بيانات وتقارير

مذكرة عامة حول تقرير “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”من أجل مغرب آخر ممكن، واقتصاد يقطع مع النموذج الرأسمالي النيوليبرالي

مذكرة عامة حول تقرير “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”
من أجل مغرب آخر ممكن، واقتصاد يقطع مع النموذج الرأسمالي النيوليبرالي

  1. تقرير “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” يخدم هدفا سياسيا: الإعداد لتمرير مخططات نيوليبرالية عنيفة
    أُحدثت “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” في دجنبر 2019، وقدمت تقريرها الرسمي في ماي 2021. وجذير بالذكر، أن الدولة المغربية احترفت إحداثَ لجنا من هذا القبيل، وكذا طريقة تشكيلها. وهي لجن يوكل إليها إنتاج تقارير موجَّهة باختيارات الحاكمين، وغالبا ما ترتبط، في نوع من التوافق والانسجام، بتوصيات تقارير أخرى للمؤسسات المالية الدولية التي تتحكم في جوهر السياسات الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا.
    كانت أولى توصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي في بدايات 1960 متمحورة حول ضرورة اعتماد المغرب على الفلاحة التصديرية كركيزة أساس “للنموذج التنموي” بعد الاستقلال وتمويله عبر القروض. وهذا ما زج بالبلد في دوامة المديونية بعد عجزه عن تسديد خدمات الدين في نهاية 1970. وهنا تدخل صندوق النقد الدولي، أولا، عبر وضع برامج الاستقرار في الفترة 1978- 1982، أساسها تقليص النفقات العمومية وتحرير الأسعار، وثانيا، بفرض برنامج التقويم الهيكلي في 1983. دشن هذا البرنامج نموذجَ تراكم نيو ليبرالي قائم على توجيه المالية العمومية أساسا لخدمة الرأسمال الكبير المحلي والأجنبي خاصة الفرنسي مع تخلِّ ممنهج عن الخدمات العمومية والاجتماعية، وإمعان في تقشف مدمر لمكاسب عقود ما بعد الاستقلال الشكلي. كانت النتائج الاجتماعية للتقويم الهيكلي كارثية، وأدت إلى ثلاث انتفاضات شعبية في فترة تطبيقه (يونيو 1981، يناير 1984، ودجنبر 1990). وجاء تقرير البنك العالمي لسنة 1995، ليُشخِّص “السكتة القلبية” التي كان الاقتصاد المغربي على حافتها. وفي نفس السنة، سينخرط المغرب في منظمة التجارة العالمية، وسيشرع في خصخصة الخدمات العمومية (الصحة والتعليم) وفق مقتضيات الاتفاق العام حول تجارة الخدمات، بعد أن قطع أشواطا في خصخصة المؤسسات والمقاولات العمومية. كما سيبدأ المغرب مسلسل اتفاقيات ما سمى تبادلا حرا، وتوقيع الأولى منها مع الاتحاد الأوروبي في 1996.
    في سنة 2005، صدر تقرير “50 سنة (2005-1955) من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025» الذي لم يضع موضع تساؤل الجوهر النيوليبرالي للإصلاحات الهيكلية، واعتبرها ضرورية، ويجب فقط ربطها بالتنمية البشرية. وهذا ما أكدت عليه المندوبية السامية للتخطيط في الدراسة التي أعدتها، في نفس الفترة، حول “مصادر التنمية الاقتصادية بالمغرب” في الفترة 1960-2004 وآفاق سنة 2030، التي أرادت من خلالها أن تجيب على كيفيات مواصلة المغرب للإصلاحات التي تفرض نفسها، هل عبر السير بخطوات بطيئة، إصلاحا بإصلاح، أو تسريعها لتكون عبر دفعة واحدة.
    وفي سنة 2006، سيصدر البنك العالمي مذكرة اقتصادية حول المغرب بناء على منهجيته الجديدة لــ “تشخيص التنمية”، وهي نفس السنة التي ستدخل فيها حيز التنفيذ اتفاقية التبادل “الحر” التي وقعها المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية في 2004. وليست انتفاضة إفني أيت باعمران التي بلغت أوجها في يونيو 2008، وقبلها انتفاضة البهاليل في شتنبر 2007، والتعبئات ضد ارتفاع الأسعار منذ 2006، وتنامي نضالات المعطلين حاملي الشهادات، سوى جزءٍ بارزٍ من ردود الفعل الشعبية ضد نتائج هذه السياسات.
