المؤسسات المالية الدولية

هل يمكن إقناع البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي بالالتزام بحقوق الإنسان؟

هل يمكن إقناع البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي بالالتزام بحقوق الإنسان؟

يعتزم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عقد اجتماعاتهما السنوية بمراكش أيام 9 حتى 15 أكتوبر 2023. أطلقت تنظيمات مناضلة مبادرة لتنظيم قمة مضادة لتلك الاجتماعات، وأسست لذلك تنسيقا وطنيا، في تلاقِ مع مبادرات أخرى على المستوى القاري والدولي، حيث شُكِّل تنسيق إقليمي لتنظيم قمة مضادة. وفي نفس الوقت أُطلِقت مبادرة أخرى إحداها محلية وهي “المبادرة المدنية الموازية للاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدول”، والأخرى إقليمية سميت “مجموعة العمل لمراكش 2023 بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.

اعتبر التنسيقان الوطني والإقليمي للقمة المضادة البنكَ وصندوق النقد الدوليين “مؤسستين استعماريتين” وأداتين لفرض الدول الكبرى هيمنتها على الشعوب خاصة بـ”الجنوب العالمي”. في حين تعتقد المبادرات الموازية أن هناك إمكانية لإقناع المؤسسات المالية الدولية بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، وتعتبر الاجتماع السنوي لتلك المؤسسات فرصة لإيصال رأي حقيقي عن واقع الأزمة التي تعيش شعوب المنطقة تحت وطأتها ولتقدم شهادتها عن الآثار السلبية الخطيرة لعقود من الزمن من تطبيق الإملاءات التقشفية لهذه المؤسسات، وكأن هذه المؤسسات لا تدرك تلك الآثار.

إنهما منظوران متناقضان تماما:

1- القمة المضادة: ترى في تلك المؤسسات أداة هيمنة استعمارية وجب العمل من أجل “التصدي لها وتجاوزها” و”تشكيل نظام عالمي جديد أكثر عدلا”. وأعلنت التنسيق المغربي أن هدف القمة المضادة هو “خلق فضاء واسع للتفكير لمناقشة البدائل الممكنة عن سياسات التقويم الهيكلي وباقي السياسات النيوليبرالية وتجميع كل ضحايا السياسات الإجرامية لهاتين المؤسستين وإسماع صوتنا عاليا من خلال أنشطتنا ومن خلال تنظيم قمة مضادة لتلك المنظمة من قبل المسؤولين عن تلك السياسات، إننا نريد بناء تعبئة شعبية سلمية لنقول “لا” للتفقير والتقشف و”نعم” للعدالة الاجتماعية”.

2- المبادرات الموازية: ترى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي “مؤسسات ملزمة بتعزيز حقوق الإنسان” من خلال المساهمة في “المشاريع والسياسات التمويلية في التمتع الفعلي بحقوق الإنسان، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين وفقا للمعايير والقرارات الأممية ذات الصلة”، لذلك ترى هذه المبادرات نفسها معنية بـ”الانخراط الجدي والمسؤول في النقاش المباشر والصريح حول مختلف القضايا… وعلى رأسها مسؤولية الجهات الدائنة وحقوق الدولة المدينة”. وكل ذلك، حسب بلاغ للمبادرة المدنية الموازية، من أجل دفع المؤسستين “للتأكد من أن المشاريع والسياسات التي تمولانها لا تنتهك حقوق الإنسان”، وكأن المشكل هو جهل تلك المؤسستين بآثار سياساتهما، وليس اتجاها واعيا يخدم مصالح الشركات متعددة الجنسيات والقوى العظمى وحلفائها المحليين.

