العولمة الرأسمالية

مراكش، قاعة حفلات أغنياء العالم، تستقبل أبرز صانعي الفقر والظلم في العالم

مراكش، قاعة حفلات أغنياء العالم، تستقبل أبرز صانعي الفقر والظلم في العالم

المستقبل جواد / ماي 2023

“لا يمكننا أن نترك أعداء الأمس واليوم يحتكرون الفكر والخيال والإبداع!”
  توماس سانكارا

“أتمنى أن يختفي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي قريبا”ً
هوغو شافيز

كانت زيارتي الأخيرة ربيع هذا العام 2023 لمدينة مراكش مليئة بأحاسيس الحزن والتذمر لما آلت إليه المدينة من تحولات عنيفة بسبب “التسيح” الهمجي الذي ما فتئ يشوهها. شد انتباهي العدد الهائل من الفنادق و”الرياضات” ودُور الضيافة والمطاعم  ومراكز التجميل والتدليك التي انتشرت بشكل كبير في المدينة القديمة.

خلال دراستي الثانوية قضيت عامين ونصف في مراكش، وكانت المدينة ساحرة وشعبية وآمنة، وكنت أعشق التجول في الليل لأرى العائلات في شارع فرنسا، شارع محمد السادس حاليا، يخرجون لتناول العشاء في الحديقة ويغنون مع أولادهم وبناتهم حتى وقت متأخر من الليل،  في جو جميل واستثنائي بالنسبة لي كمراهق آت من مدينة الدار البيضاء :الغول كازانيكرا”

المدينة التي عشقتها في مراهقتي لم تعد كما كانت، تشوهت ملامحها بكثير  من المساحيق ومواد التجميل التي لا تستطيع إخفاء بؤسها و تيهها الثقافي والهوياتي، حيث أصبح كل ما فيها يتكيف مع متطلبات الاستشراقية  للسياح خاصة الغربيين.

 أحاول من خلال هذا المقال فهم التحولات العميقة التي عرفتها مدينة مراكش في السنوات الماضية في ظل سياسات الانفتاح وغزو المدينة من قبل الأجانب، وطغيان السياحة الاستخراجية، وكيف حول الحاكمون هذه المدينة الجميلة بثقافتها وتاريخها إلى قاعة حفلات، يجري تزيينها لاستقبال قمم  و لقاءات دولية حيث ينحصر دور السكان الأصليين في تأثيث المكان والترفيه عن الحاضرين و تسليتهم. 

في الجزء الثاني اتطرق الى القرار المستفز الذي اتخذه الحاكمون  باستقبال اجتماعات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي خريف هذا العام2023، وهما المؤسستان اللتان تتحملان مسؤولية تاريخية في تدهور ظروف عيش الملايين من شعوب الجنوب عبر العالم.

في الجزء الأخير سأحاول استحضار بعض من المقاومات التي تبتدعها المقهورات والمقهورين في هذه المدينة من أجل الدفاع عن مصالحهم وهويتهم أمام الغزو وسياسات التفقير والتهميش التي يتعرضون لها منذ سنوات خلت،  والتي للأسف، لم تقطع مع موروثات المستعمر الفرنسي.

مراكش التناقضات في ظل زواج المصالح بين النيوليبرالية والسلطوية 

يبقى زائر مدينة مراكش مندهشا لحجم التناقضات الاجتماعية والمجالية  الصارخة التي تَسِمُ المدينة  :

مراكش الفنادق ذات الخمسة  والسبعة نجوم، بمسابحها الكبرى و ملاهيها وملاعب الغولف  الشاسعة، دون الحديث عن قصور وفيلات  و “رياضات” تابعة لشخصيات عالمية (ايفسان لوران، هيرمس YSL & Hermes ) يستهويها المناخ الجاف والصحي للمدينة، و لكن كذلك توفر يد عاملة رخيصة ومستباحة.

هذا مقابل مراكش الفقر والتهميش والبؤس المتفشي  بمحيط المدينة واحيائها الشعبية وانتشار المتسولين والمقصيين  بدون مأوى الذين يفترشون الأرض في بعض من ازقتها.