    تجدر الإشارة أيضا إلى تقرير أصدرته دائرة التحليل الاقتصادي لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد في 2010 بعنوان “هل يتوفر المغرب على استراتيجية للتنمية الاقتصادية؟ عناصر للتفكير من أجل إقلاع حقيقي اقتصادي واجتماعي”، والذي حددت فيه أولى معيقات التنمية الاقتصادية في طبيعة النظام السياسي القائم ببلدنا.
    تلتقي جميع هذه التقارير في جوهرها حول ضرورة مزيد من السياسات النيوليبرالية لتطوير الاقتصاد المغربي واندماجه في العولمة الرأسمالية، مع التنبيه إلى مكامن الخلل الرئيسة المتمثلة في غياب الحكامة والشفافية في التدبير، إلخ.
    ستأتي التعبئات الشعبية لحركة 20 فبراير منذ 2011 التي شملت جميع شرائح الشعب في مدن المغرب وقراه لتكشف عن حقيقة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتطرح حجم الريوع المرتبطة بالنظام السياسي، والتي تستفيد منها أقلية ناهبة. وقد فتحت هذه التعبئات عهدا جديدا من المقاومات ستبرز إحدى تجلياتها النوعية في حراك الريف منذ 2016، المتسم بانخراط واسع للنساء والشباب الذين فقدوا الأمل في مستقبلهم ويطرحون سؤال التنمية المنشودة.
    جاءت حركة 20 فبراير في سياق موجة الانتفاضات الشعبية التي شهدتها منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط/المنطقة العربية. أتت الانتفاضات تلك، لتنسف جميع تحاليل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي التي كانت تمدح الأنظمة بكل من تونس ومصر والمغرب. وتعطي بها مثالَ نجاحِ وصفاتها النيوليبرالية، والتي كانت تحاول كبح التفاوت الحاد في الدخل، الذي نتج عنها بعد 30 سنة من تطبيقها. واعتبرت المؤسستان أن “جذور الربيع العربي تعود إلى استياء الطبقة الوسطى” (2015).
    وفي هذا السياق، أصدر البنك العالمي مذكرته لسنة 2017 تحت عنوان “المغرب في أفق عام 2040: الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”، والتي تمحورت حول آليات تقليص الريع وتدعيم اقتصاد السوق والمنافسة، ورفع مردودية الاستثمارات وتعميم مرونة الشغل وتعميق الاندماج في السوق العالمية وسلاسل القيمة العالمية. كما أوصت باعتماد “العلاج بالصدمة” لإنجاز الإصلاحات الهيكلية في التعليم والصحة. وقد جاءت نضالات الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد كرد فعل ضد هذه الوصفة.
    بناء على كل ما سبق، يمكن القول إن “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” جاءت لتمحيص مذكرة البنك العالمي في سياق الأزمة الاقتصادية وما تحمله من عناصر انفجار اجتماعي كبير. ويبين حجم الدعاية الرسمية بأنها تخدم بالأساس هدفا سياسيا يتمثل في تدعيم شرعية النظام السياسي وطمأنة الرأي العام، بأننا نسير على الطريق الصحيح، وأنه يجب فقط “تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وثيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع” كما جاء في عنوان تقريرها العام. فلا يتعلق الأمر بإحداث قطيعة مع “النموذج التنموي” الذي يسير عليه المغرب كما جاء في ديباجة التقرير، بل بإضافة إجراءات جديدة في ظل الاستمرارية. وهذا ما يعني الإعداد لتمرير مخططات نيوليبرالية عنيفة. كما أن التقرير جاء كرد وتمويه لمطالب الانتفاضات الشعبية التي عرفها المغرب منذ خريف 2016 وخاصة حراك جرادة الذي شكل البديل التنموي محور مطالبه.
  2. في تشكيلة اللجنة
    رغم استعمال اللجنة في تقريرها لمفاهيم رنانة من قبيل من الأسفل إلى الأعلى، نجدها تتعارض بنيويا مع هذا المبدأ، حيث إنها تفتقد لأية شرعية. فهي عينت وفرضت من فوق، وغير خاضعة لأية رقابة ديمقراطية، ولا علاقة لها بمن هم في الأسفل. كما تحمل معظم أعضائها مسؤوليات خلال السنوات العشرين الماضية وشاركوا في تنفيذ السياسات التي يقرون اليوم بفشلها. فرئيس اللجنة، شكيب بنموسى، كان مسؤولا مباشرا على قمع انتفاضة إفني سنة 2008 حيث كان حينها على رأس وزارة الداخلية.
