المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الخامسة من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب: السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي للميثاق الوطني للتربية والتكوين

الحلقة الخامسة

  1. الميثاق الوطني للتربية والتكوين: الحاكمون يحزمون أمرهم: في اتجاه مدرسة في خدمة رأسمال منتصر، لكنه مأزوم.

•        السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي للميثاق

مثلت تسعينيات القرن العشرين، فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشرقية، ووصول النموذج العالم ثالثي إلى حدوده القصوى بعد مسلسل انهيارات مديدة لأقطابه الكبرى (الهند ومصر والجزائر والدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية…) وسيادة الحديث عن نهاية التاريخ وكون الرأسمالية النيولبرالية هي قدر الإنسانية، أي دخول البشرية عهدا جديدا يطلق عليه البعض عهد العولمة. عرفت تلك الفترة وطنيا جلبة أحدثتها أحزاب المعارضة المؤسسية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال) من أجل تعديل الدستور وإقرار ما تسميه بالديموقراطية، ومثلما مثلت مرحلة تهيء القصر لتنظيم عملية انتقال العرش من ملك مريض إلى ابنه. اقتصاديا عرفت تلك الآونة الانتهاء الرسمي من برنامج التقويم الهيكلي، دون الانتهاء من التبعية الدائمة لمراكز المال العالمية التي جرى تعميقها أكثر فأكثر. أهم تلك المراكز – البنك العالمي- رأى في تقرير شهير أواسط التسعينيات أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلد وصلت مستوى بالغ الخطورة، وصفه الملك بالسكتة القلبية.

كانت الأوضاع الاجتماعية، بعد برنامج التقويم الهيكلي، تشير إلى ازدياد معدل الفقر والبطالة. وتعليميا، أكد تقرير البنك الدولي ذلك في خلاصاته الأساس على التالي:

”   – ضرورة تعميم التمدرس خاصة في السلكين الابتدائي والإعدادي (فئة من 6 إلى 16 سنة).

  • تطوير “جودة” التعليم العمومي والخاص.
  • مواجهة تقهقر تدريس بعض المواد كالفرنسية والعلوم.
  • مقاربة النوع في المدرسة (القرب – العمارة – الولوج …)
  • ترشيد النفقات على مستويات التعليم المدرسي والعالي.
  • ضرورة فتح نقاش مجتمعي حول إصلاح التربية ليكون للمجتمع صوت مسموع.”[1]

لم يكن المطلوب من التعليم جديدا، بل سبق أن جرى إملاؤه وتطبيق جزء منه في سياق تنفيذ برنامج التقويم الهيكلي، لكن الأمر الذي أضحى ملحا الآن، ولا يقبل التأجيل هو بناء إجماع على نموذج المدرسة الليبرالية المراد تثبيث ركائزها. أصبح انتاج وثيقة مرجعية تتضمن تصورا عاما (نيوليبراليا) للمدرسة مسعى للحاكمين، لكي يُتَجَاوَزَ كل ذلك النقاش الذي ساد سابقا حول المدرسة، والذي لم يفض إلى توافق مع المعارضة المؤسسية.

كان الخطاب الجديد متأثرا بانعطافة للبنك العالمي في خطابه، حيث انطلق الحديث منذئذ في أدبيات المؤسسات المالية الدولية عن احترام حقوق الإنسان، وعن الحكامة الجيدة والإنصاف والتماسك الاجتماعي وبناء التوافق الاجتماعي والشراكة الاجتماعية.. كان ذلك الخطاب قناعا جديدا للمؤسسات المالية الدولية، بعد انكشاف هول النتائج الاجتماعية لسياسات التقويم الهيكلي، ذلك القناع الذي أخذ اسم “سياسة محاربة الفقر”. [2]

يمثل الجدول أدناه تلخيصا لمنظورات البنك الدولي لأهداف ووسائل الإصلاحات التعليمية التي “تقترحها” توجيهاته لمنطقة الشرق الاوسط وشمال إفريقيا، وهي التي جرت استعادتها بالكامل في مشاريع “الإصلاح” بهذه المنطقة، ومن بينها “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”.

جدول رقم 13

الأهداف المفتاحية والتوجيهات الاستراتيجية وتداخلها[3]

الأهداف المفتاحيةتوفير إطار سياسيالتركيز على النتائجإشراك القطاع الخاصتحسين المردودية الداخليةخلق مجتمع المتعلمينتمكين المواطنين من المعلومة
تعلم التعلم++  + 
تعزيز الرأسمال البشري والتماسك الاجتماعي++ +++
تعميم النجاح في التعليم الأساسي++ +  
تطوير المعلومة البيداغوجية+   ++
توفير تمويل مستدام+ ++  