 تركز المدينة الحمراء هذه التناقضات بشكل عنيف كميدان متنازع عليه، كما أوضح ذلك، على نحو منهجي و دقيق  الأستاذ  “خالد مدحي” من خلال  أطروحته لنيل  الدكتوراه بجامعة شيكاكو  بعنوان : الهيكلة الحضرية، القوة والرأسمالية في سياق المدينة السياحية: مراكش كميدان متنازع عليه (من قبل روتلدج) شهر مايو 2019.

حيث يعطي خالد  تحليلا حول تسليع الحياة الاجتماعية في مراكش، و يفند بذلك الدعاية الرسمية القائلة بأن المدينة نموذج ناجح في التنمية المستدامة.

أدى التوسع السياحي الليبرالي إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير، مما صَعَّبَ على السكان الفقراء الأصليين الحفاظ على منازلهم. كما اصبح مستحيلا على أبنائهم اقتناء او اكتراء مسكن داخل المدينة. إضافة إلى ذلك ، أدت السياحة إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الأساس، ما جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لسكان المدينة الأكثر فقراً.

و تؤكد الاحصائيات، حتى الرسمية منها، هذه الوضعية. فمن بين جميع المدن الكبرى في البلاد، تبقى مراكش المدينة التي يتوفر سكانها على أقل مستوى من المعيشة: 9000 درهم مقابل 14500 في الدار البيضاء ، 11500 في الرباط سلا ، 10000 في مكناس، 9500 في فاس. كما تعتبر المناطق القروية المحيطة بمراكش من أفقر المناطق في المغرب[i]. لذلك فإن مراكش مدينة فقيرة في منطقة فقيرة. يجب التذكير بأن المغاربة يتمتعون بدخل للفرد أقل بكثير من جيرانهم في شمال إفريقيا: 35٪ أقل من الجزائريين  و45٪ أقل من التونسيين في 2005.

فالتوجه الليبرالي العام الذي فرضه الحاكمون من خلال خصخصة قطاعات أساس كالتعليم والصحة، زاد من معاناة السكان الأكثر هشاشة وانسدادا للأفق أمام شبابها. كما أن فرص الشغل التي تخلقها السياحة، على قلتها، تبقى موسمية وبأجور هزيلة في معظمها.

إن تنفيذ هذه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي لم تكن أبدًا موضوع تصويت أو موافقة شعبية في المغرب، لم يكن ممكنًا بدون الاعتماد على نظام سياسي سلطوي وزبائني. إن الاستبداد واحتكار قرار الشؤون العامة من قبل الأقلية، خلق نوعًا من الملاذ الضريبي والاجتماعي والبيئي للمستثمرين حيث الإفلات من العقاب هو القاعدة في جميع الانتهاكات الماسَّةِ بالحقوق الاجتماعية البيئية والأخلاقية[ii]. و قد بلغ التصعيد القمعي ذروته في السنوات الأخيرة بتزايد الاعتقالات ضد العديد المناضلات والمناضلين  والصحفيين والمدونين، والتي وصلت 20 سنة في حالة الزفزافي  ورفاقه، وست ثم خمس سنوات لكل من الصحفيين عمر الراضي  وسليمان الريسوني على سبيل المثال. كما أن هذه الاعتقالات ليست إلا الجزء المكشوف من جبل الجليد القمعي الذي يطال كافة المواطنات والمواطنين، بصورة يومية، في اطار الثورة المضادة التي يشنها الحاكمون في منطقتنا ضد شعوبهم  منذ افول ما سمي بالربيع العربي.[iii]

في فهم واقع المدينة من خلال تاريخها الاستعماري القديم والجديد 

بالإضافة الى عمليات السلب المادية للخيرات الطبيعية من أراض ومعادن و مياه وغابات. وكذلك استغلال يد عاملة جد رخيصة جرى تجريدها بالقوة من أراضيها[1]،  قام المستعمر الفرنسي بالاستيلاء على الموروث الثقافي المغربي وتحويله الى سلعة بعد تشويهه و تكييفه مع ذوقه الاستشراقي. 