  3. التقرير عبارة عن مرافعة للدفاع عن الإنجازات
    بحكم طريقة تشكيل “لجنة النموذج التنموي” وهدفها السياسي كما حددناه أعلاه، لا يمكن أن ننتظر منها أن تعيد النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية، أو في تبعية المغرب البنيوية الجاري تعميقها في سياق العولمة الرأسمالية، أو في طبيعة النظام السياسي. فما قدمته في وثيقة “التقرير العام” هو مجرد مرافعة للدفاع عن الإنجازات التي تستهدف في جوهرها تحسين مناخ الأعمال، دون وضع تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمالية في الميزان. وتفادت الإشارة إلى كون التعبئات الكبيرة لحركة 20 فبراير منذ 2011 وحراكي الريف وجرادة وغيرهما، كلها تعابير عن فشل هذه الإنجازات من المنظور الشعبي. بل يبدو أن الخوف من انبعاث هذه التعبئة الشعبية من جديد (“التوترات الاجتماعية، خاصة في المدن الصغرى والمتوسطة” حسب التقرير)، ومن بروز طلائع شبابية سياسية جديدة (“مخاطر توظيف الرأي العام”)، شكل الهاجس الذي تحكم في “التقرير” الذي اقتصر على تشخيص يسرد بعبارات ملطفة ظواهر يعرفها جميع المغاربة وهم يعانون يوميا من حكرة الاستبداد في جميع مجالات حياتهم وكسب عيشهم: فقدان الثقة في المؤسسات وفي قدرتها على السهر على الصالح العام، اتساع الفوارق الاجتماعية وغموض المستقبل، سياق تردي جودة الخدمات العمومية، الفساد في الإدارة، فقدان مصداقية نخب سياسية واقتصادية ميسورة استفادت من امتيازات غير مشروعة، إلخ.
    ويعتبر التقرير أن أسس التنمية المتبعة في المغرب حققت مكاسب اقتصادية (البنية التحتية للبلاد) واجتماعية (التغطية الصحية) كبيرة، وليس بها أي عيب بنيوي. وجب فقط إصلاح بعض المعيقات المرتبطة بالتدبير والتسيير، خصوصا فيما يتعلق بالرأسمال البشري. وإذا ما أراد المغرب بلوغ نسبة 6% من النمو الاقتصادي، فلا بد من تسريع وتيرة الإصلاحات: مزيد من تحرير الاقتصاد لتعميم المنافسة وفسح في المجال لدخول فاعلين جدد، إدماج القطاع غير المهيكل في النظام الضريبي، ربط التعليم أكثر بمتطلبات المقاولة، تطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فتح قطاع الصحة للاستثمار الخاص، تركيز الاستثمارات العمومية على تعزيز القدرة على جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، مزيد من اللجوء إلى المديونية العمومية خصوصا من الأسواق المالية الدولية، تعزيز دور المغرب كرافعة للاستثمارات الغربية على مستوى القارة الإفريقية.
    ولتنفيذ هذه الإصلاحات الضرورية وبالنجاعة المطلوبة، لابد من تعزيز الدولة القوية وإدماج الشركاء الاجتماعيين، أي مزيد من القمع وإشراك القيادات النقابية ومنظمات “المجتمع المدني” لإضفاء شرعية على الهجومات وعدم تنظيم أي تعبئة ضدها.
    ولإضفاء طابع “الإجماع الوطني” على هذا النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، اقترحت اللجنة توقيع “ميثاق وطني من أجل التنمية”، ونظمت من أجل ذلك جلسات مع الأحزاب والنقابات… إلخ. وغايته هي نفس غاية “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، الذي وقعت عليه الأحزاب والنقابات، نازعة إمكان معارضته فيما بعد، وهو ما أطلق عليه تقرير “لجنة النموذج التنموي الجديد”: “التدبير الدائم لمظاهر مقاومة التغيير”. إن توقيع على هذا الميثاق يُعَدُّ بمثابة مشاركة صريحة في العدوان على كادحي وكادحات البلد. وإذ نحيي كل من قاطع تلك الجلسات ورفض توقيع الميثاق، وأيضا رافضي هذا العدوان المتجدد، ندعو إلى تضافر الجهود الإعلامية والنضالية لوقفه.
