تحولت بوابة المستشفى الجهوي الحسن الثاني بأكادير في الأسبوعين الأخيرين إلى فضاء احتجاج وغضب شعبي. لم تكن الوقفات بسبب حادثة معزولة، بل نتيجة تراكم طويل لاختلالات جعلت سكان المدينة يطلقون على هذا المرفق اسم “مستشفى الموت”. فبين وفيات متكررة في قسم الولادة، أخطاء طبية مروعة، غياب ظروف استقبال لائقة، وفساد إداري، بات المشهد الصحي في الجهة مرآةً لفشل السياسات العمومية في ضمان أبسط حقوق المواطنين والمواطنات.
شكلت وقفة الأحد الماضي 14 سبتمبر 2025 أمام المستشفى الجهوي الحسن الثاني، محطة بارزة من حيث حجم المشاركة وتنوعها. فقد حضرها العشرات من نساء ورجال وشباب جاءوا من أحياء شعبية ومن قرى ومناطق هامشية حول أكادير، وجوه تحمل ملامح التعب والإرهاق، تعكس بوضوح أثر عقود من التهميش وغياب العدالة الاجتماعية. لم يكن الحضور من النخب أو الوجوه المألوفة في المشهد الاحتجاجي، بل من “المغرب الحقيقي”، حيث الأزمة ملموسة في الجسد وفي تفاصيل الحياة اليومية: صعوبة الولوج للعلاج، معاناة مع الأخطاء الطبية، وانهيار ثقة المواطنين في قطاع يفترض أن يحمي حياتهم. هذه الوقفة قدمت صورة عن عمق الأزمة الصحية، وحجم الدمار الذي تسببت فيه سنوات من السياسات النيو لبرالية.
عبّر المشاركون والمشاركات عن احتقان وغضب عميقين، وشعور بالحكرة لم يترددوا في إظهاره خلال مواجهة مقدامة مع قوات القمع، التي حاولت تفريق الوقفة ومنعها، مما جعل هذا الشكل الاحتجاجي يتجاوز مجرد وقفة رمزية ليصبح لحظة مواجهة مع السياسات التي أنتجت هذا الوضع الكارثي.
الصحة العمومية ضحية السياسات النيوليبرالية
منذ بداية التسعينيات، ومع تصاعد إملاءات المؤسسات المالية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي)، اعتمدت الدولة المغربية ما يُعرف بسياسات “التقويم الهيكلي”، التي لم تقتصر على مجرد إعادة هيكلة مالية، بل هدفت إلى تحويل الخدمات الاجتماعية إلى أدوات ضبط اقتصادي وسياسي. في هذا السياق، جرى تقليص ميزانية الصحة بشكل ممنهج، مما انعكس في انخفاض القدرة الاستيعابية للمستشفيات، ونقص التوظيفات، وإهمال البنية التحتية. لم يُنظر إلى الصحة كمرفق عام أساسي، بل كخدمة يمكن تقييدها اقتصادياً، ما دفع المواطنين – خصوصاً الفئات الشعبية الواسعة – إلى دفع تكاليف العلاج مباشرة، في منطق يربط الحق في الحياة بالقدرة الشرائية.
تفاقم الوضع بفعل هيمنة أولوية خدمة الدين العمومي على ميزانية الدولة، حيث تُوجَّه الموارد الضئيلة المتاحة للالتزامات المالية على حساب الصحة والتعليم، مما يجعل المواطن- ة يتحمل آثار قرارات اقتصادية مفروضة من الخارج، بينما يُحوَّل الحق في الصحة إلى امتياز مشروط.
في نفس الوقت، رسّخت الدولة منطق الشراكة بين القطاعين العام والخاص باعتباره “حلّاً تقنياً” لتطوير الخدمات، لكنه في الواقع عمل كآلية لإضفاء شرعية على خصخصة تدريجية، وتحويل المستشفيات العمومية إلى أدوات توجيه المرضى نحو الربح الخاص. هذه الاستراتيجية لا تقلل فقط من جودة الخدمات المجانية أو شبه المجانية، بل تعكس أيضاً تحوّل القطاع الصحي إلى فضاء تجاري، حيث تُقاس الأولويات وفق منطق الربح وليس وفق حاجات المجتمع.