وقد عمل المستعمرون على تهيئ البنيات التحتية وفرض السياحة كأحد مجالات اختصاص الدول التابعة وشبه المستعمرة، بهدف ديمومة تبعيتها. واختٌزِل دور سكان بعض المدن السياحية، وعلى رأسها مراكش، في” توفير الجو والطقوس والاكل والترفيه للسائح الأوروبي من أجل الراحة والاستجمام. و قد عبر عن ذلك بشكل جيد الكاتب الجزائري من أصل مارتينيكي فرانز فانون في كتابه “المعذبون في الأرض” حيث قال :  ” تحصل البرجوازية الوطنية المنحطة، على مساعدة كبيرة من البرجوازية الغربية  التي تتشكل أساسا من سائحين مفتونين بالغرائبية Exotisme والصيد والكازينوهات”.  وتقوم باستثمارات تلبي احتياجات الأثرياء الأوروبيين تحت اسم السياحة. السياحة بدورها لا تساعد اقتصاد الأمة، بل تصبح جزءًا من هيكل اقتصادي يفيد في الغالب القوى الاستعمارية السابقة”. و يضيف فانون ، “تتولى البرجوازية الوطنية دور تصريف اعمال الغرب وتحول بلادها فعليًا إلى بيت دعارة لأوروبا“.[iv] 

و بالضبط كما تنبأ فانون، واصل الحاكمون في المغرب، والذين تربوا وترعرعوا في حضن المستعمر و تشبعوا بثقافته و تفاهته، مسلسل التبضيع الثقافي والسياسات السياحية الاستخراجية.

سيعرف هذا التوجه تسارعا كبيرا في وتيرته، مع تبني المغرب للنموذج الاقتصادي الليبرالي وتطبيق سياسات التقويم الهيكلي بخوصصة العديد من الفنادق. كما اعتمد الحاكمون في بداية الألفية مخطط أزور السياحي عبر خلق 7 مناطق سياحية كبرى باستثمارات هائلة. 

يقول الأستاذ خالد:  “سيتعمق التوجه التسييحي للمدينة في مرحلة العولمة النيوليبرالية حيث أصبح تصور مستقبل للمدينة خارج القالب السياحي أمراً مستحيلاً. ثم أصبح الحديث عن “المدينة الحمراء” كمدينة سياحية قلباً و قالباً (essentiellement touristique) في الخطابات الرسمية، فمن يطلع مثلاً على الوثائق المؤسسة للخطط الحضرية و العمرانية (SDAU) يجد هذا الخطاب الإيديولوجي يتخلل التصور الرسمي لمستقبل المدينة”.

و يضيف “ان النظام النيوليبرالي يكرّس ظروف التهميش و الهشاشة الاجتماعية التي تجعل من العمل في الحقل الجنسي آخر ملاذ للعديد من النساء والرجال المهمشين اقتصاديا واجتماعيا. يمكن الحديث حينئذ عن “تسليع” للجسد النسوي خاصة كأثر من آثار النيوليبيرالية”. كما ان “الدولة  تتحكم في عمليات التهجير من الأحياء الواعدة اقتصادياً (المدينة العتيقة مثلاً) فاتحةً المجال للمنظمات غير الحكومية لإحداث وتسليع “التراث المادي و اللامادي”، بينما في الوقت نفسه، يقود القطاع الخاص عمليات المد الحضري  والسيطرة على أراضي الجموع المحيطة بالمدينة لإيواء الفئات المهمشة. كل ذلك يتم تحت غطاء قانوني موروث عن الفترة الاستعمارية”[v]

مراكش قاعة حفلات لأغنياء العالم 

في سنة 2019 وافق عمال مجموعة  البنك العالمي وصندوق النقد الدولي على مقترح المغرب احتضان اجتماعاتها السنوية لسنة 2021 لكن ظروف الحظر التي صاحبت الازمة الصيحة لوباء كورونا جعلت المنظمين يؤجلون هذا التنظيم مرتين، وسيجري عقده أكتوبر من هذه السنة 2023. 