    رغم اعتراف التقرير بكون الاختيارات الاقتصادية وسياسة المشاريع الكبرى والمخططات القطاعية تتجاهل معضلة التغيرات المناخية، فالتقرير لا يجرؤ على انتقادها بل وينوه بها في فصول أخرى. في حين أن هذه المخططات القطاعية تزيد من حدة تأثيرات التغيرات المناخية عبر سياساتها الاستخراجية المستنزفة للثروات، خاصة الثروات المائية، والمدمرة للمجالات الحيوية والتنوع البيولوجي. ونشير بأن هذه المخططات القطاعية (المغرب الأخضر، المغرب الأزرق، مخطط آزور، إلخ) جرى تصميمها من طرف مكاتب دراسات أجنبية تجهل وتتجاهل الظروف والمميزات الطبيعية لأقاليم المغرب، كما تتجاهل بل وتحتقر أساليب وطرق التفاعل المتوارثة للسكان المحليين بمحيطهم.
    ولم يضع التقرير محط تساؤل فشل النمط الاستخراجي الموجه نحو التصدير وارتهانه بتقلبات السوق العالمية. ويربط المعايير البيئية في عملية الإنتاج باعتمادها المحتمل في المبادلات الدولية، وبالتالي فرضها على صادرات المغرب. أما توصيات التقرير في الميدان الفلاحي فلا تخرج عن مصطلحات تقرير مكتب ماكينزي بضرورة رفع التثمين المحلي للإنتاج الفلاحي.
    ليست الكارثة البيئية محض نتائج جانبية يمكن تجنبها، بل أحد ثوابت النيوليبرالية البنيوية، فتشجيع الاستثمار يقتضي إزالة كل ما يعيق تنقل الرساميل، سواء كانت معايير اجتماعية أو صحية أو بيئية. لذلك فالحديث عن الاستمرار في نفس النهج النيوليبرالي مع ادعاء الحرص على البيئة يدخل من باب النفاق الأيديولوجي.
  4. المعيقات الحقيقية للتنمية بالمغرب
    i. اقتصاد السوق والسياسات النيوليبرالية
    إننا في جمعية أطاك المغرب، عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير المشروعة، نعتبر أن معيقات التنمية الحقيقية تعود إلى بداية الستينيات، التي لم تتطور فيها موازين القوى إلى إحداث قطيعة مع مخلفات الاستعمار المباشر. ففي سنة 1956، التزمت السلطات المغربية بتسديد الديون الاستعمارية التي أبرمت طيلة الفترة 1906-1956. وتواصل الخضوع للهيمنة الخارجية بأشكال جديدة منذ بداية الستينيات عبر توسيع إدماج الاقتصاد المغربي في السوق العالمية والخضوع لتقسيم العمل الدولي، وتصدير مواد أولية ذات قيمة مضافة ضعيفة واستيراد مواد مصنعة. وقد اتسم هذا التبادل التجاري باللاتكافؤ، وبتدهور دائم في شروط التبادل التجاري المرتبطة بتقلبات الأسعار الدولية والعملات الرئيسة المتحكمة في الأسواق. وأعطيت الأولوية للفلاحة ولم تقم صناعة محلية تكون قاطرة تطور اقتصاد رأسمالي حقيقي. كما جرى الارتكاز على المديونية كآلية رئيسة للتمويل.
    ولم تسمح الاستثمارات والإعانات العمومية بتطوير قطاع خاص ينتج قيمة مضافة كافية، ولم تمكن الصادرات الفلاحية من تغطية حتى نصف الواردات الغذائية. ويهمين المنطق المضارباتي على الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تستفيد من خصخصة المؤسسات والخدمات العمومية، وتُرحِّل الأرباح أكثر ما تساهم في استثمار طويل الأمد ومنتج. وبقيت عائدات العملة الصعبة معتمدة على بعض المصادر الهشة كعائدات العمال المغاربة المهاجرين والسياحة، في حين تتقلص العائدات الضريبية بفعل التحفيزات والتهربات الضريبية للمقاولات الكبيرة، والعائدات الجمركية بفعل اتفاقيات التبادل “الحر”. هذا كله علاوة على استشراء نهب المال العام وتهريب الرساميل، إلخ. ويساهم كل هذا في حرمان الميزانية العمومية من موارد هائلة وعجزٍ يلقى عبئه على كاهل دافعي- ات الضرائب من شغيلة وذوي دخل محدود.
