إصدارات

كتاب آدم بارب ” الدين العمومي والإمبريالية بالمغرب، (1956-1856)”

مقدمة طوماس بيكيتي. 

الاستعمار من خلال الديون

إنه لمن دواعي سروري أن أقدم كتاب آدم بارب “الدين العمومي والإمبريالية بالمغرب،”1856-1956”. خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1880 و1914، كانت القوى الاستعمارية، وفي مقدمتها فرنسا والمملكة المتحدة، تحتفظ بأصول مالية كبيرة في بقية العالم. بيد أن جزءاً مهما من الأصول المالية الأجنبية اتخذ شكل ديون عمومية وخاصة، كان قد جرى الحصول عليها بالقوة، وفي الكثير من الحالات كانت بمثابة تعويضات عسكرية فعلية. وينطبق هذا، على سبيل المثال، بالنسبة للديون العمومية المفروضة على الصين عقب حروب الأفيون في فترات 1839-1842 و1856-1860. فقد اعتبرت كل من المملكة المتحدة وفرنسا أن الدولة الصينية مسؤولة عن المواجهة العسكرية (أما كان ينبغي لها، بالأحرى، أن توافق على استيراد الأفيون؟)، وبالتالي فرضتا عليها ديوناً ثقيلة يتعين عليها أن تسددها، لتعويض البلدين عن التكاليف العسكرية التي أرادا تجنبها، وبالأخص لحمل الصين على أن تكون أكثر إذعانا في المستقبل.

يحلل كتاب آدم بارب بدقة ووضوح آليات «المعاهدات غير المتكافئة» التي سمحت للقوى الاستعمارية بالسيطرة على العديد من البلدان والأصول الأجنبية، ويظهر بالنسبة لحالة المغرب كيف يعمل هذا المنطق. والسيناريو النموذجي كان كالتالي.

يجري البدء باغتنام ذريعة مقنعة إلى حد ما (رفض فتح الحدود بالقدر الكافي، أعمال شغب ضد مواطنين أوروبيين أو الحاجة إلى حفظ النظام)، من أجل القيام بعملية عسكرية يتم على إثرها فرض امتيازات قضائية وإتاوات مالية، والتي يستدعي تسديدها التحكم في إدارة الجمارك، ثم النظام الضريبي بالكامل، بغية رفع مردوديته لصالح الدائنين الاستعماريين (ويترافق كل هذا مع فرض ضرائب شديدة التراجعية، تولد معها توترات اجتماعية قوية، بل وثورات ضريبية ضد المحتل)، وأخيراً، الاستيلاء على كامل البلاد.

إن حالة المغرب من هذا المنظور مثالية تماما. ونتيجة للضغوط المطالبة بمساعدة الجارة الاسلامية الجزائر (التي احتلتها فرنسا سنة 1830)، منح السلطان المغربي أخيراً اللجوء لعبد القادر: وكانت هذه الفرصة مثالية للفرنسيين لقصف طنجة وفرض معاهدة أولى في عام 1845. ثم تذرعت اسبانيا بتمرد الأمازيغ لتستولي على تطوان وتفرض تعويضات حرب ثقيلة في عام 1860، سيتم تمويلها فيما بعد باللجوء إلى مصرفيين في لندن وباريس، ليستوجب سدادها بعد ذلك أكثر من نصف العائدات الجمركية. تدريجيا، سوف يتاح لفرنسا أخيرا أن تفرض الحماية على كامل البلاد في فترة 1911-1912، بعد أن اجتاحت أجزاء عديدة في الفترة الممتدة ما بين1907و1909، بحجة حماية مصالحها المالية ورعاياها بعد الصدامات التي شهدتها مراكش والدار البيضاء.

إن كتاب آدم بارب يمكننا للمرة الأولى من التحليل الدقيق لمختلف مراحل هذا الاستعمار من خلال الدين، ويخبرنا كذلك عن التاريخ السياسي والمالي للعلاقة بين الدين العمومي والإمبريالية الأوروبية بالمغرب بين عامي 1856 و1956. 