 عادة تعقد الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بشكل أساس في واشنطن، وكل ثلاث سنوات، في بلد عضو غير الولايات المتحدة، من أجل إبراز الطابع الدولي للمؤسستين، حسب تعبير الموقع الرسمي لمجموعة البنك العالمي.

تجمع هذه الاجتماعات قادة القطاعين العام والخاص، ومحافظي البنوك المركزية، والوزراء، والبرلمانيين، وممثلي منظمات المجتمع المدني والخبراء،  لمناقشة القضايا الأكثر إلحاحًا التي تواجه الاقتصاد العالمي ، بما في ذلك الاستقرار المالي العالمي، والقضاء على الفقر، والنمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل وتغير المناخ.

   و اذا كانت هذه المرة الأولى التي تنظم فيها اجتماعات البنك العالمي و صندوق النقد الدولي في المغرب، فهي ليست المرة الأولى التي تنظم فيها اجتماعات ولقاءات عالمية بالمغرب، و بالضبط في مدينة مراكش، التي عرفت العديد من اللقاءات العالمية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :          

·         1994 تأسيس منظمة التجارة العالمية 

·         1997 أول منتدى عالمي للمياه

·         2001 : : قمة المناخ كوب 7

·         2014 القمة العالمية الخامسة لريادة الأعمال، والذي عرف مشاركة الرئيس الحالي بايدن 

.     2014: الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان

·         2016قمة المناخ كوب 22

·         2018 : المؤتمر الدولي الثالث عشر للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان

·         2018 : القمة الحادية عشرة للمنتدى العالمي للهجرة والتنمية

·          2022 : قمة الأعمال الأمريكية الأفريقية 

و تستعد مدينة مراكش هذا العام لاحتضان الاجتماعات السنوية للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي شهر أكتوبر القادم . و تعتبر هذه المرة الثانية التي ينظم فيها اجتماع هاتين المؤسستين في القارة الإفريقية  منذ خمسين عاما. سيجري تنظيم هذه الاجتماعات  بباب إغلي ، الممتد على مساحة شاسعة  تزيد عن 300 هكتار، خارج أسوار المدينة باتجاه وادي أوريكا، و هو نفس المكان الذي نظمت فيه معظم الملتقيات العالمية السابقة.

سيقوم الحاكمون كعادتهم بتزيين المدينة وتعبئة مواردها وحشد طاقاتها وحجب مفقريها وتناقضاتها قدر الإمكان، من أجل استقبال اسيادهم من النخبة العالمية التي تقود الإنسانية بخطى ثابتة نحو الكارثة .

في الوقت الذي تتباهى فيه الطبقات الحاكمة باحتضانها لاجتماعات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، يندرج هذا الاستقبال في مسلسل الاذلال الذي يتسم به الحاكمون ببلادنا بدءا من الحماية الاستعمارية في يداية القرن 19 وصولا الى التطبيع مع العدو الصهيوني الذي يغتصب أراضي الشعب الفلسطيني. إنه ظلم في حقنا واستفزازا  لمشاعرنا و تحقيرا لنا  امام باقي دول الجنوب العالمي.

فهاتان المؤسستان لم تكونا في أي يوم من الأيام في خدمة دول الجنوب أو شعوبها، وعملتا منذ تأسيسهما على استدامة هيمنة الطبقات المسيطرة في كل من أوربا والولايات المتحدة الامريكية.

كما تتحمل هاتان المؤسستان مسؤولية كبيرة في ًتدهور المعيش اليومي للملايين من سكان العالم، خاصة في ما يسمى بالجنوب العالمي، ومن ضمنهم السكان المفقرين من أبناء شعبنا وبناته.

و قد اعتبرت وزيرة الاقتصاد و المالية في فيديو مخصص للدعاية لهذا الحدث على الموقع الرسمي أن “اختيار المغرب علامة قوية على الاعتراف بالتجربة المغربية في تنظيم التظاهرات الدولية”[vi].