    ii. المديونية والتبادل “الحر”
    الحاجة الدائمة إلى التمويل تجري تلبيتها بمزيد من القروض التي تؤدي إلى ترحيل الثروات عبر خدمة الدين (التحويل الصافي السلبي) إلى القطاع المالي الغربي. فنظام الديون هو آلية للسيطرة والنهب وتعميق التبعية. وينتج عن هذه المديونية تدخل مباشر للمؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية لتعميم الانفتاح النيوليبرالي لصالح الشركات متعددة الجنسيات والرأسمال المحلي الكبير. فقد وقع المغرب عددا كبيرا من اتفاقيات “التبادل الحر” مع بلدان مختلفة في الشمال والجنوب (56 بلدا). إنها اتفاقيات استعمارية جديدة لكونها تفتح الباب أمام المقاولات الكبرى العالمية لغزو السوق المحلية بالسلع الأجنبية التي تدمر النسيج الاقتصادي الهش أصلا، وتزيد من نسبة البطالة، وتعمق عجز الميزان التجاري والتبعية الغذائية، إلخ. كما تتضمن حماية الاستثمارات والملكية الفكرية، وخصوصا في مجال استنساخ الأدوية. فقد أبانت جائحة كورونا عن جرائم المركبات الصيدلية الكبرى المتعطشة للأرباح وهي تحتكر براءة اختراع لقاحات كوفيد-19 في الوقت الذي تحصد فيه هذه الجائحة الأرواح في البلدان الفقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
    يؤدي تدمير النسيج الإنتاجي المحلي والقدرة الشرائية لملايين الأجراء (بسبب الهشاشة والبطالة) إلى إعاقة نشوء سوق داخلية، ما يدفع أكثر إلى اللجوء نحو اقتصاد قائم على التصدير. إنها الحلقة المفرغة للنهج النيوليبرالي الذي يريد النموذج التنموي الجديد الاستمرار على منواله.
    iii. نظام الاستحواذ على الثروات وتفقير السكان المحليين
    أغلقت “لجنة النموذج التنموي” بشكل حاسم باب النقاش حول طبيعة النظام السياسي. فهي تعتبر “المؤسسة الملكية الركيزة الأساس للدولة ورمز وحدة الأمة والضامنة للتوازنات والحاملة للرؤية التنموية والأوراش الاستراتيجية طويلة المدى، والساهرة على تتبع تنفيذها خدمة للمواطنين”. واكتفت بالإشارة إلى “أن سير الاقتصاد الوطني تطبعه اختلالات وعراقيل تقف في وجه المنافسة الحرة وتحمي حالات الريع أو مراكز النفوذ”.
    وهكذا تجاهل تقرير “اللجنة” ما نددت به الحراكات الشعبية في 20 فبراير 2011 والريف وجرادة، وأيضا خلال حملة مقاطعة منتجات مجموعات رأسمالية كبيرة في 2018، وهي تطالب بتنمية تقطع مع “الريع” الذي يهمين على كل مجالات الحياة الاقتصادية. فليس الريع مجرد حالات كما جاء في تقرير “اللجنة”، بل يدخل ضمن طبيعة نظام الدولة الساهر على ضبط آليات الاستحواذ لصالح أقلية تنهب موارد البلاد وجيوب العباد. هذه الأقلية التي ترتبط بدواليب الدولة ومواردها لتنمية ثرواتها لها مصلحة مباشرة في تطبيق توصيات المؤسسات المالية العالمية والتحالف مع الشركات متعددة الاستيطان، من أجل السطو على خيرات البلاد من خلال برامج خصخصة المؤسسات العمومية الأكثر مردودية، وكذلك تحرير القطاعات الاستراتيجية. وها هي اليوم توجه الرساميل التي راكمتها إلى بلدان افريقية مستغلة استثمارات المؤسسات العمومية كعكاز لكسب الصفقات وجني الأرباح. وتشترك في ذلك مع قسم من الرأسمال الأجنبي الذي تمنحه البرامج النيوليبرالية فرص توسيع تغلغله في المغرب وفي جميع البلدان الأفريقية الخاضعة لتوصيات المؤسسات المالية الدولية. وتسير هذه الشراكة الاقتصادية بالتوازي مع شراكة سياسية وفق مصالح القوى الامبريالية بالقارة الإفريقية.
    رغم الحديث عما أسماه التقرير “العقد النظامية”، فهو تحاشى الحديث على أكبر هذه العقد، ألا وهو زواج المصلحة ما بين الاستبداد السياسي والليبرالية الاقتصادية في المغرب، الذي أنجب وضعا مشوها وبؤسا معمما يحلم تحت نيره الجميع بالرحيل، باستثناء الأقلية المستفيدة على نحو مباشر من سياسات الخصخصة والنهب والاستيلاء التي فرضها الاستبداد.