ليست هذه أول مرة يخترق “المجتمع المدني” هذان المنظوران للمؤسسات المالية الدولية. اخترق الحركةَ المناهضة للعولمة سؤال: هل نركز على إصلاح الثلاثي البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي/ منظمة التجارة العالمية، أم علينا التحرك لاستبدالها بغيرها؟

لا زال هذا السؤال مطروحا وهو أساس تعدد المبادرات من قمم مضادة تسعى للتحرك ضد تلك المؤسسات من أجل استبدالها، ومبادرات موازية تريد النقاش مع تلك المؤسسات كي تقوم بدورها الملزِم في تعزيز حقوق الإنسان. وسنقوم بدورنا بالاستمرار في ذلك النقاش، مستحضرين- ات أن قسما كبيرا من المنظمات أو الفعاليات المنخرطة في المبادرات الموازية إما ذات نية حسنة وتعتقد- أو تتوهم- إمكان إصلاح تلك المؤسسات، وإما أنها لا تدرك حقيقتها معتقدة أن دورها الأصلي هو تعزيز حقوق الإنسان، في حين أن العكس هو المُثبَت تاريخيا.

لماذا المغرب؟

لماذا بالضبط اختيار المغرب لعقد الاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين؟ يجيب البلاغ التشاوري التحضيري لقمة الحركات الاجتماعية المضادة للاجتماع السنوي: “ليس اختيار المغرب اعتباطيا، فقد تمكنت جميع حكوماته المتعاقبة من تنزيل السياسات الليبرالية التي تمليها هاتان المؤسستان لصالح كبار الرأسماليين الأجانب والمحليين على حساب الطبقات الشعبية”، ويضيف إلى ذلك واقع “التضييق على الحريات الديمقراطية الذي يتوسع بالمغرب والذي يعتبر كإحدى الأدوات لتمرير الإجراءات النيوليبرالية التي يمليها كل من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي”[1].

طيلة تاريخهما دعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الأنظمة الديكتاتورية والقمعية في تناقض حتى مع قرارات الأمم المتحدة التي اعترفت إحدى مؤسساتها، وهي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير لها سنة 1994، بذلك: “يبدو أن المانحين متعددي الأطراف (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) لم يعودوا يأبهون بمثل تلك الاعتبارات (الديمقراطية). وبالفعل، يبدو أنهم يفضلون الأنظمة التسلطية، ويعتبرون دون أن يرف لهم جفن أن تلك الأنظمة تدفع الاستقرار السياسي قُدما، بل إنها أكثر قدرة على إدارة الاقتصاد”[2].

وفي وجه حركة مناهضة للعولمة متصاعدة تمكنت من حشر الثلاثي في الزاوية وإفشال بعض اجتماعاتها (خاصة سياتل 1999 بالولايات المتحدة)، بلور هذا الثلاثي تكتيكا مزدوجا للتعامل مع تلك الحركة: 1) اللجوء إلى قمع تتزايد حدته وحملة قدح منهجي، يهدف لتشويه صورة المحتجين- ات (التشكيك في تمثيليتهم- هن وفي قدرتهم- هن على اقتراح بدائل؛ تجريم الحركة بالخلط بين غالبيتها العظمى وبين المجموعات الصغيرة العنيفة…) من جانب، 2) ومحاولة اكتساب جزء من الحركة، ولا سيما المنظمات غير الحكومية، بالدعوة لشكل من أشكال الحلف المقدس من جانب آخر[3].

في وجه هذه الحركات المناهضة فضل الثلاثي عقد اجتماعاته إما في مناطق نائية وفي أقل الأماكن إثارة للاحتجاج: 2002 في قرية منسية بكندا، 2003 في إيفيان بقرية تحيط بها بحيرة والجبال، 2004 في منتجع سياحي بكانكون المكسيك، وإما في دول عادمة للحريات مثل الدوحة بقطر سنة 2001، وحاليا بالمغرب 2023.

إن دعوة “مجموعة العمل لمراكش 2023 بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” البنك وصندوق النقد الدوليين بـ”التعهد بضمان الحماية الكافية ضد انتهاكات حقوق الإنسان على المنظمات والأفراد المشاركين في الاجتماعات السنوية وكافة اللقاءات الموازية”، يدخل ضمن باب إسقاط الأماني على الواقع، وفي نفس الوقت يُظهر حدود ديمقراطية هذه المبادرة، ما دامت تقصي مبادرات داعية لقمم مضادة من “الحماية الكافية ضذ انتهاكات حقوق الإنسان”.