بالنسبة لي اعتبر ترديد المسؤولين المغاربة لمثل هذه العبارات وحصرهم لدور المغرب في هكذا اجتماعات في حُسْنِ استقبال المشاركين واطعامهم وتسليتهم، امرا مقيتا ومقززا،  يكرس المنظور الاستعماري والتحقيري لشعوبنا، القادرة طبعا أن تساهم بمنظورها كذلك في القضايا الكبرى التي تهدد الإنسانية اليوم.

مؤسسات بروتن  وودز : مؤسسات لا ديمقراطية وعنصرية في خدمة الشركات المتعددة الاستيطان و القوى الاستعمارية الجديدة

عند تأسيس هاتين المؤسستين المعروفتين بمؤسسات بروتن وودز، نسبة للمنتجع السياحي الأمريكي  الذي أقيمت فيه اجتماعاتهما التأسيسية في مقاطعة نيوهابشر سنة 1944، عمل المنظمون المنتشون بانتصارهم في الحرب العالمية الثانية على استبعاد جزء كبير من شعوب العالم، خاصة سكان الجنوب العالمي. ها هو جون مينارد كينز  Keynes أحد أهم مهندسي هذا التأسيس يقول في رسالته  الى الخزينة الإنجليزية، بصيغة لا تخلو من التحقير “هؤلاء (الدول المستعمرة وشبه المستعمرة)، و بشكل واضح، ليس لديهم ما يقدموه في اجتماعاتنا و سيقومون فقط بملء المكان”[vii]

 هذا الاستبعاد والتحقير، هو الذي دفع بالعديد من الدول المستقلة حديثا وتقودها حكومات شعبية وتقدمية نسبيا الى  التكتل من أجل الدفاع عن بديل تنموي واقتصادي وعلاقات عالمية بديلة، وهو ما سيجسده المشروع العالم ثالثي وحركة عدم الانحياز، وكذلك مجموعة 77 ثم مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة unictad.

اراهن على ان من يحكموننا يجهلون هذا التاريخ، ويصعب على عقولهم المستعمَرَة التفكير من خارج إطار الحداثة الغربية، الذي رسمه لهم أسيادهم في أوروبا والميريكان. لا بل يحاولون اقبار أي إرث للمقاومة ضد الاستعمار المباشر والجديد حتى  لا تسترشد به الأجيال الشابة، ويزيفون التاريخ ليصنعوا لأنفسهم مجدا كاذبا.

فـصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أدوات تستخدمها حكومات ومقاولات الشمال لقهر الجنوب (Peet 2009). إنها مؤسسات لا ديمقراطية. فحقوق التصويت في المجالس التنفيذية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يجري ترجيحها وفقًا لأسهم رأس المال، حيت تتمتع الدول الغنية التي تدفع الكثير بحقوق تصويت أكبر. في البنك الدولي للإنشاء والتعمير، يتمتع المديرون التنفيذيون من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا معًا، بأكثر من ضعف عدد الأصوات (11.96٪) مقارنة بممثلي ما يقرب من 50 دولة أفريقية مجتمعة، والتي ارتبطت بشروط السياسة الاقتصادية النيوليبرالية (فتح الأسواق ، والخصخصة ، وإلغاء الضوابط، والتوجه نحو التصدير، وسياسة التقشف).

الدين كأداة رئيسة للسيطرة وإدامة التبعية

لطالما استخدمت مؤسسات بريتون وودز الديون كأداة رئيسة لفرض تدخلها ونموذجها السيء الذكر على بلدان الجنوب العالمي.

 لم يكن فخ المديونية الأداة المباشرة لاستعمار المغرب في بداية القرن العشرين[viii] فحسب، بل سمح للرأسمال المالي  المضارباتي، كبنك الاعمال، بنك باريس وهولندا (باريبا)، باحتلال مكانة أساس في الاقتصاد الاستعماري، من خلال خلق بنك المغرب والهيمنة علىه. بل وامتدت هذه الهيمنة حتى ما بعد الاستقلال الشكلي : فلا يمكن فصل سيطرة الهولدينغ الملكي أونا [سابقا] (ONA Omnium Nord-Africanain  [مجموعة المدى حاليا] عن النظام الذي أنشأه بنك باريس وهولندا (باريبا) منذ سنة 1906[ix].