    يتميز خطاب المؤسسات المالية العالمية من خلال تقاريرها بالنفاق. فهي تقدم السيطرة الاقتصادية للقصر ومحيطه والمقربين منه كحدث طارئ أو خلل في تطبيق الليبرالية الاقتصادية في بلادنا. في حين أن الاستبداد السياسي يعد الأداة الرئيسة في يد هذه المؤسسات لفرض كل وصفاتها. وقد شكل كبار المستفيدين المقربين من مراكز القرار حليفا استراتيجيا للشركات العالمية في الاستيلاء على الصفقات والاستفادة من تحرير قطاعات بأكملها.
    iv. تعميم القمع وخنق الحريات
    إن حرص هذه الأقلية على استمرار مواقع الاستفادة من الريع والاستفراد بالغنيمة، يجعلها تكن العداء الشديد حتى لمطالب بسيطة تبتغي تحسين أوضاع البؤس (رفع الأجور الإسمية) والتي تعني فقط تنازلها عن قسط ضئيل من القيمة المنتجة لصالح المنتجين المباشرين، فما بالك بمطالب إعادة توزيع الثروات أو فرض ضريبة تصاعدية على الثروة، إلخ. وقد رأينا شراستها في مواجهة تعبئات حركة 20 فبراير وحراكي الريف (أحكام بعشرين سنة نافذة) وجرادة وغيرهما، وسجن الصحافيين النقديين الذين يُجرون استقصاءات حول آليات الاستحواذ (عمر الراضي). وزاد حرصها لضمان الإجماع على تعميم القمع وخنق الحريات.
  5. التقرير يحث على تسريع وثيرة نفس الإصلاحات النيوليبرالية
    يوصي “تقرير لجنة النموذج التنموي” بتسريع نفس الإصلاحات النيوليبرالية التي تطالب بها المؤسسات المالية الدولية لتوسيع هيمنة نفس الأقلية الرأسمالية على جميع المجالات وتحميل كلفتها للطبقات الشعبية، وذلك من خلال مواصلة أوراش الدولة من أجل:
    • تطوير البنية التحتية والمناطق الحرة، وتوفير العقار والأراضي الزراعية، والمزيد من تخفيض الضريبة على الشركات لتحفيز التنافسية.
    • تعميق اتفاقيات التبادل الحر التي أبرمها المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية، والانخراط في منطقة التبادل الحر القارية الأفريقية، وجعل المغرب منصة قارية تتيح الفرص للمستثمرين الأوروبيين.
    • تسليع قطاعي التعليم والصحة، وأيضا قطاع الماء، عبر إعادة النظر في القوانين وإعداد ترسانة أخرى تسمح بفسح المجال أكثر للاستثمار الخاص.
    • توفير يد عاملة مؤهلة (تشجيع التكوين المهني)، وتكثيف استغلالها عبر تعميم “مرونة علاقات العمل الاجتماعية وتحسين آليات منع منازعات العمل وحلها سلمياً مع زيادة اللجوء إلى الوساطة”. يتعلق الأمر بإضفاء الطابع القانوني على الهجمات على حقوق الطبقة العالمة ومكاسبها التي تحققت في الواقع كتعميم العمل بالعقدة في القطاع الخاص وفي القطاع العمومي (التعليم، الصحة …)، وتبني قانون شغل عام جد مرن مرفق باتفاقيات جماعية حسب القطاعات وعلاقات الشغل الخاص. كما جرى التأكيد على تشجيع التنافسية في “الموارد البشرية” لتشجيع الاستثمار.
    التقرير يدعو إذن لضرورة إحداث قطيعة مع النموذج القديم المرتكز على الاستبداد السياسي والليبرالية الاقتصادية بمزيد من الاستبداد السياسي (دولةً قوية) ومزيد من الليبرالية الاقتصادية!
  6. مصادر تمويل النموذج التنموي
    يمكن تلخيص مصادر تمويل التي اعتمدها “النموذج التنموي” فيما يلي:
    • إلغاء صندوق المقاصة: “إعادة توجيه تكاليف المقاصة نحو آليات مندمجة للحماية الاجتماعية والسجل الاجتماعي الموحد”.
    • مزيد من المديونية العمومية: “يمكن أن يرتكز اللجوء إلى الاستدانة على الفرص المتاحة داخل سوق الرساميل،
    وعمليات التدبير النشط للدين وكذا على فرص التمويل بشروط ميسرة وبالإضافة إلى مختلف آليات التمويل المتاحة في إطار الشراكات الدولية”.
