المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة السادسة من “سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب”: الميثاق والإجهاز على الأدوار المفترضة للمدرسة الديموقراطية

الحلقة السادسة

  • الميثاق والإجهاز على الأدوار المفترضة للمدرسة الديموقراطية

يحدد الميثاق مرتكزات المدرسة المغربية الأساس في الالتحام ب ” ثوابت ومقدسات يجليها الإيمان بالله وحب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية”[1] و” تفتح على معطيات الحضارة الإنسانية العصرية وما فيها من آليات وأنظمة تكرس حقوق الإنسان وتدعم كرامته”[2] كما ” يروم نظام التربية والتكوين الرقي بالبلاد إلى مستوى امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والإسهام في تطويرها، بما يعزز قدرة المغرب التنافسية، ونموه الاقتصادي والاجتماعي والإنساني في عهد يطبعه الانفتاح على العالم”[3]، وبغض النظر عن التناقضات التي تطبع جمع ثقافة حقوق الإنسان (المراد الانفتاح عليها) والتشبث بما أسماه الميثاق ثوابت ومقدسات، فإن الثابت (والمقدس) الأكبر الذي يرتكز عليه الميثاق هو سيادة نموذج اقتصادي بعينه، هو قدر التلميذ/الحاضر والمستقبل المغربي، نموذج يقوم على : التنافس والنمو والانفتاح.

يفصل الميثاق كغاية أساس جعل التلاميذ “متفتحين مؤهلين وقادرين على التعلم مدى الحياة”[4]، تلك القدرة على التعلم مدى الحياة (وهي معطى انساني لا يحتاج للتأكيد عليه) تعني حسب سياق إنتاج الميثاق، خلق أفراد يقبلون بالمرونة المتزايدة لعالم الشغل، ويقدرون على التكيف معه، قابلين بشروط العمل الهش ومتنافسين على نيل رضى أرباب العمل. ولتحقيق ذلك ينبغي للنظام التعليمي أن يتكفل ب:

“أ – منح الأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية، وفرصة مواصلة التعلم، كلما استوفوا الشروط والكفايات المطلوبة، وفـرصة إظهار النبوغ كلما أهلتهم قدراتهم واجتهاداتهم.

ب- تزويد المجتمع بالكفاءات من المؤهلين والعاملين الصالحين للإسهام في البناء المتواصل لوطنهم على جميع المستويات. كما ينتظر المجتمع من النظام التربوي أن يزوده بصفوة من العلماء وأطر التدبير، ذات المقدرة على ريادة نهضة البلاد عبر مدارج التقدم العلمي والتقني والاقتصادي والثقافي.”[5]. تؤسس هذه الغاية للمعنى الأساس للمدرسة الجديدة، وهو التأهيل للاندماج في الحياة العملية بالنسبة لغالبية مرتاديها، واصطفاء نخبة مؤهلة للعمل في مستويات أعلى ك”علماء” وأطر تدبير المقاولة الرأسمالية ومؤسسات الدولة المراد تدبيرها بنفس أسلوب المقاولة.

بينما اعتبرت الجامعة في الميثاق مكانا للتكوين المهني والتقني أساسا:

“أ – جامعة منفتحة ومرصدا للتقدم الكوني العلمي والتقني، وقبلة للباحثين الجادين من كل مكان، ومختبرا للاكتشاف والإبداع، وورشة لتعلم المهن، يمكن كل مواطن من ولوجها أو العودة إليها، كلما حاز على الشروط المطلوبة والكفاية اللازمة.

ب – قاطرة للتنمية، تسهم بالبحوث الأساس والتطبيقية في جميع المجالات، وتزود كل القطاعات بالأطر المؤهلة والقادرة، ليس فقط على الاندماج المهني فيها، ولكن أيضا على الرقي بمستويات انتاجيتها وجودتها بوتيرة تساير إيقاع التباري مع الأمم المتقدمة.”[6]

تكثف التوجهات الأساس للميثاق (مرتكزات وغايات) جوهر الإجماع النيولبرالي على المدرسة وأساس كل مواده اللاحقة كما ترتكز عليها كل السياسات والمشاريع والرؤى والإجراءات التي تلت الميثاق.

لم يضف الميثاق أي شيء على خلاصات النقاش الذي افتتح في أوروبا وأمريكا الشمالية منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين بين كبار الرأسماليين. فها هي “المائدة المستديرة للصناعيين الأوروبيين”، وهي لوبي باطرونا هام في أوروبا، تنشر في يناير 1989 تقريرا حول ” التعليم والكفايات في أوروبا” تركز فيه منذ البداية على “الأهمية الاستراتيجية للتعليم للتنافسية الاوروبية” منتقدة النظام التعليمي السائد آنئذ الذي ” يسمح بل يشجع الشباب على أخذ وقتهم في متابعة دراسات لا علاقة لها بسوق الشغل”[7].  ووفق ذات المنطق جرى تقديم تقرير بمقر منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE معنون ب ” تحليل سياسات التعليم”، وموضوعه الأساس ” التعلم مدى الحياة”.  ويحدد ما يلي:” لا يمكن للمدارس الاستجابة للانتظارات إلا إذا تبوأت موقعا مركزيا في المجتمع، بحيث تصبح مؤسسات منفتحة، في خدمة المصالح المتنوعة لزبناء عريضين”[8]. لقد أصبح مطلوبا من المدرسة في كل مكان “التركيز على التعلم مدى الحياة، وبالموازاة، على المدرسة والجامعة ان تصبحا قادرتين على التكيف بسرعة وتلقائية مع انتظارات المشغِّلين، ولأجل ذلك وجب رفع درجة “استقلالية ” المؤسسات وتشجيع التنافس بينها”[9].

