كتب وكراريس

مقدمة ترجمة أطاك المغرب لكتاب “طغيان البنك العالمي” لإيريك توسان

مقدمة ترجمة أطاك المغرب لكتاب “طغيان البنك العالمي” لإيريك توسان

مقدمة

طغيان البنك العالمي

إن قائمة الحكومات الناتجة عن الانقلابات العسكرية المدعومة من البنك العالمي مذهلة. نذكر ضمن أبرز الأمثلة الشهيرة دكتاتورية الشاه في إيران بعد إطاحة رئيس الوزراء مصدق في العام 1953، والديكتاتورية العسكرية في غواتيمالا التي أقامتها الولايات المتحدة بعد إطاحة الرئيس جاكوبو أربينز المنتخب ديمقراطيا في العام 1954، ودوفالييه في هايتي من عام 1957، والجنرال بارك تشونج هي في كوريا الجنوبية من عام 1961، ودكتاتورية الجنرالات البرازيليين منذ العام 1964، وموبوتو في الكونغو وسوهارتو في إندونيسيا منذ العام 1965، و ديكتاتورية قادة جيش التايلاند منذ العام 1966، وعيدي أمين دادا في أوغندا والجنرال هوجو بانزر في بوليفيا عام 1971، وفرديناند ماركوس في الفلبين منذ عام 1972، وأوغستو بينوشيه في تشيلي، وجنرالات أورغايان وهابياريمانا في رواندا منذ عام 1973، والطغمة العسكرية في الأرجنتين منذ عام 1976، ونظام أراب موي في كينيا منذ عام 1978، والديكتاتورية في باكستان منذ عام 1978، وانقلاب صدام حسين في عام 1979 والدكتاتورية العسكرية التركية منذ العام 1980.

ونشير أيضا، من بين طغاة آخرين دعمهم البنك العالمي، إلى سوموزا في نيكاراغوا وتشاوشيسكو في رومانيا. ولا يزال بعضهم في السلطة اليوم: النظام الديكتاتوري في الصين، وديكتاتورية ديبي في تشاد، وبن علي في تونس، ومشرف في باكستان، من بين آخرين كُثر. يجب أن نتذكر أيضا مساندة أنظمة مستبدة في أوروبا: الجنرال فرانكو في إسبانيا والجنرال سالازار في البرتغال.[1]

بجلاء فائق دعم البنك العالمي بشكل منهجي أنظمة مستبدة سواء ناتجة عن انقلابات عسكرية أو غيرها، تنفذ سياسات ضد التطلعات الاجتماعية وترتكب جرائم ضد الإنسانية. وأبان البنك عن انتهاك تام للمعايير الدستورية لبعض دوله الأعضاء. لم يتردد قط في دعم انقلابيين عسكريين ومجرمين طيعين اقتصاديا بوجه حكومات ديمقراطية. وهذا لسبب بديهي: فهو يعتبر احترام الحقوق الإنسانية (نفضل هذا التعبير على «حقوق الإنسان») خارج مهمته.

ويجب عدم نسيان دعمه لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من عام 1951 حتى عام 1968. لقد رفض البنك العالمي صراحة تنفيذ قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1964، يلزم كل وكالات الأمم المتحدة بوقف دعمها المالي لجنوب أفريقيا لأنها تنتهك ميثاق الأمم المتحدة. يجب ألا يظل هذا الدعم وما يترتب عنه من انتهاك للقانون الدولي بلا عقاب.

أخيراً، كما يُظهر هذا الكتاب، منح البنك العالمي بانتظام، في سنوات 1950 و1960، قروضاً للقوى الاستعمارية ولمستعمراتها من أجل مشاريع تتيح زيادة استغلال الموارد الطبيعية والشعوب لصالح الطبقات الحاكمة في المراكز الامبريالية. في هذا السياق، رفض البنك العالمي تطبيق قرار للأمم المتحدة متبنى عام 1965 يدعوه إلى الامتناع عن دعم البرتغال ماليا و تقنيا طالما لم يتخل عن سياسته الاستعمارية.

وفي ما بعد، جرى فرض الديون، التي تعاقدت عليها المستعمرات البلجيكية والبريطانية والفرنسية مع البنك العالمي بقرار من السلطة الاستعمارية، على البلدان الجديدة لحظة استقلالها.

يكتسي دعم البنك العالمي للأنظمة الديكتاتورية شكل مساعدة مالية وكذا مساندة فنية واقتصادية. و أمكن بفضل هذا الدعم لتلك الأنظمة أن تبقى في السلطة وترتكب المزيد من الجرائم. كما أسهم البنك العالمي في عدم عزل هذه الأنظمة في الساحة الدولية لأن تلك القروض والمساعدات الفنية سهلت دوما العلاقات مع البنوك الخاصة والشركات متعددة الجنسية. وفرض النموذج النيوليبرالي نفسه تدريجياً على نطاق عالمي منذ ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي عام 1973 وفيرديناند ماركوس في الفلبين عام 1972. وقد حظي هذان النظامان بدعم نشط من البنك العالمي. وعندما سقطت هكذا أنظمة مستبدة أجبر البنك العالمي بشكل منهجي الأنظمة الديمقراطية التي أعقبتها على سداد الديون التي تعاقد عليها سابقوها. باختصار، تحول دعم البنك العالمي المالي المتواطئ للديكتاتوريات إلى عبء على الشعوب. بات على هذه الأخيرة اليوم أن تدفع ثمن الأسلحة التي اشتراها الطغاة لقمعها.