في أوائل الستينيات من القرن الماضي، استهدف البنك الدولي بلدان الجنوب العالمي المتحررة حديثًا من الاستعمار المباشر، بحجة  مساعدتها على التطور.  لسوء الحظ أن الفكرة المتمثلة في أخذ المستعمر الغربي كمرجع في نموذج التنمية وفكرة الحاجة إلى اللحاق بالركب، كانت سائدة جدا واستبطنها جزء كبير من النخبة الجديدة في بلدان الجنوب، بما في ذلك الأكثر تقدمية، دون الحديث عن الخونة (والبرجوازية الوطنية الجديدة)  الذين سعوا إلى تعويض.. ثم محاكاة.. ثم التواطؤ  مع المستعمر، للحصول على جزء من كعكة عمليات النهب والتراكم، عبر السلب ونزع ملكية السكان الأصليين.  .يقول فرانز فانون: ” نجد لدى النخبة الوطنية نفس النزعات وطرق التفكير التي تلقوها بمعاشرتهم لبرجوازية الاستعمار. هؤلاء الذين كانوا بالأمس صبية مدللين [ذيليين] للاستعمار، ينظمون اليوم عمليات نهب للثروات الوطنية. وبدون رحمة يستغلون عمليات مشبوهة، وعمليات سرقة مشرعنة. ينصبون  أنفسهم على رأس بؤس أصبح اليوم وطنيا. إنهم يطالبون بإصرار بتأميم الصفقات التجارية، بمعنى تخصيص جزء من الأسواق والصفقات الجيدة للمحليين …إنهم يطالبون بتأميم سرقة الأمة” وهو ما يمكن ترجمته في السياق المحلي “بمغربة سرقة المغرب”.

هذه السياسات الاقتصادية الاستخراجية الموجهة أساسًا لتصدير المواد الخام إلى دول المركز، لم تكن فقط سببا في تدمير العديد من النظم البيئية، بل قادت هذه البلدان نحو أزمة عميقة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، تسمى أيضًا أزمة الديون، التي مهدت الطريق لتدخل شبه إجرامي لصندوق النقد الدولي في بلداننا المختلفة، و فرض برامج التقويم الهيكلي[x]،  مقابل الحصول على قروضنادرا ما خدمت الشعوب التي لا تزال تتحمل تكاليفها.

في الحالة المغربية،  باتت الدولة عاجزة عن سداد ديونها، وطلبت اعادة جدولتها، وحدث ذلك بفعل انخفاض هائل في موارد الدولة الناتج عن انهيار أسعار الفوسفاط في نهاية سبعينيات القرن الفائت، وكلفة حرب الصحراء، وجفاف مديد وعام، وارتفاع تكاليف الطاقة، والحد من الهجرة المغربية إلى أوروبا. عندها اشترط صندوق النقد والبنك الدوليان وضع برنامج تقويم هيكلي في العام 1983.[xi] المغرب اليوم مدين بما يصل إلى 94٪ [xii] من ناتجه المحلي الإجمالي، بينما تمتص خدمة الدين أكثر من ثلثي موازنة الدولة، وتمثل أكثر من 9 أضعاف ميزانية الصحة. كما يشترط صندوق النقد الدولي مع منح خط جديد للحماية والائتمان تطبيق مزيد من سياسات التقشف وضرب مكاسب استقرار الشغل في الوظيفة العمومية عبر تعميم التوظيف بالعقدة.