إن الأزمة الصحية ليست مجرد إخفاق إداري أو نقص موارد، بل نتاج سياسات مركزية تُعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية وتعزز الهشاشة، محوّلة المستشفى العمومي من حق أساسي إلى سلعة، والمواطنين إلى ضحايا مباشرين لهذه السياسات.
الأولويات المقلوبة: مشاريع واجهة على حساب خدمات أساسية
شهدت الوقفة الأخيرة أمام مستشفى الحسن الثاني بأكادير رفع شعار معبّر: “ السبيطار أولا مابيناش كأس العالم”. هذا الشعار لا يختزل مجرد احتجاج شعبي، بل يسلط الضوء على التناقض الصارخ بين أولويات الدولة الفعلية والاستجابة للحاجيات اليومية للمواطنين. فبينما تستثمر الدولة مبالغا ضخمة في ملاعب عملاقة، ومرافق لاستضافة البطولات الكروية؛ كأس الأمم الأفريقية 2026 وكأس العالم 2030؛ تُترك المستشفيات العمومية تعاني من نقص حاد في التجهيزات، وأطر طبية غير كافية، وتأخر في الصيانة، مِما يَحرم المواطنين- ات من أبسط حقوقهم في الرعاية الصحية.
هذا التوجه الاستعراضي ليس مجرد خلل في التخطيط، بل يعكس منطقاً سياسياً واقتصادياً يضع مصالح الدولة في الواجهة الدولية فوق حياة المواطنين وحقوقهم الأساسية.
جاء شعار “السبيطار أولا مابيناش كأس العالم”، والذي سيخترق، على الأرجح ، معظم الاحتجاجات الجارية و القادمة في المغرب، ليؤكد أن مطالب المواطنين ليست احتجاجاً على سوء الخدمات فحسب، بل هي دعوة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، وإعادة الحق في الصحة إلى مكانه الطبيعي كحق أساسي لا يمكن التضحية به لأجل استعراضات دولية أو مشاريع رمزية.
لينتقل الاحتجاج لكل مستشفيات الموت
بيّنت احتجاجات أكادير أن الأزمة الصحية ليست مجرد إخفاق إداري محلي، بل نتاج عقود من الخوصصة وفرض منطق السوق عبر تسليع الخدمات العمومية. ومن هذا المنطلق، أصبح استمرار الاحتجاج والتنظيم الذاتي للمعنيين والمعنيات أمراً حيوياً لفرض المطالب وتحقيقها.
أمام ذلك، سارعت الدولة إلى استنفار أجهزتها عبر تنظيم زيارات لعدد من المستشفيات، في محاولة لاحتواء الغضب. هكذا قام وزير الصحة يوم الثلاثاء 16 شتنبر 2025 بزيارة لمستشفى الحسن الثاني بأكادير، حيث صرّح قائلاً: “كل التضامن مع ساكنة أكادير، العائلات والمرضى، إثر المعاناة التي يعيشونها الناتجة عن اختلالات كبيرة وحقيقية عايناها، وهي ناتجة عن تراكم سنوات من المشاكل.”
هذا التصريح، وإن جاء في سياق المناورة، يمثّل اعترافاً رسمياً بجريمة الدولة في حق المواطنين والمواطنات، لأن تلك «الاختلالات المتراكمة» ليست قدراً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة للسياسات النيولبرالية المدمرة. وكما جرت العادة، تسعى الدولة إلى تنفيس الاحتقان ومحاصرته محلياً، حتى لا يتحول إلى موجة وطنية شاملة.
غير أن احتجاجات أكادير أطلقت دينامية جديدة تجاوزت حدود المدينة، حيث صدرت بالفعل دعوات للتظاهر في عدد من المدن الأخرى، ما يعكس الطابع الوطني للأزمة. وهذه الدعوات ينبغي أن تتوسع لتشمل جميع «مستشفيات الموت» في المغرب، حتى تتحول المطالب المحلية إلى معركة وطنية من أجل الحق في الصحة. إن تعميم الاحتجاجات وربطها بمطالب واضحة وموحّدة، هو السبيل لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية ووضع الحق في الصحة في صدارة السياسات العمومية. وحدها التعبئة الشعبية المتواصلة قادرة على كسر منطق المراوغة الرسمي، ومواجهة السياسات النيولبرالية التي تهدد حياة المواطنين وكرامتهم.
لنعمم الاحتجاج… من أكادير لكل مستشفيات الموت!
بقلم: أسماء المنضور، عضوة جمعية أطاك المغرب