بعد أن اقتربت الطبعة الاولى من دراسة اطاك المغرب حول التعليم بعنوان: “سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب، منظورات من اجل تعليم ديموقراطي شعبي” من النفاذ ، حيث لم تعد مجموعات اطاك المغرب التي توزع الكتاب تتوفر إلا على نسخ قليلة (يمكن للقراء الاتصال بها لطلب ما تبقى من نسخ) وفي سياق اتساع النضالات ضد النموذج التعليمي المراد فرضه بالمغرب. ارتأى موقع اطاك نشر الدراسة على حلقات، لأجل المساهمة في تعميم الأفكار الواردة بالكتاب، وكذلك توسيع دائرة النقاش حول مضامينه، وحول السياسات العمومية في ميدان التعليم في أسسها ورهاناتها والبدائل الشعبية عنها. وننوه إلى أن المقدمة والفهرس والحلقة الاولى تم نشرهما سابقا على الموقع (للاطلاع عليهما على الرابط والحلقة الاولى على الرابط1
يضم الجزء الاول من الكتاب عرضا تاريخيا نقديا موجزا حول التعليم بالمغرب، وهو معنون ب “التعليم بالمغرب من تأسيس المدرسة العصرية إلى القانون الإطار– عرض تاريخي نقدي“
الحلقة الثانية :
- التعليم وأحلام الاستقلال الخادعة: انكشاف طبيعة الاستقلال تعليميا وتأجج المقاومة الطلابية والشعبية.
اعتمدت الحركة الوطنية في سياق الدعاية والتحريض المعاديان للاستعمار شعارات تفيد أن الاستقلال سيمكن من حل كل مشاكل المغرب، وبسرعة[1]، وكان شعار بناء تعليم وطني على قاعدة ” دولة الاستقلال” يضمن مقعدا في المدرسة لكل طفل في سن التمدرس ذا تأثير كبير على عموم المغاربة.
كان كل دخول مدرسي في السنوات الأولى من الاستقلال يسجل مرابطة الأسر المغربية أمام المدارس لغرض إلحاق أبنائهم بها. لقد فرض المغاربة على الحاكمين آنئذ إعادة إحياء لجنة إصلاح التعليم، التي كانت قد أسست إبان الحماية الفرنسية منتصف الاربعينات (في عهد المقيم العام اريك لابون) ولم تتقدم أشغالها وقتذاك. كما فرضت في الواقع اعتماد ما عرف بمبادئ إصلاح التعليم بالمغرب: التعميم والتوحيد والمغربة والتعريب. التي لم تكن إلا تسوية بين اتجاهات الأطراف الأساس بالبلد في تلك الفترة. لكن أحدا لم يتمكن من إنجاز أي مبدأ من مبادئ تلك التسوية، واستمرت الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية في اعتبارها أساس برنامجها في التعليم.
اضطرت حكومات السنوات الأولى للاستقلال للرفع من عدد المتمدرسين بلجوئها لوسائل متعددة لتدبير الندرة الشديدة في الأطر التعليمية وفي الفضاءات المدرسية. فقد استعملت المقرات التي تخلت عنها السلطات الاستعمارية وحولتها لمدارس بالإضافة لتلك الموجودة فعلا، على قلتها، كما استعملت إجراءً حاسما تمثل في اعتماد نظام التناوب ونصف حصة. ولمواجهة النقص الشديد في أطر التعليم التجأت لتوظيف كل من يحسن القراءة والكتابة كمعلمين، هكذا كانت هاته الخطوات تعكس تلك المبادئ في التعميم (فتح المجال لأوسع ما يمكن للولوج إلى المدرسة) والتعريب (توظيف عدد كبير من المدرسين الذين لا يمكنهم التدريس إلا باللغة العربية) والمغربة (جل المدرسين بالابتدائي الموظفين حديثا مغاربة) والتوحيد (دفع الأنواع الاخرى من التعليم إلى الهامش بفعل الإجراءات المتخذة في فتح المدرسة العمومية “العصرية”). إذن فبدافع من الضغط الشعبي الموضوعي، المجسد في إقبال مكثف على تسجيل الأبناء في المدارس، جرى اعتماد المبادئ الاربعة عمليا قبل أن يجري التوافق عليها نظريا في لجنة إصلاح التعليم. يتضح إذن أن اعتماد تلك المبادئ نظريا لم يكن يفصح عن سياسة “وطنية” ما في التعليم، بقدر ما كان انحناء أمام عاصفة الطلب الشعبي على التعليم. تلك العاصفة التي ستصطدم عاجلا بحدود السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سيعتمدها المنتصرون في الصراع على حكم البلد.