لم يكن هذا خافيا على المبادرة المدنية الموازية التي ورد في بلاغ لها أنها “تؤمن إيمانا راسخا بأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يتحملان المسؤولية عن الكوارث الاجتماعية التي نمر بها، وتدهور مستويات المعيشة، ودعم الأنظمة الديكتاتورية والفاسدة التي تتحمل الديون دون استشارة السكان”. كيف يستقيم إذن الحديث عن “النقاش المباشر والصريح” مع البنك وصندوق النقد الدوليين، في حين يعتبران الديمقراطية عنصرا خطيرا يعيق تنفيذ برامجهما، وبالتالي تفضيلهما دعم الأنظمة التسلطية والديكتاتورية القادرة على إدارة الاقتصاد بمنظورهما. إن الحديث عن مبادرة موازية تعتمد أسلوب الحوار والنقاش المباشر مع المؤسستين، يعني القبول بالتكتيك الثاني: “اكتساب جزء من الحركة”، أي استقطاب المنظمات غير الحكومية وجمعيات المجتمع واستمالتها بكافة الأساليب من الإقناع/ الخداع إلى التمويلات الضخمة.

هل المؤسسات المالية الدولية ملزمة بتعزيز حقوق الإنسان؟

هذا ما ورد في بلاغ المبادرة الموازية: “انطلاقا من ارتباط قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية ارتباطًا وثيقًا بالتحديات الاقتصادية والمالية العالمية، وهو ما يجعل المؤسسات المالية الدولية كمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ملزمة بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في مختلف الدول التي تعمل فيها”[4]. سيكون الأمر صحيحا في حالة واحدة فقط: تصديق المبادرة المدنية الموازية لادعاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، في حين أن بلاغات هذه المبادرة مليئة بما يثبت العكس.

شخص بلاغ تأسيس المبادرة المدنية الموازية الواقع بشكل صحيح “النمو غير المستدام يتسبب بشكل رئيسي في هدر الموارد وتفاقم التفاوتات والعنف الاقتصادي والاجتماعي والجنساني، ويزيد من التدهور البيئي وتسارع التغيرات المناخية”، “سداد الديون يعتبر عقبة أساسية تعيق قدرة البلدان النامية على اتخاذ القرار والسيطرة على مواردها الطبيعية وإمكانياتها في توفير خدمات العيش الكريم لساكنتها، ما يشكل انتهاكًا صارخا للحق في التنمية”. وأشارت بلاغ “مجموعة مراكش” إلى المسؤولية المباشرة للمؤسسات التمويلية الكبرى: “حيث قام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بإعادة رسم السياسات الاقتصادية لبلدان المنطقة من خلال برامج الإصلاح الهيكلي أجبرت بسببه هذه الدول على تطبيق سياسات وصفات التكيف الهيكلي والسياسات النيوليبرالية القاسية”.

ومن أسباب تلك الكارثة التي وصفها بدقة بلاغ تأسيس المبادرة المدنية الموازية (إلى جانب المديونية والتقشف) اتفاقيات التبادل الحر. هل تخلى البنك الدولي عنها؟ لا. هذا ما أمر به البنكُ المغربَ سنة 2017: “التنفيذ العاجل والكامل لاتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل الطموحة مع الاتحاد الأوروبي”[5].

لكن هاتين المبادرتين لا تخلصان إلى استنتاجات منطقية من تلك المقدمات المنطقية. فما الذي يُلزم، إذن، بالضبط تلك المؤسسات بـ”تعزيز حقوق الإنسان” (المبادرة الموازية) و”مراجعة السياسات الاقتصادية التي أدت إلى تفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي واللامساواة” (مجموعة مراكس)؟ هل قوانينهما الداخلية ومبادئهما المؤسِّسة؟ أم خضوعهم لرقابة مؤسسة/ منظمة أخرى؟ هذا ما لا يجيب عنه بلاغ تأسيس المبادرة المدنية الموازية، وما سنحاول الإجابة عنه اعتمادا على السوابق التاريخية لهذه المؤسسات.