و تجدر الإشارة الى ان أزيد من ثلثي ديون المغرب هي داخلية لذلك و “كما هو الحال في الغالبية العظمى من البلدان ، تتضامن الطبقات الحاكمة المحلية مع الدائنين الدوليين لأنهم هم أنفسهم يحصلون على جزء من دخلهم من سداد الديون. كان هذا صحيحًا في القرن التاسع عشر وما زال في القرن الحادي والعشرين”[xiii]

مراكش، الشعوب والمقاومات 

مدينة مراكش كانت كذلك ومازالت مدينة مقاومات وتضحيات من هم في الأسفل، ضد جبروث و “حكرة” الحاكمين. فمن انتفاضة المشور [xiv]سنة 1953 ضد المستعمر، الى انتفاضة 20 فبراير 2011 من اجل الحرية والكرامة والعدالة، الاجتماعية، مرورا بانتفاضة الخبز سنة 1984 ضد الإجراءات التقشفية التي صاحبت تطبيق برنامج التقويم الهيكلي المفروض من قبل صندوق النقد الدولي بتواطئ الحاكمين. بالإضافة الى العمليات الفدائية لشبكة حمان الفطواكي التي نجحت في زرع الرعب في صفوف أنصار الكلاوي وممثلي فرنسا الاستعمارية.

لم تنجح اذن السلطوية وجبروت الحاكمين منذ الفترة الاستعمارية وسيطرة الباشا الكلاوي [xv]الى الان، في تني فقراء  وفقيرات هذه المدينة عن الاحتجاج والمقاومة، رغم ظروف العيش القاسية والقمع.  ويمكن اعتبار روح النكتة والسخرية التي تميز سكان هذه المدينة شكلا من اشكال المقاومة لكل اشكال “الحكرة” التي يتعرضون اليها[xvi].  

على الرغم من الوضع الصعب للغاية والظلم الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والثقافي الذي يعاني منه غالبية المراكشيين اليوم باستسلام النخبة، لدينا كل أمل في شباب هذه المدينة لقيادة عملية التغيير الجذري الذي بدأ في عام2011 ومواصلتها، تغيير جذري أصبح اليوم مسألة حياة أو موت، لإيقاف التقارب الكارثي بين الاستبداد والاستعمار الجديد.

نتمنى أن تكون القمة المضادة التي ستنظمها الحركات الاجتماعية عبر العالم بمراكش من 12 الى 15 أكتوبر القادم فرصة يلتقي فيها شباب مراكش ونساؤها بمناضلين ومناضلات من مختلف البلدان لتقاسم تجارب المقاومة والتضامن التي تخوضها الشعوب لوضع حد للدمار المعمم وإنقاذ الإنسانية والبيئة من الهلاك الذي يقودنا اليه الرأسماليون.


[1] : الخطاب المناهض للرعوية »

ورثت الطبقات الحاكمة في المغرب خطابًا بيئيًا من الاستعمار الفرنسي ، والذي يعد  كجزء من رسالته “الحضارية » . قدم سبل العيش التقليدية للرعاة على أنها غير فعالة ومضرة بالأرض.  و تحت ذريعة الحفاظ على التربة والموارد الطبيعية الأخرى ، جرى استبدال رعي الماشية في الأراضي المَشاعِ والأراضي المملوكة جماعيًا، بالزراعة الحديثة والملكية الخاصة.  استخدم الفرنسيون هذا الخطاب الاستعماري  لأول مرة من قبل «  الفرنسيين في الجزائر كمبرر تكنوقراطي لنزع ملكية السكان المحليين لأراضيهم ومواردهم
م.جواد اكتوبر 2016 « On the perspective of ruling classes and the elite in Morocco on global environmental issues » 


[i]“سكان مراكش: الجغرافيا الديمغرافية للمدينة الحمراء” محمد السبتي

 SEBTI, Mohamed ; Gens de Marrakech: Géo-démographie de la ville Rouge

2009 (generated 03 avril 2023). Available on the Internet: https://doi.org/10.4000/books.ined.3173

[ii] من أجل المزيد حول العلاقة المركبة بين الاستبداد السياسي والليبرالية الاقتصادية، وكيف يستفيد كلاهما من الآخر ي ويغذيه، يمكن الرجوع لمقالي بعنوان: الشعب المغربي تحت نير الطواحين الثلاثة: الاستبداد السياسي، والليبرالية الاقتصادية/الاستعمار الجديد، والتغيرات المناخية.

