.at/ijAY1.

[25] – 16- 01- 2020، مجلس المنافسة، https://shorturl.at/ctCHM.

[26] – “يرتكز جوهر الدولة الحديثة على الفصل التام بين المصالح العامة والخاصة. وعلى الرغم من التقدم الملموس والمحرز في تحسين بيئة الأعمال- الوذي تجلى تحديدا من خلال التقدم الهام للمغرب في مؤشر أداء قطاع الأعمال- فإن بيئة الأعمال هذه لا تزال تبدو لمعظم الفاعلين غير قابلة للتنبؤ، وبيروقراطة بشكل مفرط…”. [2017، جان بيير شوفور، “المغرب في أفق 20240، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي- موجز عام”، مجموعة البنك الدولي.

[27] – وجه ديفيد هارفي نقدا شديدا للتأمين لدى الشركات، واستعمل نفس مفاهيم البنك الدولي وهو ينتقد “لاكفاءة” القطاع العمومي: “يمكن على سبيل المثال تقبل الادعاء بأن شؤون رعايتي الصحية تبقى خياري ومسؤوليتي الشخصيتين، ولكن من غير المعقول أن تكون الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الحاجة الأساسية في السوق الاقتصادي [هي] دفع أقساط باهظة لشركات تأمين عملاقة، وعديمة الكفاءة، وعالية البيروقراطية، وخيالية الأرباح في الآن ذاته. وعندما تتمتع هذه الشركات بسلطة تحديد فئات أمراض جديد لتطابق أدوية حديدة نزلت حديثا إلى السوق، فالأمور بكل وضوح تسير على نحو خاطئ.”. [2008، “الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)”، ديفيد هارفي، ترجمة مجاب الإمام، مكتبة العيبكان- السعودية بالتعاقد مع جامعة أوكسفورد نيويورك، الطبعة الأولى، ص 133]

[28]– 18- 03- 2023، https://shorturl.at/ijAY1..

[29]– 10- 09- 2023، https://shorturl.at/vFPUV.

[30]– 10- 09- 2023، https://shorturl.at/hpCY5.

زر الذهاب إلى الأعلى