  • قانون داخلي استبدادي

أُنشِئت تلك المؤسسات منذ البداية لتأمين هيمنة العالم الرأسمالي (الولايات المتحدة الأمريكية أساسا) على العالم. في البداية، كانت حقوق تصويت الولايات المتحدة تعادل %36، لكنها أُنقصت على مراحل حتى %16.41. وفي العام 2003، كانت البلدان التسعة المصنعة الأكثر ثراء تسيطر على أكثر من %50 من حقوق التصويت. في حين لم تتعدَّ حقوق تصويت 45 بلدا أفريقيا مجتمعة %5.41 من الأصوات[6].

يستدعي إلزام تلك المؤسسات بـ”المساهمة في التمتع الفعلي بحقوق الإنسان، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين وفقا للمعايير والقرارات الأممية ذات الصلة”، كما ورد في بلاغ المبادرة المدنية الموازية، تعديلا في الميثاق التأسيسي ولحقوق التصويت التي تحتكرها البلدان المسؤولة عن وضع بلداننا الكارثي. لكن هذا مستحيل إذ يتطلب موافقة ثلاثة أخماس الأعضاء على الأقل و%85 من مجموع حصص التصويت. هذا يعني أن الولايات المتحدة، بحيازتها على %16.41 من الأصوات، حق نقض أي تغيير في وضع حقوق التصويت وتوزيعها[7].

لم تقتصر هيمنة الولايات المتحدة (والإمبرياليات الدائرة في فلكها) على حقوق التصويت داخل المؤسسات المالية الدولية، بل تعدتها لرفض إنشاء أي مؤسسة أخرى قد تقوض تلك الهيمنة. ففي مواجهة غياب خطة مارشال تعزز نموها، اقترحت البلدان النامية إنشاء هيئة جديدة للأمم المتحدة، على أساس نظام “دولة واحدة، صوت واحد” بهدف تسهيل تقديم القروض لصناعاتها: صندوق الأمم المتحدة الخاص للتنمية الاقتصادية. وقد عارضت البلدان الصناعية بشدة هذه الخطوة، وفرضت مقترحا مضادا، أقبرت المؤسسة الدولية للتنمية التابعة للبنك الدولي صندوق الأمم المتحدة للتنمية الاقتصادية[8].

ومن بين الأسباب وراء مطالبة البلدان النامية بوكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة لتمويل تنميتها مسألة حقوق التصويت. لقد أرادت وكالةً متخصصة تابعة للأمم المتحدة لضمان تطبيق قاعدة “دولة واحدة، صوت واحد”، في مقابل قاعدة التعداد المطبقة داخل البنك العالمي. وكان نفس السبب- لكن بالاتجاه المعاكس- وراء معارضة الولايات المتحدة وغيرها من القوى الكبرى الشرسة للاقتراح: خافت الدول الغنية القليلة العدد أن تصبح أقلية.

لا مجال إذن لإلزام البنك وصندوق النقد الدوليين بـ”تعزيز حقوق الإنسان في مختلف الدول”، ما دامت حقوق التصويت محتكَرة من طرف البلدان الإمبريالية التي تريد الحفاظ على هيمنتها على “مختلف الدول” المنتمية للجنوب العالمي، ولا مجال حتى لتعديل حصص التصويت تلك.

  • القرارات الأممية ذات الصلة

ماذا يتبقى إذن لإلزام تلك المؤسسات؟ ورد في بلاغ تأسيس المبادرة المدنية الموازية الموازية أن تلك المؤسسات ملزمة بالمساهمة في “التمتع الفعلي بحقوق الإنسان… وفقا للمعايير والقرارات الأممية ذات الصلة”. وفي بلاغ آخر لنفس المبادرة ورد: “من الأهمية بمكان أن نتحرك لممارسة الضغط على المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لاحترام حقوق الإنسان والالتزام بقرارات الأمم المتحدة في هذا الصدد”.

