المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الثالثة من”سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية”: قيام مدرسة الاستبداد التائهة.

بعد أن اقتربت الطبعة الاولى من دراسة اطاك المغرب حول التعليم بعنوان: “سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب، منظورات من اجل تعليم ديموقراطي شعبي” من النفاذ ، حيث لم تعد مجموعات اطاك المغرب التي توزع الكتاب تتوفر إلا على نسخ قليلة (يمكن للقراء الاتصال بها لطلب ما تبقى من نسخ) وفي سياق اتساع النضالات ضد النموذج التعليمي المراد فرضه بالمغرب. ارتأى موقع اطاك نشر الدراسة على حلقات، لأجل المساهمة في تعميم الأفكار الواردة بالكتاب، وكذلك توسيع دائرة النقاش حول مضامينه، وحول السياسات العمومية في ميدان التعليم في أسسها ورهاناتها والبدائل الشعبية عنها.

الحلقة الثالثة

  • مدرسة الاستبداد التائهة: من مناظرة إفران 1 إلى انفجار أزمة المديونية وبرنامج التقويم الهيكلي.

لقد جرى كبح جماح الاندفاع نحو المدرسة الشعبية، وتم فرض النخبوية التي كانت سائدة قبل “الاستقلال”. و”تميزت سنة 1966 بسن امتحان التوجيه للتقليل من أفواج التعليم الثانوي، فنقلت التصنيفات الطبقية للحماية من الابتدائي إلى الثانوي حيث أصبح ثلثا التلاميذ يوجهون في نهاية جذع مشترك مدته سنتان – قسم الملاحظة وقسم السنة الأولى- إلى التعليم المهني الصناعي.. أما الثلث الباقي فيوجه إلى التعليم العام..الذي أطلق عليه التعليم الطويل، بينما أطلق على الأول التعليم القصير”[1]

جرى تشييد مدرسة الاستبداد إذن، دون أن يجري هدم مدرسة الاستعمار، فلم تكن ثمة حاجة لذلك، فالاثنان وجهان لعملة استغلال واحدة، ويعبران بأمانة عن تركيب الكتلة الطبقية التي استأثرت بحكم المغرب. لم يكن استبداد المدرسة كميا فحسب، بمعنى آخر، لم يكن إقصاء جل أبناء المغاربة من الولوج للتعليم هو الوجه الوحيد لذلك الاستبداد، بل كانت ثمة أوجه أخرى لا تقل أهمية. لقد كان مضمون التعليم وطرائقه وشكل تنظيمه وتسييره وُجوها أخرى لاستبداده.

انبنى النظام التربوي المغربي على مركزية شديدة، وعلاقات تراتبية لا تترك المجال إلا لتنفيذ اوامر قادمة من فوق. كانت علاقات الخضوع للرؤساء هي العملة الرائجة، وفي داخل المؤسسات المدرسية كانت سلطات المديرين شبه مطلقة، ولم يكن من سبيل لمشاركة المجتمع المدرسي، مجالس الأساتذة والأمهات والآباء والتلاميذ.. في التسيير والتدبير. بينما أرسي نظام رعب من جهاز تفتيش، مطلق الصلاحيات. 

انبنت المضامين التعليمية لمدرسة الاستبداد على تجريبية شديدة، طبعت فترة ما بعد الاستقلال، وخصوصا منذ بداية الستينيات. هي تجريبية نتجت عن تردد في اختيارات الحاكمين، تراوح ذلك التردد بين تبني تعريب يخدم الطبيعة القروسطية لأعلى هرم الاستبداد السياسي، وفي قلبه تبوأت المواد الدينية حصة كبيرة في الزمن المدرسي (كانت تمثل 21,3 بالمئة من الزمن المدرسي في قسم الابتدائي الأول مثلا)، وبين تبني ازدواجية لغوية فرضها أساسا عدم التمكن من مغربة الأطر في السلك الثانوي، وكذلك استمرار الهيمنة الاستعمارية الفرنسية في دولة “الاستقلال” وإدارتها ونظامها الإنتاجي. تلك الهيمنة التي بلغت حد جعل المدرسة المغربية حقل تجارب لبعض السياسات المراد تطبيقها في فرنسا.