لقد أخذ الميثاق جوهر هذه الخلاصات وحدد وظائف النظام التعليمي، في التربية على قيم هجينة، بين الوفاء للاستبداد ومرتكزاته والانفتاح على ثقافات العالم وقيم حقوق الإنسان، وفي تكوين اليد العاملة المطواعة والقابلة للتشغيل والتكيف، الحاملة لكفايات “مهنية” أساسا. لكن التعليم لا يكون فقط “مواطنين” على مقاس الاستبداد و”عمالا” على مقاس الباطرونا، بل كذلك يكون “مستهلكين” على مقاس سوق مفتوحة تشترط حدا أدنى من المعارف وقدرة على الاختيار بين المعروض من المنتجات.

لقد كانت إحدى أبرز التحولات التي أتى بها الميثاق هي تجاوز المقاربة الرسمية السابقة (تقليص عدد المستفيدين من نظام التعليم المرساة منذ مبدأ بنهيمة) إلى مقاربة جديدة تروم تعميم التعليم الإلزامي (الابتدائي والإعدادي) برفع المؤشرات الكمية للتمدرس وذلك بغية تحقيق غايتين:

ـ وصول أعداد كبيرة من الوالجين “لسوق الشغل” بحد أدنى من التأهيل.

ـ توسيع سوق الاستهلاك الذي ـ حسب البنك الدولي ـ ترتفع مؤشراته كلما ارتفع مستوى التعليم.

هذه المحطة يسميها الميثاق ربط التعليم بمحيطه الاقتصادي بمعنى آخر ربط المدرسة بالسوق. لكن ذلك لا يمكن أن يتم مع استمرار استنزاف ترواث البلد عبر آلية الديون الخارجية، وما يعنيه من الاستمرار في سياسة إخضاع تكاليف تمويل الخدمات العمومية لأولوية التسديد.

بمنطقه الذي يمكن تلخيصه ب “الكل لأجل المقاولة والكل بالمقاولة”، هيمنت على الميثاق تلك النظرة الأدواتية (Utilitariste) والعقلانياتية (Rationalisatrice) والتدبيرية (Managériale) للمدرسة وللنظام التعليمي، وعوض أن يجيب عن “أزمة” بناء المدرسة المغربية الذي عاشته منذ الاستقلال، أوكل للمدرسة مهمة الاستجابة لواقع اقتصادي مأزوم، لنموذج تنموي رأسمالي/لبرالي جوهره الأزمة الدائمة. أي أنه جرى  وضع المدرسة في خدمة نموذج اقتصادي سمته الأساس: الفوضى. وحدد لها وظيفة أساس، لم يفصح عنها الميثاق، بل ما جاء بعده: تكوين “رأسمال بشري” ليكون حطب الحرب الضارية بين الرأسماليين المتنافسين، ومستجيبا للحقيقة الليبرالية الجديدة المتمثلة في نقص التشغيل الدائم. أن تفتح المدرسة على محيط الضواري الرأسمالية بالمغرب، معناه الانفتاح على نظام اقتصادي متخلف، تابع للمراكز الرأسمالية، مكبل  بـسياسات التبادل الحر ونظام المديونية، أي أن تنفتح على الأزمة الدائمة والهشاشة الكلية.