وما يجعل هذا مغريا هو أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مؤسستان متخصصتان تابعتان للأمم المتحدة، مبدئيا مثل منظمة العمل الدولية أو منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة. وعلى هذا النحو، من المفترض أن تتعاونا بشكل وثيق مع هيئات الأمم المتحدة والمؤسسات المتخصصة الأخرى لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

فهل تستطيع الأمم المتحدة وقراراتها الأممية إلزام البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي بذلك؟ مرة أخرى السوابق التاريخية أصدق الشواهد.

منذ بدايتهما، حاول البنك العالمي وصندوق النقد الدولي التخلص إلى حد كبير من الالتزامات التي تربط المؤسسات الأعضاء في منظومة الأمم المتحدة. في حالة البنك الدولي، وفي حين كان ينبغي أن يقود بعثته في مجال المساعدات الإنمائية السعي إلى تحقيق تقارب مع الأمم المتحدة، فقد تمكن مديروه باستمرار من وضع البنك خارج نطاق سلطة الأمم المتحدة[9].

شهدت البدايات مفاوضات صعبة بين الأمم المتحدة من جهة، وبين البنك وصندوق النقد الدولي (الولايات المتحدة في الواقع) من جهة أخرى. أعلنت النرويج سنة 1947 أنه لا يمكن التسامح مع مثل هذه الامتيازات الممنوحة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأنها ستقوض سلطة الأمم المتحدة. وقد رد مندوب الولايات المتحدة بأنه لن يؤدي أي شيء إلى تقويض سلطة الأمم المتحدة أكثر من عدم التوصل إلى اتفاق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي[10].

في الأخير صادقت الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 على وضع البنك كوكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، ولكن، بناء على طلب البنك، سمحت له بالعمل كـ”منظمة دولية مستقلة”.[11]

أما عن “القرارات الأممية ذات الصلة”، فقد وضعت هذه الأخيرة سياسات البنك وصندوق النقد الدولي موضع المسؤول عن أوضاع بلدان الجنوب، خاصة برامج التقويم الهيكلي. تبنت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مرارا وتكرارا قرارات تتعلق بمشكلة الدين والتكييف الهيكلي. وهي تذكر في قرار تبنته في العام 1999 ما يلي: “لا يسمح تطبيق برامج التكييف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي التي ولدها الدَّين لسكان البلدان المدينة بالتمتع بحقوقهم الأساسية في الغذاء والسكن والملبس والعمل والتعليم والرعاية الصحية والبيئة المعافاة”[12]. ورغم ذلك لم تتخلَّ المؤسستان الماليتان عن التقويم الهيكلي، ولا زالت الاشتراطات مفرطة الليبرالية جارية منذ بداية الثمانينيات حتى الآن.

ففي ما يخص علاقة تلك البرامج بالحقوق الإنسانية أثبت تقرير مقدم إلى لجنة حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة سنة 2000 ما يلي: “منذ ما يقرب من 20 عاما، لعبت المؤسسات المالية الدولية وحكومات الدول الدائنة لعبة غامضة ومدمرة متمثلة بالتوجيه عن بعد لاقتصادات العالم الثالث وفرض سياسات اقتصادية غير شعبية على بلدان عاجزة… بعد عقدين من الزمن، أصبح الوضع ببلدان عديدة، أسوأ مما كان عليه عندما بدأت تنفيذ برامج التقويم الهيكلي… لقد كانت لهذه البرامج التقشفية الصارمة تكلفة اجتماعية وبيئية كبيرة، وانخفض في بلدان عدة مؤشر التنمية البشرية بشكل حاد”[13].

الخلاصة: لا القوانين الداخلية ولا القرارات الأممية ذات الصلة قادرة على إلزام البنك وصندوق النقد الدوليين على المساهمة في “تعزيز حقوق الإنسان”. فهل تستطيع المبادرة المدنية الموازية ذلك؟ هل يستطيع “الانخراط الجاد والمسؤول في النقاش المباشر” ذلك؟ الجواب: لا. أبدا.