كانت الطرائق المتبعة تقوم على الشحن والتلقين وسيادة العقاب البدني والنفسي، فضلا عن انتقائية نظام الامتحانات، إنه عنف رمزي ومادي شديد الوطأة على التلاميذ والتلميذات. بينما لم تكن الوسائل المستعملة تزيد عن TALK AND CHALK، كلام وطباشير، مضاف إليها عصا مستعارة من “المسيد” التقليدي وقد جرى تقصيرها. بينما كانت الثانويات شبه ثكنات، قائمة على نظام رقابة شديد وتضييق مستمر على أنشطة التلاميذ وتوجيهها حصرا لخدمة ثقافة الولاء للحاكم.

 كان الاحتفال بأعياد الاستبداد هو المرادف للأنشطة المدرسية الموازية.  لقد كانت مناسبة أكيدة لكي يصبح الاحتفال بعيد العرش، المعادل الموضوعي للفرح، كانت تلك سياسة ذكية لجعل الاستبداد المقيت موضوعا لفرح التلاميذ والانفلات من نظام “تربوي” قائم على الإخضاع، ووسيلة لتذكير التلاميذ بطريق سهل نحو التسلق؛ لا حاجة لكم للكد في الدرس إن كان باستطاعتكم المشاركة في “أنشطة” تمجيد الاستبداد!

وصلت مدرسة الاستبداد لطريقها المسدود مبكرا، فقد تأججت المقاومة الطلابية والتلاميذية تجاهها، تلك المقاومة التي لم تنس انتفاضة مارس 1965، وأمامها صور ودروس تجذر شبيبي وجد في ماي 68 الفرنسي مثالا لما يمكن للشبيبة المدرسية والجامعية عمله.

ارتأى الحاكمون المرتعبون من هول ما أوصلتنا إليه السياسات التي يتبعونها أن يبدؤوا حفلة تضليل، فبدأ الحديث عن إصلاح التعليم، والمقصود به إصلاح مدرسة الاستبداد بالذات، أي جعلها أكثر فائدة لاستمراره. بينما في المقابل بدأت تلوح في الأوساط الطلابية وأوساط نساء ورجال التعليم تباشير النقاش والنضال من أجل مدرسة ديموقراطية متحررة، ودمج للنضال من أجلها في سياق نضال شامل ضد الاستبداد والاستغلال.

لم تكن مناظرة إفران المنعقدة في صيف 1970 إلا محاولة من الحاكمين امتصاص الغضب المتزايد، المعبر عنه بنضالات طلابية وتلاميذية مديدة. وخلال هذه المناظرة، لم يجر طرح سوى حديثٍ سيتكرر كثيرا لاحقا حول إصلاح التعليم، المقصود به بالضبط إصلاح مدرسة الاستبداد القائمة، وليس التقدم من أجل بناء تعليم شعبي ومدرسة ديموقراطية.

كان الوضع التعليمي بداية السبعينيات أكثر كارثية مما كان عليه قبل عشر سنين، فطيلة النصف الثاني من الستينيات كان تطور اعداد والجي المدرسة أقل من نسبة النمو الديموغرافي. لقد كانت المدرسة المغربية بحالتها تلك تساهم في زيادة معدل الأميين بالبلد، عوض أن تكون وسيلة للقضاء عليها، فنسبة المتمدرسين حلال موسم 70/71  من الأطفال البالغين بين 7 و14 سنة، لم تكن لتتعدى 33,4% ثلثهم فقط إناث[2]، ناهيك عن أن شروط تمدرس من حالفهم حظ ولوج المدرسة كانت في الحضيض. فعلى سبيل المثال كان معدل تأطير مدرسي الابتدائي للتلاميذ يقدر بأستاذ لكل 38 تلميذا. بينما لم تتعد نسبة نجاح التلاميذ في امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية 22% في حين  لم يتعد عدد حاملي شهادة الباكالوريا لذات الموسم 4400 طالب[3].