    • تخفيض ملموس لنسب الضريبة على الشركات ذات الأنشطة المفتوحة في وجه المنافسة الدولية.
    • استعمال ودائع الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية ذات الطابع المالي.
    • تطوير شراكات بين القطاعين العام والخاص وجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة.

لقد حافظ “النموذج التنموي الجديد” على نفس المنظور القائم على تحميل الطبقات الشعبية (الشغيلة وصغار المنتجين- ات) كلفةَ تنميةٍ يستفيد من ثمارها الأغنياءُ والرأسماليون المحليون والأجانب، كما سيكرس بعضُها نفس آليات ترحيل الثروة نحو الخارج (تسديدات الديون وأرباح الاستثمارات الأجنبية). هذا في حين أن آليات التمويل الأخرى (الضريبة على مواد الاستهلاك الترفية) هي مجرد ذر للرماد في العيون، إذ يقوم النظام الضريبي المغربي على توسيع وعاء الضريبة نزولا نحو الطبقات الشعبية وتخفيفها على الأغنياء.

  1. أعباء الإصلاحات الهيكلية ستتحملها الطبقات الكادحة
    أكيد أن تكاليف هذه الإصلاحات الهيكلية وتمويلها ستتحملها الطبقة العاملة والشرائح الفقيرة التي تعاني من تدني الأجور وضعف الدخل، في الوقت الذي سيزداد فيه غلاء المعيشة، من جراء إلغاء صندوق المقاصة. كما ستزداد معاناة الأسر الكادحة من أجل تدريس أبنائها والتكفل بالرعاية والخدمات الصحية كما أبانت عن ذلك جائحة كورونا. ورغم الصعوبة التي تجدها في تسديد ديونها، ستغوص هذه الأسر في دوامة القروض إزاء مؤسسات القروض الصغرى والبنوك ومؤسسات قروض الاستهلاك.
    وتعيش غالبية الشباب أوضاع البطالة والحلم بالهجرة، كما تجلى في أحداث مدينة سبتة في ماي المنصرم. وتتوسع الهشاشة وعدم استقرار الشغل والحياة خصوصا في أوساط النساء، كما رأينا في احتجاجات مدينة الفنيدق في فبراير 2021 إثر إغلاق معبر مدينة سبتة.
    وبدا واضحا أن تأثير البرامج الترقيعية من قبيل “محاربة الفقر”، و”التنمية البشرية”، و”المشاريع المدرة للدخل”، و”برامج التشغيل”، إلخ، كان ضعيفا جدا أمام عمق الأزمة الاجتماعية. لكن المفعول السياسي لهذه البرامج بالغ الوضوح إذ تسمح بترويج خطاب تضليلي لخداع ضحايا السياسات المتبعة، وتجمد الاستعداد النضالي لفئات شعبية عديدة وتحولها إلى طوابير منتظرة لصدقات تأتي من الأعلى.
  2. منظورنا لعناصر التنمية الحقيقية
    تقوم كل فلسفة “النموذج التنموي الجديد” على مفاهيم مثيل: “المبادرة الحرة”، “التنافسية”، “التسليع”، “استرداد التكاليف”، “القطاع الخاص”، وهي مفاهيم نيوليبرالية تندرج في إطار التسليع الشامل لكل أوجه أنشطة الحياة الإنسانية وفي السعي للخلاص الفردي. ندافع عن منظور مغاير يقوم على الدفاع على الخدمة العمومية والطابع التشاركي لأوجه الأنشطة البشرية هذه ونزع طابعها السلعي (الصحة، التعليم، الطاقة، البنوك… إلخ). ندافع عن منظور نضال جماعي من أجل المصالح المشتركة لأغلبية الشعب وليس مصالح أقلية مغتنية ومتنفذة.
    طوال 20 سنة من وجودها، شكلت جمعية أطاك المغرب أداة نضال وتثقيف شعبي متجهة نحو الطبقات الكادحة التي تناضل ضد تحميلها تكاليف النمط التنموي الليبرالي المفروض، وكانت جزءا من المقاومات على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، وساهمت في بلورة بدائل شعبية جذرية. ونالت قسطها من مضايقات الدولة التي حرمتها لحدود الآن من حقها في تجديد وصل الإيداع القانوني، وتعرض عدد من مناضليها ومناضلاتها للقمع والاعتقال.