ما الذي يتبقى إذن كي يلزمهما بذلك: المنظمات غير الحكومية والحركة النقابية. ما موقف البنك وصندوق النقد الدولي من هذه الإطارات؟ وهل تستطيع إلزامهما بـ”تعزيز حقوق الإنسان”؟

البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي والمنظمات غير الحكومية

بعد انكشاف كارثية وصفات المؤسستين التقشفية تصدعت شرعية البنك وصندوق النقد الدولي، اللذين اكتسبا في سنوات 1980، بأعين شعوب البلدان النامية سمعة سيئة مبررة تماما، لا يُحسدان عليها، لكونهما مسؤولان عن إجراءات لاشعبية مفروضة على الحكومات، وباختصار تلك الإجراءات التي أحدثت السوء للفقراء. ثم بدأت عملية تواصلية كبرى في تسعينيات القرن العشرين لمواجهة أزمة شرعية جدية، مستحقة تماما، التي تطال (ولا تزال) صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكانت إحدى كلمات السر لاستعادة تلك الشرعية: المنظمات غير الحكومية.

كتب تقرير لصندوق النقد الدولي حول الموضوع: “يستخدم الصندوق التواصل كأداة استراتيجية للمساعدة في تعزيز فعاليته. وشكلت المشاركة الاستراتيجية في العمل باستخدام التكنولوجيات المتاحة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي والفيديوهات والمدونات وملفات البث الاليكتروني الصوتي، جزءا متزايد الأهمية من استراتيجية التواصل في الصندوق. وفي الوقت نفسه، لا يزال الصندوق يسعى إلى الوصول إلى مجموعة من قنوات التواصل في عالم اليوم الذي يشهد تغيرات سريعة، ومنها منظمات المجتمع المدني وشبكات القطاع الخاص”[14].

لعب البنك/ صندوق النقد الدولي دورا كبيرا في استيعاب جزء مهم من المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية من خلال التعاون معها عبر برامج تستهدف السكان الأكثر فقرا. وطبعا استعمل الصندوق آليته الدعائية/ الأيديولوجية الجبارة لإقناع قسم كبير من تلك المنظمات بأن المشكل ليس في برامجه التقشفية وتحكمه في القرار الاقتصادي داخل بلدان الجنوب العالمي، وإنما في غياب “الحكامة الرشيدة”: “أطر الحوكمة الضعيفة التي غالبا ما ساهمت في تيسير الفساد”، ويدعو إلى “تحسين آليات الحوكمة والتكيف مع الصدمات الخارجية، وتحسين آليات الحوكمة ومناخ الأعمال لجذب استثمارات جديدة”[15]. كما استعمال آلية التمويل لاستقطاب قسم آخر من تلك المنظمات.

إن الحديث عن “الانخراط الجاد والمسؤول في النقاش المباشر” عبر مبادرة موازية للاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدولي يدخل في إطار استيعاب هاتين المؤسستين لمنظمات المجتمع المدني، وجعلها أداة لتلميع صورتهما الملطَّخة في أعين الشعوب. وبدل أن تكون مبادرات موازية إيصال صوت الشعوب، تتحول إلى أبواق لترويج منظورات البنك/ صندوق النقد الدولي.

بهكذا نهج تساهم المبادرات المدنية الموازية في عرقلة ولادة الجديد وإطالة أمد وفاة القديم، وبالتالي تجميل وجه “الوحوش” التي تظهر بين الظاهرتين، وهي مقولة لغرامشي استعارها بلاغ للمبادرة المدنية الموازية.

ماذا تفعل النقابات داخل المبادرة الموازية؟

وردت أسماء الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغل… ضمن اللائحة الأولية للمنظمات المشاركة في المبادرة الموازية.