المثير للاهتمام أن غزو الجزائر نفسه قد جرى تبريره سنة 1830 بالقضاء على القراصنة (الهمجيين) الذين يهددون تجارة البحر الأبيض المتوسط، والذين بسببهم اتهم حاكم الجزائر بالتسامح معهم في مينائه، ومن ثم كان على فرنسا أن تعمل على نشر القيم الحضارية. وهناك دافع آخر لا يقل خطورة، وهو أن فرنسا حصلت على دين مضمون من حاكم الجزائر أثناء توريد القمح إلى الحملة المصرية لفترة 1798-1799، والتي رفض كل من نابليون، ثم لويس الثامن عشر آنذاك سدادها، وهذا مصدر التوترات المستمرة خلال فترة التهدئة.

يوضح هذا مرة أخرى حدود الأيديولوجية التملكية في تنظيم العلاقات الاجتماعية وكذلك العلاقات بين الدول: كل واحدة منها تستخدمها بطريقتها الخاصة لتبرير رغبتها في المراكمة والسلطة، وسرعان ما نصطدم بتناقضات منطقية لإرساء معيار للعدالة يقبله الجميع، ومن ثم تأتي الحلول عبر موازين القوى والعنف الحربي المحض والصريح.

لابد من الإشارة إلى أن هذه السلوكات العنيفة بين الدول في ذلك الوقت وهذا الخلط الدائم بين التعويض العسكري في العصر القديم والدين العمومي في العصر الحديث، كانت أيضاً حاضرة داخل أوروبا ذاتها. بمناسبة التوحيد السياسي لبروسيا والإمارات الألمانية، وهي سيرورة طويلة ومعقدة من التحولات بدءا بتشكيل الاتحاد الألماني عام 1815، ثم إنشاء اتحاد ألمانيا الشمالية عام 1866، استغلت الدولة الإمبراطورية الألمانية الجديدة مناسبة فوزها العسكري في الفترة 1870-1871 لفرض تسديد تعويضات ثقيلة على فرنسا. دفعت فرنسا ثمنها بالكامل، دون أن تخلف أي تأثير ملموس على التراكمات المالية القوية للبلاد، وهي علامة على الازدهار الكبير الذي عرفه الملاك والمودعون الفرنسيون في نهاية القرن التاسع عشر.

وفي واقع الأمر، يكمن الفرق في أنه إذا كانت القوى الاستعمارية الأوروبية قد فرضت في بعض الأحيان التعويضات على بعضها البعض، فإنها كانت في أغلب الأحيان متحالفة لفرض هيمنتها التجارية المدرة للأرباح على بقية العالم، على الأقل حتى تدميرها الحربي الكامل فيما بين 1914-1945. وحتى لو تطورت آليات التبرير وأشكال الضغط، فمن الخطأ أن نتصور أن هذه السلوكات العنيفة بين الدول قد اختفت تماماً، وأن موازين القوى لم تعد تلعب أي دور في تحولات المكانة المالية للبلدان. وقد يتصور المرء، على سبيل المثال، أن قدرة الولايات المتحدة التي لا نظير لها على فرض عقوبات شاملة على الشركات الأجنبية أو تدابير الحظر التجاري والمالي الرادعة على الحكومات التي تعتبرها غير متعاونة بشكل كاف، لا علاقة لها بالهيمنة العسكرية للبلد. وقد تنشأ آليات مماثلة في المستقبل بالنسبة الصين. ليست أقل مزايا آدم بارب أن جعلنا نسترجع من جديد المراحل المختلفة للأسس المالية والسياسية المتلازمة، والتي أدت إلى استعمار المغرب، ويذكرنا بأن المالية والدين العمومي ما زالا وسيبقيان دوما من محددات السيادة والسلطة.

ترجمة : مجموعة أطاك انزكان

زر الذهاب إلى الأعلى