تمثلت المحاولة الأولى لبناء التوافق المنشود (توفير إطار سياسي بلغة البنك الدولي) في تشكيل لجنة إصلاح التعليم، التي خلصت، من بين ما خلصت إليه، لعدم المساس بمجانية التعليم وبتعريبه. رفض الحسن الثاني أعمال تلك اللجنة معتبرا أنها “مازالت تفكر بعقلية الماضي فيما يخص المغربة والتعريب والتوحيد …إلخ، منتقدا ازدواجيتها إزاء موقفها من التعليم الخاص والازدواجية اللغوية”[4] . لم يكن المنتوج، رغم طابعه الإجماعي، متوافقا مع رغائب رأسمال منتصر عالميا، فالمطلوب كان بناء إجماع من نوع معين، إجماع ليبرالي. وضمن السياق جاءت رسالة الملك لرئيس البنك الدولي بتاريخ21 يونيو 1995[5] التي التزم فيها بتطبيق التوصيات الصادرة عن البنك بشأن الاقتصاد والإدارة والتعليم بالمغرب. أتى التعديل الدستوري لسنة 1996 الذي أبقى كل السلطة بيد الملك لكنه نال موافقة المعارضة البورجوازية، في تمهيد لتشكيل ما عرف بحكومة التناوب، لِيُمَثِّلَ الخطوة الحاسمة في اتجاه تشكيل الإجماع الليبرالي المرغوب فيه من قبل الحاكمين. في الطريق إلى ذلك، جرى توقيع اتفاق سلم اجتماعي بين النقابات والحكومة والباطرونا، معطيا بذلك سيرورة دمج متزايد للحركة النقابية في بنيات الدولة منذ اتفاق فاتح غشت 1996، ومنذ ذلك الحين تمت تقوية اتجاه التعاون الطبقي في الحركة النقابية المغربية في سياق تشكيل ذلك الإجماع النيوليبرالي. لقد أصبحت الفرصة سانحة للتخلص من إشكالية عدم وجود توافق حول التعليم بالمغرب، بين مختلف ممثلي البورجوازية، في هكذا سياق جرى تشكيل لجنة جديدة: اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، التي أسست واشتغلت بمنهجية مستلهمة مباشرة من المؤسسات المالية الدولية، وقدمت نتائجها للملك الجديد.

مثلما كان السياق العام لتبني الميثاق هو سياق هيمنة النيولبرالية، فقد كان ذلك يعني تعليميا هيمنة نوع من التفكير في المدرسة يجعلها مرتبطة مباشرة، وفي كثير من النواحي، حصرا بالمقاولة والسوق والإنتاج والتنافسية والنمو.. وقد شكلت اتفاقيات مراكش المُنـْشـِئَةُ لمنظمة التجارة العالمية سنة 1994، وخاصة الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات AGCS، مرجعا لجعل التعليم سلعة والمدرسة مقاولة.

وإذا كانت “الإصلاحات” التعليمية في البلدان الأكثر تصنيعا اتجهت نحو هدم أساسات “دولة الرفاه” المُرساة عقب الحرب العالمية الثانية فيما عرف بالسنوات الثلاثين المجيدة، فإن الإصلاح التعليمي بالمغرب (وعدد من الدول في طريق النمو التي فشلت في بناء نظام تربوي على قاعدة مكتسبات التصنيع والاستقلال السياسي وبناء الدولة الحديثة) كان غرضه التأسيس الفعلي لنظام تربوي لم يتأسس بعد بصورة جدية.

كانت الوظيفة الأساس “للميثاق الوطني للتربية والتكوين” تتمثل في التوفر على وثيقة مرجعية، تتضمن تصورا عاما “للمدرسة الوطنية المنشودة” ومدخلاتها (حتى لا نقول موادها الأولية: التلاميذ) ومخرجاتها (حتى لا نقول منتجاتها: الخريجون). وثيقة تجمع بين طياتها الشيء ونقيضه في انسجام عجيب. لم يكن الهدف، بالتأكيد، أجرأة “الشيء ونقيضه” (مثلا الاهتمام بأوضاع رجال ونساء التربية مع اللجوء لآلية التعاقد وربط الترقية بالمردودية، أو الحديث عن مدرسة عمومية التمويل مع دعم القطاع الخاص وتحديد آليات لمساهمة الأسر…)، بل جعل الشيء مادة لذر الرماد في عيون المفتونين بعهد جديد، مع تطبيق النقيض بتدرج وحذق.


[1]  عبد الرحيم الضاقية، مسارات إصلاح المدرسة – دراسة مفاهيمية نقدية، الطبعة الأولى. صفحة: 13

[2]  من المفيد الاطلاع على دراسات البنك العالمي لتلك الفترة، وخاصة التقرير التالي الصادر سنة 1994:

Priorités et stratégies pour l’éducation.

[3]  أنظر تقرير البنك الدولي الصادر في شتنبر 1998 :

Banque mondiale / Secteurs Sociaux Bureau régional Moyen-Orient et Afrique du Nord/ L’Éducation au Moyen-Orient et en Afrique du Nord : Une Stratégie pour mettre l’enseignement au service du développement/page 32

[4]  الحسن اللحية: تاريخ الإصلاحات التعليمية بالمغرب منذ 1956 إلى اليوم، منشور بانترنت.

[5]  http://discoursh2.abhatoo.net.ma/doc/2141.pdf

زر الذهاب إلى الأعلى