انهار عدد كبير من الديكتاتوريات، في سنوات 1980 و1990، بعضها بضربة قوية من حركات ديمقراطية. وغالبا ما قبلت الأنظمة التي أعقبتها السياسات التي أوصى بها أو فرضها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي واستمرت في سداد ديون رغم طابعها الكريه. بعد فرضه من قبل الأنظمة الديكتاتورية، تم الحفاظ على النموذج النيوليبرالي بفعل عبء الديون والتقويم الهيكلي الدائم. في الواقع، منذ الإطاحة بالدكتاتوريات أو انهيارها، قامت الحكومات الديمقراطية بتنفيذ سياسات في قطيعة مع المحاولات الرامية إلى وضع نموذج إنمائي مستقل جزئيا. عموما، استتبعت المرحلة الجديدة للعولمة، المبتدئة في الثمانينيات لحظة تفجر أزمة الديون، زيادة خضوع البلدان النامية (بلدان المحيط) للبلدان الصناعية (بلدان المركز).

أجندة إجماع واشنطن الخفية

منذ انطلاق أنشطة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، أتاحت آلية فهمها بسيط وإرساؤها معقد في الآن ذاته إخضاع قراراتهما الرئيسية لتَوجُّهات حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. أمكن أحيانا لبعض الحكومات الأوروبية (بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا بشكل خاص) أو اليابان أن تُبدي رأيها، لكن الحالات نادرة. حدثت أحيانا خلافات بين البيت الأبيض وقادة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ولكن تحليلا تاريخيا دقيقا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يُظهر أن حكومة الولايات المتحدة قد فرضت دائما بالفعل وجهة نظرها في المجالات التي تهمها مباشرة.

تهدف الأجندة الخفية لإجماع واشنطن إلى الحفاظ على زعامة الولايات المتحدة عالميا وتحرير الرأسمالية من القيود المفروضة عليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. نتجت هذه القيود عن تحركات اجتماعية قوية ببلدان الجنوب كما بلدان الشمال، وعن بداية تحرر بعض الشعوب المستعمَرة، وعن محاولات خروج من الرأسمالية. كما ينطوي إجماع واشنطن على تكثيف النموذج الإنتاجوي.

عزز البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، في العقود الأخيرة، وفقًا لإجماع واشنطن، وسائل ضغطهما على بلدان كثيرة بالاستفادة من الوضع الناجم عن أزمة الديون. قام البنك العالمي بتطوير فروعه (مؤسسة التمويل الدولية، وكالة ضمان الاستثمار متعدد الأطراف ، المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار )، وذلك لنسج شبكة تكون عُقدها مشدودة بإحكام متزايد.

على سبيل المثال، يمنح البنك العالمي قرضاً بشرط خصخصة منظومة التوزيع والصرف الصحي. ونتيجة لذلك، تُباع الشركة العمومية لاتحاد شركات خاص، نجد ضمنه، كأن الأمر صدفة، مؤسسة التمويل الدولية، أحد فروع البنك العالمي.

وعندما يتمرد السكان المتضررون من هذه الخصخصة ضد الزيادة الحادة في الأسعار وضد تردي جودة الخدمات، وتنقلب السلطات ضد الشركة متعددة الجنسيات النَّهَّابَةُ، تُسند تسوية النزاع إلى المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار، قاضيا وطرفا معا.

وهكذا نصل إلى وضع تسيطر فيه مجموعة البنك العالمي على جميع المستويات: 1) تنفيذ عمليات الخصخصة وتمويلها (البنك العالمي)؛ 2) الاستثمار في الشركة المخصخصة (مؤسسة التمويل الدولية)؛ 3) ضمان هذه الشركة (وكالة ضمان الاستثمار متعدد الأطراف)؛ 4) تسوية المنازعات (المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار).

هذا بالضبط ما حدث في إل ألتو El Alto  ببوليفيا في الفترة 2004-2005.

كما أن التعاون بين البنك العالمي وصندوق النقد الدولي أمر أساسي لممارسة أقصى ضغط على السلطات العمومية. وبقصد إتمام إخضاع المجال العام والسلطات، ومن أجل زيادة تعميم النموذج النيوليبرالي، يمتدُّ تعاون هاتين المؤسستين إلى منظمة التجارة العالمية منذ تأسيسها عام 1995.