تمثل النقابات وتدافع عن حقوق ومصالح قسم مهم من الشعب الكادح: طبقة الأجراء- ات. يعرف الجميع آثار سياسات البنك وصندوق النقد الدولي على الطبقة العاملة: فرض المرونة على قوانين الشغل، تقليص كتلة الأجور، تفكيك القطاع العام وخوصصته وما تؤدي إليه من تسريحات… إلخ. وهي كلها أمور أثنى عليها البنك الدولي في تقريره سنة 2017: “تم إطلاق إصلاحات طموحة وتبني قوانين جديدة لفتح الاقتصاد تدريجيا، وبغية خصخصة بعض المؤسسات العمومية…”[16].

سبق للاتحاد المغربي للشغل أن عقد لقاء مع صندوق النقد الدولي بتاريخ 18 يونيو 2022، وفي هذا اللقاء أكد الأمين العام للاتحاد على العواقب الوخيمة لمقاربة صندوق النقد الدولي وتوجيهاته للدول على الفئات الهشة وعلى رأسها الطبقة العاملة، وذلك بتفكيك تشريعات العمل والمرفق العمومي وتشجيع المرونة في عالم الشغل[17].

يعرف الجميع أيضا موقف البنك وصندوق النقد الدولي من النقابة والعمل النقابي. تعتبر الأيديولوجية النيوليبرالية التي يعتنقها البنك: الصندوق الحركة النقابة “أداةً مستبدة” أنشأتها “قطاعات صاحبة امتياز من السكان وظائفها ذات أجر مرتفع ضد أولئك الذين يريدون وحسب قبول ما يعرض عليهم من وظائف”[18]، وكان هذا رأي أحد آباء العقيدة النيوليبرالية (فريديريك فون هايك) منذ سنة 1944. وبعد خمسين عاما أعلن البنك الدولي نفس الموقف في تقرير له صدره سنة 1995 تحت عنوان: “العمال في عالم يزداد تكاملا”، حيث اعتبر النقابات مؤسسات احتكارية تضطهد باقي المجتمع لصالح أعضائها: “تتصرف النقابات في أغلب الأحيان كمؤسسات احتكارية تقوم بتحسين الأجور وأحوال العمل لأعضائها على حساب أصحاب رأس المال، والمستهلِكين والعمال غير النقابيين (غير المنظمين)”[19].

وإذ صنف البنك الدولي هذا “السوك الاحتكاري” ضمن الآثار السلبية النقابية، فإنه تغنى بآثارها الإيجابية مثل “مساهمة النقابة في تحسين الإنتاجية”.

ومن الآثار السلبية للحركة النقابية حسب البنك الدولي، ما أسماه “معارضة الإصلاح”: “استخدمت نقابات العمال في بعض الأحيان قوتها السياسية لمعارضة إجراء التصحيح الهيكلي [التقويم الهيكلي]”، وقدم نصائح لصانعي القرار كي يتمكنوا من “خلق بيئة تقلل من الآثار السلبية التي قد تترتب على نشاط النقابات”[20].

ومع ذلك، يلح صندوق النقد الدولي على اعتبار الحركة النقابية طرفا يجب “التشاور” معها من أجل إضفاء المصداقية على سياساته المدمرة لحقوق العمال[21]. وقد أكد ذلك الحرصَ وفدُ صندوق النقد الدولي المجتمع مع الأمانة العامة للاتحاد المغربي بالتأكيد على “الأهمية التي يليها الصندوق للمشاورات السنوية التي يعقدها مع الاتحاد المغربي للشغل”[22].

كيف ستساهم إذن النقابات داخل مبادرة موازية عبر “الانخراط الجاد والمسؤول في النقاش المباشر” في “إقناع” البنك وصندوق النقد الدوليين كي يلتزما بـ”تعزيز حقوق الإنسان”، إذا كان البنكان يملكان رؤية معادية كليا لنقابات النضال ومناصرين لنقابات تحسين الإنتاجية.

من أجل التقاء نضالي مضاد لمؤسسات الاستعمار الجديد

أثبت تاريخ البنك وصندوق النقد الدولي أنهما ذراعان للقوى الكبرى المسيطرة على العالم ولشركاتها متعددة القومية، كما أثبت ذلك التاريخ أيضا استحالة إصلاحهما.