    ناضلت الجمعية منذ تأسيسها في سنة 2000 ضد الخيارات الليبرالية المنتهجة من طرف الدولة وضد وهم الانفتاح والانخراط في مسلسل العولمة، وحذرت من النتائج الكارثية لهكذا توجه على الغالبية العظمى من المواطنين.
    كما تدافع جمعيتنا عن بدائل تنموية وجب بناؤها من الأسفل، على نحو تشاركي مع المعنيين/ات المباشرين/ات، بدائل التنمية الحقيقية بالمنظور الشعبي تقوم على تلبية الحاجيات الأساسية للعيش الكريم للأغلبية، وبصورة تحترم الإمكانات التجديدية للموارد الطبيعية، وليس بالمنظور الرأسمالي القائم على الربح الخاص، بدائل لن تجد طريقها للتنفيذ دون وضع حد لنظام الاستحواذ على الثروات ببلادنا وإقرار نظام ديمقراطي مبني على مؤسسات تمثيلية تجسد طموحات الشعب وتضمن رقابته على قراره وثرواته وبيئته.
    ويمكن تركيز بعض من عناصر التنمية البديل بالمنظور الشعبي التي تدافع عنها جمعية أطاك المغرب فيما يلي:
    • إلغاء الديون العمومية الداخلية والخارجية. سيتيح إلغاء الديون العمومية توفير موارد مالية لسن سياسات عمومية تقوم على ضمان العيش اللائق ودعم مواد الاستهلاك الرئيسة وربط الأجور بضرورات الحياة، وتوفير السكن اللائق وخدمات عمومية مجانية وصون حقوق النساء. ومن أجل تعبئة واسعة ضد الديون وآثارها وإعداد الشروط الذاتية لرفع مطلب إلغاء الديون، وبناء على التجارب الدولية، تنادي الجمعية بتشكيل ائتلاف وطني من أجل تدقيق مواطني للدين العمومي. ويكمن دور تدقيق الدين العمومي في تحديد أقسامه، من دين كريه وغير مشروع وغير محتمل وغير قانوني، وذلك بهدف إلغائه دون قيد أو شرط. ويترافق التدقيق مع المطالبة بتعليق تسديد خدمة الدين وتجميد الفوائد.
    • إلغاء القروض الصغرى المتعلقة بالشرائح الكادحة وتلك المتعلقة بصغار الفلاحين.
    • تأميم ثم تشريك الأبناك وجعلها قطبا ماليا عموميا يمنح قروضا لاستثمارات ذات منفعة عامة وصالحة اجتماعيا وبيئيا بمعدلات فائدة صفر.
    • وضع حد لاتفاقيات التبادل الحر وفرض الرقابة على حركة الرساميل والسلع الدولية مع تحديد معايير فتح الحدود.
    • إنهاء نظام براءات الاختراع الخاص، وإرساء صناعة الأدوية تحت رقابة شعبية، ونظام للتلقيح عمومي مجاني وشامل.
    • تركيز الإنتاج الفلاحي على تلبية الحاجيات الأساس وليس على الصادرات: المطالبة بإقرار السيادة الغذائية كبديل قائم على الزراعة البيئية وإصلاح زراعي شامل.
    • إرساء العدالة الضريبية، أولا، عبر فرض ضرائب تصاعدية على الرأسمال، وعلى المعاملات المالية، وثروات الأسر الغنية، ومحاربة التهرب الضريبي. وثانيا، عبر تخفيف العبء الضريبي على الأجراء والفئات الشعبية.
    • ضد خصخصة الخدمات العمومية وضد منظمة التجارة العالمية، ومن أجل الحق في خدمات عمومية مجانية (التعليم، الصحة، إلخ).
    • وحدة الشعوب وتضامنها الأممي ضد مؤسسات الرأسمال الدولية، مالية وتجارية وسياسية، ومن أجل الحرية والسلم والكرامة والعدالة الاجتماعية والبيئية.
    تشكل هذه النقط جزءا من برنامج تغيير جذري شامل يحتاج إنجازه الى تعديل موازين القوى لصالح من هم في أسفل السلم الاجتماعي وتطور وعيهم. وتهدف أطاك المغرب، كجمعية تثقيف شعبي متجه نحو الفعل، الى المساهمة في تكثيف أدوات هذا التثقيف لمد المقهورين بأدوات تحليل الواقع وفهمه من أجل تغييره.
    المجلس الوطني
    05 شتنبر 2021

للتحميل: اضغط هنا

زر الذهاب إلى الأعلى