 اجتازت الكتلة الطبقية السائدة ظرفا سياسيا حرجا (انقلابان عسكريان واستمرار الخلاف مع أحزاب الحركة الوطنية)، لكن ظرفا اقتصاديا مناسبا قوامه ارتفاع كبير في أسعار المواد الأولية، وخاصة الفوسفاط، ساهم في استعادة النظام لثقته بنفسه، واندفع لاتخاذ مبادرات اقتصادية وسياسية، أهمها الارتماء في سياسة جديدة في الصحراء، وإطلاق ما يسمى بالمسلسل الديموقراطي واعتماد مخطط تنموي جديد. ذلك المخطط الذي سيلتهم عائدات الفوسفاط (التي عادت أسعارها للانخفاض بعد ثلاث سنوات من الارتفاع 1974-1975-1976)، وستتضافر معه حرب الصحراء وتكاليف “إعادة النظام بالبلد” (انفجار الدولة البوليسية في وجه المعارضة السياسية والنضالات الشعبية). ستتضخم المديونية العمومية بشكل حاد فاسحة المجال للبدء في سياسة تقشفية ابتداء من سنة 1978، تلك السياسة التي لم تمكن النظام من التحكم في المالية العمومية، فوصل البلد إلى حافة الإفلاس سنة 1983.

جدول رقم 5

تطور اللجوء إلى الاستدانة الخارجية بالمغرب بين 1973-1982[4]

(بملايين الدولارات)

السنواتالمبالغالتغيراتالنسبة من الناتج الداخلي الخام
19731200 22%
19741303+8,5%21%
19751800+38,1%20%
19762464+36,8%27%
1977373351,5%34%
1978507335,9%38%
1979546027,2%41%
198084179,5%55%
19821233746,5%80%
19831364210,5%97%

وفي سياق ذلك، لم يكن المانحون الأجانب (خاصة دول السوق الاوروبية المشتركة والولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي) ينظرون بارتياح لحال التعليم بالمغرب. سواء على المستوى الكمي (الفشل الحاد في التقدم نحو تعميم التعليم) أو النوعي (مضمون التعليم الذي لا يهمه أكثر من تثبيت ركائز الاستبداد) أو مخرجاته (خاصة الرفع من إمكانيات خريجي التعليم ليكونوا عمالا قادرين على حدود دنيا للاندماج فيما ستجري تسميته منذئذ “سوق الشغل”).

دأب أولائك “المانحون” على تقديم قروض للقطاع تخص مشاريع تروم تجاوز ما يلاحظونه من “اختلالات” بحسب فهمهم، أي بحسب ما تمليه عليه مصالحهم بالبلد.

جدول 6

قروض البنك الدولي المخصصة حصرا لمشاريع التعليم والتكوين المهني بالمغرب بين 1971 و1983 [5] 

(بملايين الدولارات)

غرض القرضتاريخ القرضالمبلغ
مشروع التعليم 220/07/19718,5
مشروع التعليم 309/03/197621
مشروع التعليم 420/04/1979113
مشروع التعليم 520/05/198250

بعد ربع قرن من “الاستقلال”، أوقعت سياسات الطبقات السائدة البلد برمته في فخ المديونية وأضحى ابتداءً من سنة 1983 خاضعا كليا لإرادات الدائنين الذين أصبحوا أصحاب القرار بشأن الاختيارات الاقتصادية (ومعها الاجتماعية) التي ينبغي سلوكها.

وبعد ربع قرن ونيف من الاستقلال كان مطلب تعميم التعليم بالبلد بعيدا جدا عن المنال:

جدول رقم 7:

تطور أعداد التلاميذ بالمدارس العمومية بالمغرب بين 1978 و1985 [6]

السنواتالابتدائيالثانوي
78-791925187706076
79-802051862776085
80-812172289764139
81-822240560823054
82-832377568902234
83-842405735970111
84-8522790001030000

بينما بلغ عدد طلبة الجامعات والمدارس العليا: خلال موسم 81-82، 105155 طالبا وطالبة[7]. ونسبة الأمية 65% (78% في صفوف النساء و82% وسط القرويين والقرويات) ولم تتعد نسبة تمدرس الأطفال بين 7 و14 سنة نسبة 53,9%[8]  واستمر ثلثا فتيات البلد في سن التمدرس خارج المدرسة. مع بقاء الحواجز في وجه استمرار التلاميذ بالتعلم، ففقط 34,1% منهم تمكنوا في موسم 81/82 من تجاوز المرحلة الابتدائية[9].