[iii] سنوات بعد 20 فبراير : لم ننته بعد …! م.جواد / موقع مويبريس  https://mupresse.com/?p=6573

[iv] “المعذبون في الأرض” هو أشهر وآخر كتاب لفرانتز فانون، نُشر قبل أيام قليلة من وفاته عام 1961

[v] ”  الهيكلة الحضرية، القوة والرأسمالية في سياق المدينة السياحية: مراكش كميدان متنازع عليه” الأستاذ  “خالد مدحي

 أطروحة لنيل  الدكتوراه بجامعة شيكاكو  مايو 2019. 

[vi] https://moroccoam2023.ma/

 

[vii]الدول الفقيرة:تاريخ محتمل للجنوب العالمي The poorer nations a possible history of the global south   Vijay Prashad 2014

[viii] “الدين العام والإمبريالية في المغرب (1856 – 1956)” كتاب لآدم باربي مع مقدمة من اعداد توماس بيكيتي Thomas Piketty

[ix]الموقع الرسمي للبنك المغربي BMCI Bank التابع لـمجموعة BNP PARISBAS حول تاريخ البنك

https://creditconso.bmci.ma/fr/nous-decouvrir/histoire-banque-bmci

[x] انظر مقال نجيب اقصبي: برامج التقويم الهيكلي لصندوق النقد الدولي

« Programmes « d’ajustement structurel » du FMI » in : Africa Development / Afrique et Développement, vol. 10, no. 1/2 (1985), p. 101–21. 

[xi] قطاعُ الطاقةِ بالمغرب: التبعيّة الدائمة”  جواد المستقبل موقع السفير العربي مارس 2022

[xii]  المديونية العمومية بالمغرب ماذا عن مستواها اليوم؟   – المركز المغربي للظرفية مارس 2021

[xiii]نظام الديون تاريخ الديون السيادية والتبرؤ منها” إريك توسان/ ترجمة أطاك المغرب/ اصدار دجنبر 2019

[xiv] بمجرد الإعلان عن تنصيب بن عرفة ملكا جديدا للبلاد سنة 1953 من طرف المستعمر الفرنسي احتشد المراكشيون والمراكشيات بشكل عفوي في حي المشور من اجل الاحتجاج  والتعبير عن رفضهم لمخططات المستعمر. جوبهت انتفاضة المشور بقمع السلطات الاستعمارية واعتقال العديد من الفدائيين.

[xv] ينتمي  الحاج التهامي لغلاوي إلى عائلة غلاوي وهي “سلالة” من القياد الذين “حكموا” على جزءا  أكثر أو أقل من جنوب المغرب، ربما من بداية القرن الثامن عشر حتى عام 1956.. بنت عائلة غلاوي سمعتها بفضل سيطرة المافيا التي مارستها على الطريق الذي يربط تارودانت بمراكش. يأتي العديد من “القادة” المشهورين للأسف من هذه العائلة. تميز باشا مراكش، التهامي غلاوي ، تحت الاستعمار، بالدعم المطلق الذي قدمه للاحتلال الأجنبي لبلده.  لقد عارض المقاومة الوطنية وانطلق بصراحة مع المحتلين..

بنى الكلاوي  ثروته  من عمليات النهب خلال هجمات “التهدئة” الاستعمارية على القبائل المتمردة، والتي أصبحت كبيرة. بالإضافة الى اشتهاره ك “رجل أعمال الدعارة العظيم “Le Grand bordelierحسب تعبير الصحفي و المورخ شارل أندريه جوليان، حيت كان يحصل على 25٪ من مداخيل بيوت الدعارة في باب الخميس بمراكش، الذي كان يضم أكثر من ألف بائعة هوى.

[xvi] ”  الهيكلة الحضرية، القوة والرأسمالية في سياق المدينة السياحية: مراكش كميدان متنازع عليه” الأستاذ  “خالد مدحي

 أطروحة لنيل  الدكتوراه بجامعة شيكاكو  مايو 2019. 

زر الذهاب إلى الأعلى