كان الميثاق وهو يؤسس “للنظام التربوي المغربي” [عبر اقرار بعض الأركان اللازم توفرها في كل نظام تربوي وخاصة: التعميم وتأسيس واضح لفلسفة النظام (الربط بالمقاولة والتشغيل) وتحديد الغايات والوظائف] يؤسس في الآن ذاته لنهايته عبر فتح المجال بدلا عنه لسوق التعليم. لا يمكن تصور مدرسة وظيفتها الحصرية التأهيل “لسوق الشغل”  [مع باقي الوظائف الايديولوجية التي تتساوق في النهاية مع الفردانية (بمعناها السلبي) وثقافة السوق والاستهلاك ووظائف الاصطفاء الذي يحدد سوق الشغل معاييره، بينما يلعب تحطيم وحدة المدرسة، بفتح المجال كليا لرأس المال للاستثمار في التعليم، وظيفة تحديد معايير الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم..]  أن تبقى بمنأى عن منطق “سوق الشغل ذاته” القائم على سيادة المقاولة الرأسمالية وأولوية الربح وتحطيم المنافسين. أن يُفْتَحَ النظام التعليمي أمام اقتصاد رأسمالي معولم معناه إعلان وفاته كنظام وطني، فالتشغيل لم يعد “وطنيا” بل تفرضه الشركات الأجنبية القادمة باسم الخصخصة والاستثمار والتبادل الحر. هو ذا منطق الميثاق “الليبرالي ” للتربية والتكوين، وهو ذا معنى إجهازه على حلم المدرسة الديموقراطية. بالمقابل، وسيرا على منطقه الديموقراطي جدا، جرى حصر حقوق المجتمع المغربي بالتعليم في مرتكزات وغايات الميثاق: “للمجتمع المغربي الحق في الاستفادة من نظام للتربية والتكوين يحفظ ويرسخ مرتكزاته الثابتة، ويحقق غاياته الكبرى التي تتصدر الميثاق.”[10] بمعنى هاكم حدود مدرستكم وهاكم حدود حقوقكم.

ضمن هذه الحدود أتى السعي نحو تعميم التعليم (الابتدائي والإعدادي)، بالرفع من أعداد الوالجين إياه كما يعبر الجدول أسفله.

جدول رقم 14[11]

تطور أعداد التلاميذ بين 1993 و2003 (العمومي والخاص وجميع الاسلاك)

تشير المادة 28 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين الى ما يلي:

  •   ابتداء من الدخول المدرسي في شتنبر سنة 2002، ينبغي أن يجد كل طفل مغربي بالغ من العمر ست سنوات مقعدا في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية القريبة من مكان إقامة أسرته…”.
  • ب‌-  “تعميم التسجيل بالتعليم الاولي في أفق سنة 2004…”

لم تتحقق هذه الأهداف بعد مرور 17 سنة على الاعلان عنها وادعاء تحقيقها ابتداء من 2002 بالنسبة للتعليم الابتدائي و2004 بالنسبة للتعليم الاولي. حيث ظلت نسبة التمدرس بالتعليم الاولي في حدود 59% من خلال المعطيات التي أدلى بها وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي في ندوة صحفية غطتها وسائل الاعلام بالرباط يوم 20 شتنبر 2019. ويشير موجز احصائيات التربية لسنة 2018/2019، المنشور على موقع الوزارة، الى ان نسبة الأطفال الذين سُجلوا بالأولى ابتدائي في سن السابعة وما فوق قد بلغت 26.6% من مجموع التلاميذ المسجلين بهذا المستوى أي ما مجموعه 153838 تلميذا وتلميذة وكلهم كان من المفروض ان يجدوا لهم مقعدا في السنوات الماضية. بإضافة هذا العدد على المسجلين الجدد في السن القانوني تعطيك الوزارة أرقاما فلكية قد تتجاوز 100 % بخصوص الالتحاق بالسنة الأولى ابتدائي، والواقع اننا لازلنا بعيدين عن تعميم التعليم لدى كل الأطفال في سن الالتحاق بالتعليم الابتدائي.

وحسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط [12] لسنة 2014، فإن نسبة تمدرس الأطفال ما بين7 و12 سنة، هي 95.1%   على المستوى الوطني (%  97.8 بالحضري و %  91.6 بالقروي ) و( 95.7%  بالنسبة للذكور و94.4%   بالنسبة للإناث). وكانت نسبة الأمية في صفوف الأطفال ما بين 10 و18 سنة هي 4.8 % مقابل أمية عامة وصلت الى 32.2%. وحسب نفس المصدر، فنسبة تشغيل الأطفال ما بين 15-18 سنة قد وصلت الى 26% (36.9% بالقرى مقابل 14.9% بالمدن). وقرابة 69 ألف من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 7 و15 سنة يمارسون نشاطا اقتصاديا وهو ما يمثل 1.5 % من هذه الفئة العمرية.


[1] اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين/المرتكزات الثابتة.

[2] نفسه.

[3]  نفسه.

[4] اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين/الغايات الكبرى.

²²[5] اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين/الغابات الكبرى.

[6] اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين/الغابات الكبرى.

[7] انظر

Nico Hirtt/ L’école prostituée. L’offensive des entreprises sur l’enseignement. Page 05

[8] Nico Hirtt/ L’école prostituée. L’offensive des entreprises sur l’enseignement. Page 07

[9] Nico Hirtt/ L’école prostituée. L’offensive des entreprises sur l’enseignement. Page 09

[10] اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين/ المادة 14.

[11]Ministère de l’éducation nationale de l’enseignement supérieur de la formation des cadres et de la recherche scientifique/  Aperçu  sur le système éducatif marocain juillet 2004/page 83

[12] https://www.hcp.ma/Note-d-information-a-l-occasion-de-la-journee-mondiale-de-l-enfance-du-20-novembre-2017_a2049.html

زر الذهاب إلى الأعلى