بالمحصلة، وبصورة عامة، لم يتمكن الحاكمون بالمغرب من التأسيس الفعلي لمدرسة وتعليم مغربيين، لقد كانت كل السياسات والإجراءات والرؤى التي سادت منذ الاستقلال إلى بداية الثمانينيات، مُخفقة بالجملة في تحقيق أهدافها – رغم أن تلك الأهداف، لم تكن تؤسس فعليا لمدرسة ديموقراطية – وهو إخفاق جزئي ضمن آخر أشمل، عبر عنه بالملموس فشل كل مخططات التنمية (الخماسية والثلاثية) في ترجمة توقعاتها إلى حقيقة. خدمت “المدرسة الموجودة فعلا” إلى ذلك الحين هدفين أساسين: ضمان تزود الطبقات السائدة بما تحتاجه دولتها الوليدة وجهازها القمعي واقتصادها التابع والضعيف من أطر، بما يضمن تشبع الأجيال المتمدرسة (على قلتها) بقيم الوفاء للاستبداد، بينما تكلفت مدارس البعثات الأجنبية بتكوين الدوائر الضيقة المرتبطة بأبناء أسر الطبقات السائدة  وتهييئهم لتسلم مشاعل الاستغلال والاستبداد، فيما تتكلف المساجد بتأمين استكمال الوظيفة الإيديولوجية بضمان سيادة الوفاء للاستبداد ومرتكزاته في وجه أجيال من المحرومين من المدرسة، وهذا ما دفع الحاكمين إلى العناية، منذ نهاية الستينيات، بالتعليم التقليدي/الأصيل (الذي كان من المفترض أن ينقرض) الذي أوكلت له مهمة رفد دور العبادة بملاك ايديولوجي خالص الوفاء للاستبداد، وكان من نتائجه توفير حاضنة فكرية واجتماعية لقيام ما يعرف بالحركة الاسلامية وتوسعها، خاصة بعد الهجوم على تدريس الفلسفة وإحداث شعب الدراسات الإسلامية بالجامعات.


[1]  محمد المجدوبي/ إشكالية التعليم بالمغرب واقعها وآفاقها. ضمن مجلة المشروع العدد الرابع يونيو1981. ص 75

[2] Chaouki BENAZZOU dans “Panorama économique du Maroc 1969/1985”. Les éditions maghrébines . page 77

[3] Chaouki BENAZZOU dans “Panorama économique du Maroc 1969/1985”. Les éditions maghrébines . page 78-79

[4] أنظر فتح الله ولعلو في:

ANNALES MAROCAINES D’ECONOMIE/BILAN Décennal du programme d’ajustement structurel et perspectives de l’économie marocaine. Actes du colloque international de l’A.E.M des 1,2,3 Octobre 1993. Page 207

[5] أنظر فتح الله ولعلو في:

ANNALES MAROCAINES D’ECONOMIE/BILAN Décennal du programme d’ajustement structurel et perspectives de l’économie marocaine. Actes du colloque international de l’A.E.M des 1,2,3 Octobre 1993. Page 201 et 204

[6] المعطيات مستمدة من النشرات الإحصائية السنوية التي تصدر عن الجهة المكلفة بالإحصاء ( وزارة التخطيط – مديريات – مندوبية سامية) والتي تم جرى تجميعها بالموقع الالكتروني للمندوبية السامية للتخطيط

https://www.hcp.ma/Bookcases-des-annuaires-statistiques-du-HCP_a2071.html

[7]  نفسه

[8]Chaouki BENAZZOU dans “Panorama économique du Maroc 1969/1985”. Les éditions maghrébines . page 73

[9] نفسه ص 78

يمكن للقارئ الاطلاع على المقدمة والفهرس والحلقات السابقة على الموقع (للاطلاع عليهما على الرابط  والحلقة الاولى على الرابط1 والحلقة الثانية على الرابط2)

زر الذهاب إلى الأعلى