ما كانت نتائج هذا التوجه؟
ارتفعت أعداد التلاميذ المسجلين بمستويات التعليم الابتدائي من أقل من مئتي ألف سنة 1955 إلى 875620 خلال الدخول المدرسي للموسم الدراسي 61-62، وفي التعليم الثانوي من أقل من عشرين ألفا إلى 71300 مما مثل أكبر قفزة في عدد التلاميذ الوالجين للمدارس بالمغرب، حيث تضاعف أربع مرات في السنوات الأولى للاستقلال، ثم بدأ معدل الارتفاع ينخفض في السنوات اللاحقة إلى حدود الموسم الدراسي 66-67:
جدول رقم 3:
تطور اعداد التلاميذ بالمدارس العمومية بالمغرب بين 1961 و1966[2]
السنوات | الابتدائي | الثانوي |
61-62 | 875620 | 71300 |
62-63 | 939200 | 113636 |
63-64 | 1014828 | 139758 |
64-65 | 1025675 | 172483 |
65-66 | 1044606 | 210931 |
66-67 | 1013361 | 241730 |
استطاعت فئات البورجوازية الملتفة حول الحسن الثاني حسم السلطة في المغرب في وجه التطلعات الشعبوية ليسار الحركة الوطنية، والتي انعكست جزئيا في التصميم الخماسي الأول الذي فشل في تحقيق معظم تطلعاته. لقد سجلت سنة 1962 دخول البنك الدولي على خط صناعة السياسات العمومية بالمغرب، عن طريق قرضه الأول بتاريخ 20 دجنبر 1962 لمؤسسة البنك الوطني للتنمية الاقتصادية BNDE، وبعد ذلك توالت القروض وخاصة في مواجهة أزمة المالية العمومية الأولى لسنة 1964، ومعها بدأ التدخل في توجيه السياسات، التي كانت أقواها الدفع نحو التخلي عن كل طموح لتصنيع البلد، واعتماد الفلاحة كقطاع أساس لحفز التنمية واستئثارها بأضخم التمويلات العمومية والخاصة، الذي ترجمته قروض سنوات 64 و65 و66. ولمرافقة تنفيذ تلك السياسات كان من اللازم أن يكون التعليم أحد عجلاتها/ضحاياها. هكذا جرى استجلاب أول قرض مخصص لقطاع التعليم بتاريخ 21 أكتوبر 1965 بمبلغ 7,3 مليون دولار[3]. انطلق إذن مسلسل تنزيل السياسات الاقتصادية المرتكزة على اعتماد الإطار الليبرالي واستمرار التبعية للرأسمال الأجنبي، وعلى رفض كل تطلع نحو تصنيع البلد، انعكس ذلك في تبني المخطط الثلاثي 65-67، ومعه تعليميا جاء “مبدأ بنهيمة” في التعليم الذي جاء ليترجم منظور القسم المنتصر من الطبقات السائدة قوامه: تقليص ميزانية التعليم، أي تقليص عدد الوالجين للمدرسة، مع اقتراح سلكين في الابتدائي؛ واحد من ثلاث سنوات يكون إلزاميا تتكفل به الجماعات المحلية، وهو سلك معرب كليا، حيث ستلقن المواد العلمية باللغة العربية بدءً من سنة 1966، وآخر من أربع سنوات تتكفل به الدولة، والعمل على مغربة الأطر مع الإلحاح على التقريب بين البرامج العصرية والتقليدية وتشجيع التعليم الخاص، أي إعادة نفخ الروح في التعليم الأصيل (كان المخطط الخماسي الأول قد قرر دفعه للانقراض، لكن الملك قرر في نهاية الستينيات إعادة إحيائه وتوفير الدعم السخي له) وفتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في التعليم[4]. لقد بدأت رؤية الحاكمين في التعليم تنفذ قبل مجيء بنهيمة، حيث إن الإجراء التقشفي الذي قضى بتقليص أعداد المنتقلين للتعليم الثانوي، بتحديد سن ولوجه، قد اتخذ في عهد سلف بنهيمة في وزارة التربية الوطنية، يوسف بلعباس، وهو القرار الذي دفع التلاميذ والطلاب وجماهير المفقرين، الذي انتبهوا أخيرا إلى طبيعة الاستقلال الطبقية، إلى الانتفاض يوم 23 مارس 1965. لكن إن كان مبدأ بنهيمة لم يترجم كله في واقع السياسات التعليمية، لكنه وضع نقطة النهاية للحديث حول المبادئ الأربعة، وأضحى موجها لكل سياسات التعليم لما سيلي من سنين.