لا مجال لـ”الانخراط الجاد والمسؤول في النقاش المباشر” مع مؤسستين استعماريتين لا تخفي برامجهما وإملاءاتهما أنهما منخرطتان في تكريس المصالح الاقتصادية والسياسية للقوى الاستعمارية/ الإمبريالية.

يستدعي الأمر منظورا ليس بجديد، بل هو إرث مشترك لكل حركات النضال عبر العالم: الحركة المناهضة للعولمة، الحركة المناهضة للحرب، الحركة النسائية ضد الفقر والعنف، الحركات النقابية والبيئية… إلخ. وفي تضاد مع النموذج الرأسمالي المعادي للعمال- ات وصغار المنتجين- ات والمدمر للبيئة، علينا الالتقاء على برنامج نضال غايته نمط آخر من التنمية مخالف لذلك المفروض من طرف الثلاثي (بنك وصندوق ومنظمة تجارة عالمية). ولن يتأتى هذا بالنقاش المباشر مع هذه المؤسسات، ولا بالسعي الواهم لإصلاحها المستحيل، بل بالنضال من أجل إلغائها.

إن قدوم المؤسستين إلى المغرب لعقد اجتماعاتهما السنوية فرصة للاحتجاج ضدها ونسج روابط النضال من أجل قطيعة شعبية/ عمالية مع سياستهما الاقتصادية المدمرة، وليس فرصة للنقاش المباشر معها. لنعمل جميعا على إنجاح التحدي الذي أطلقه الاجتماع التشاوري التحضيري لقمة الحركات الاجتماعية المضادة للاجتماع السنوي للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي: “توسيع هذه المبادرة التحضيرية الجماعية للقمة المضادة بمراكش لتشمل جميع مكونات المجتمع المدني على صعيد المغرب. ويناشدون جميع المنظمات والجمعيات والتنسيقيات والحركات والأكاديميين والأفراد للالتحاق بهذه المبادرة لتشكيل ائتلاف مغربي كبير يكون في حجم الرهان الذي يستدعيه إنجاح هذه المحطة ضد البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، واستقبال سيرورة التحضير للقمة المضادة الجارية على المستوى العالمي والافريقي والإقليمي”[23].

علي أموزاي


[1]https://shorturl.at/imqtD.

[2] – “المال ضد الشعوب، البورصة أو الحياة”، إيريك توسان، ترجمة عماد شيحة ورندة بعث، ص 234.

[3]– المرجع نفسه، ص 481.

[4]https://shorturl.at/txBKY.

[5] – “المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”، جان بيير شوفور، مجموعة البنك الدولي، 2017.

[6] – “البورصة أو الحياة”، ص 222.

[7] – المرجع نفسه، ص 222.

[8] – “البنك العالمي، تاريخ نقدي”، إريك توسان، ترجمة أطاك المغرب عضو لجنة إلغاء الديون غير الشرعية، أبريل 2022، ص 86.

[9] – المرجع نفسه، ص 86.

[10] – المرجع نفسه. ص 88.

[11]– المرجع نفسه، ص 88.

[12] – “البورصة أو الحياة”، ص 452

[13] – “البنك العالمي، تاريخ نقدي”، ص 467- 468.

[14] – “بناء مستقبل مشترك”، التقرير السنوي لصندوق النقد الدولي 2018، ص 87- 88.

[15] – “البنك العالمي، تاريخ نقدي”، ص .91

[16] – “المغرب في أفق 2040”.

[17] – 18- 06- 2022، موقع الاتحاد المغربي للشغل: https://shorturl.at/iCT09.

[18] – البورصة أو الحياة، ص 306.

[19] – “تقرير عن التنمية في العالم 1995، العمال في عالم يزداد تكاملا”، البنك الدولي، ص 115.

[20] – المرجع نفسه، ص 116.

[21] – “بناء مستقبل مشترك”، التقرير السنوي لصندوق النقد الدولي 2018، ص 31.

[22] – موقع الاتحاد المغربي للشغل.

[23]https://shorturl.at/fsHXZ.

زر الذهاب إلى الأعلى