لقد عرفت سنوات النصف الثاني من الستينيات وبداية السبعينيات جمودا كبيرا في نسبة استفادة الأطفال المغاربة من التعليم، وأضحى الانتقال إلى التعليم الثانوي، أي الحصول على الشهادة الابتدائية، متعسرا على أكثر من ثلثي التلاميذ المتقدمين لامتحان نيل تلك الشهادة. بينما كان ثلثا الأطفال الذين في سن التمدرس لا يزالون خارج المدرسة. في حين يمكث المسجلون في الابتدائي حوالي عشر سنوات للحصول على الشهادة الابتدائية بدل خمس.
جدول رقم 4:
تطور أعداد التلاميذ بالمدارس العمومية بالمغرب بين 1967 و1972[5]
السنوات | الابتدائي | الثانوي |
67-68 | 1027000 | 267631 |
70-71 | 1175000 | 267000 |
72-73 | 1216000 | 304280 |
انكشفت إذن طبيعة الاستقلال بالمغرب، ولم يجد أغلب الأطفال المغاربة مقعدا في مدرسة هذا الاستقلال. وأصبح مجرد الحديث عن التعميم مرادفا لإدانة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، ومبررا قويا للنضال الشعبي، بعد أن كان أحد بديهيات الاستقلال. لم يكن نظام السيطرة الطبقية الذي جرى توطيده يرى في تعليم الطبقات الشعبية أولوية، بل رأى فيه خطرا شديدا،” قد يساهم في زرع بذور النقاش والتمرد في أذهان أضحت مهيئة لذلك”[6]. إن الطبقات السائدة لم ترد أن تجد تمويلا يفي لهدف تعميم التعليم وتوحيده، ونظامها الاقتصادي نفسه لا يستطيع ، وليس من مصلحته فتح أبواب المدارس أمام كل الأطفال والشباب. لقد جرى إرساء مدرسة للاستبداد، مدرسة يراد لها البقاء في حدود ما يريده من انتصر من الأسياد، وبالتأكيد مدرسة تتيح لمن تعلم فيها فقط أن يبقى وفيا للمالكين، أيا كانوا، ومطيعا لهم.
[1] لعل ابرز تلك الشعارات، والتي استمرت طويلا فيما بعد، هو الادعاء بان كل مغربي سينال مقدارا من المال من عائدات الفوسفاط.
[2] المعطيات مستخرجة من النشرات الإحصائية السنوية التي تصدر عن الجهة المكلفة بالإحصاء ( وزارة التخطيط – مديريات – مندوبية سامية) والتي تم تجميعها بالموقع الالكتروني للمندوبية السامية للتخطيط
[3] أنظر فتح الله ولعلو في:
ANNALES MAROCAINES D’ECONOMIE/BILAN Décennal du programme d’ajustement structurel et prspectives de l’économie marocaine. Actes du colloque international de l’A.E.M des 1,2,3 Octobre 1993. Page 201
[4] الحسن اللحية : تاريخ الإصلاحات التعليمية بالمغرب منذ 1956 إلى اليوم، منشور بانترنت.
[5] المعطيات مستخرجة من النشرات الإحصائية السنوية التي تصدر عن الجهة المكلفة بالإحصاء ( وزارة التخطيط – مديريات – مندوبية سامية) والتي جرى تجميعها بالموقع الالكتروني للمندوبية السامية للتخطيط
[6] نستعيد هنا مع تحويرطفيف تعبير العقيد الاستعماري جورج مارتي أحد منظري السياسة التعليمية الاستعمارية الاكثر وضوحا في طبقيتها.