ويمثل هذا التعاون الأوثق بشكل متزايد بين البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية جزءا من أجندة إجماع واشنطن. وإن فرقا جوهريا يفصل أجندة إجماع واشنطن المعلنة عن نسختها المخفية.

تروم الأجندة المعلنة تقليص الفقر بالنمو الاقتصادي، وحرية عمل قوى السوق، والتبادل الحر وأخف تدخل للسلطات العمومية. وتهدف الأجندة الخفية، المطبقة في الواقع، إلى إخضاع المجالين العام والخاص لكل المجتمعات الإنسانية لمنطق السعي إلى أقصى قدر من الأرباح في إطار الرأسمالية. ويؤدي تنفيذ هذه الأجندة الخفية إلى إعادة إنتاج الفقر (لا تقليصه) وزيادة صنوف التفاوت. ويفضي إلى ركود أو حتى تدهور شروط حياة غالبية سكان العالم، إلى جانب تركُّز متعاظم للثروة. كما يستتبع استمرار تدهور التوازنات البيئية، ما يُعرّض مستقبل البشرية ذاته للخطر.

تتمثل إحدى مفارقات الأجندة الخفية العديدة في قيام الحكومات المتحالفة مع الشركات متعددة الجنسية، باسم إنهاء دكتاتورية الدولة وتحرير قوى السوق، باستعمال إكراه مؤسسات عمومية متعددة الأطراف (البنك العالمي-صندوق النقد الدولي-منظمة التجارة العالمية) لفرض نموذجها على الشعوب.

القطيعة كمخرج

لهذه الأسباب يلزم القطع جذريا مع إجماع واشنطن ومع النموذج الذي فرضه البنك العالمي.

يجب ألا يُفهم إجماع واشنطن على أنه آلية سلطة ومشروع يقتصران على حكومة واشنطن المحصنة بثالوثها الجهنمي؛ البنك العالمي-صندوق النقد الدولي-منظمة التجارة العالمية. فاللجنة الأوروبية، ومعظم حكومات أوربا، والحكومة اليابانية تتبنى إجماع واشنطن وتترجمه إلى لغاتها الخاصة، ومشاريعها الدستورية، وبرامجها السياسية.

إذا اقتصر القطع مع «إجماع واشنطن» على إنهاء الزعامة الأمريكية التي يدعمها ثالوث البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، فلن يكون بديلاً لأن القوى العالمية الكبرى الأخرى مستعدة لمواصلة دور الولايات المتحدة الأمريكية نحو أهداف مماثلة. لنتخيل أن الاتحاد الأوروبي حل مكان الولايات المتحدة في زعامة العالم، لن يُحسّن الأمر جوهريا وضع شعوب الكوكب لأنه يمثل مجرد استبدال قطب رأسمالي من الشمال بآخر (أحد أقطاب الثالوث). ولنتخيل إمكانا آخر: تشكيل قطب من الصين – البرازيل – الهند – جنوب أفريقيا – روسيا يأخذ مكان دول الثالوث. إذا كان هذا القطب محكوما بمنطق الحكومات القائمة الراهن وبالنظام الاقتصادي الذي ينظمها، فلن يكون هناك أيضا أي تحسن حقيقي.

يجب الاستعاضة عن إجماع واشنطن بإجماع للشعوب قائم على رفض الرأسمالية.

يجب الطعن جذريا في مفهوم التنمية وثيق الارتباط بالنموذج الإنتاجوي. إذ يستبعد نموذج التنمية هذا حماية المزروعات وتنوعها؛ ويستنزف الموارد الطبيعية ويُدمر البيئة بكيفية لا رجعة فيها. وينظر هذا النموذج إلى تعزيز الحقوق الإنسانية كهدف طويل الأمد (والحال أننا سنكون جميعا موتى على المدى الطويل)؛ وغالبا ما يعتبر تعزيز الحقوق الإنسانية عقبة أمام النمو؛ ويرى هذا النموذج  في المساواة عائقا أو حتى خطرا.

تحطيم دوامة  الديون الجهنمية

لقد ثبت فشل تحسين ظروف معيشة الناس بواسطة المديونية العمومية. يدعي البنك العالمي أن تنمية البلدان النامية[2] تستدعي لجوءها للديون الخارجية وجذب الاستثمارات الأجنبية. وتستخدم هذه الاستدانة أساسا لشراء التجهيزات وسلع الاستهلاك من البلدان الصناعية. وتدل الوقائع، يوما بعد يوم، على مدى عقود، أن ذلك لا يفضي إلى التنمية.

وفقًا للنظرية الاقتصادية السائدة، يُعزى تأخر تنمية الجنوب إلى نقص رؤوس الأموال المحلية (نقص الادخار المحلي). ودائما حسب النظرية الاقتصادية المهيمنة، يتعين على البلدان الراغبة في الشروع في تنميتها أو تسريعها أن تلجأ للرساميل الخارجية عبر ثلاث طرق: أولا، الاستدانة الخارجية. ثانيا، جذب الاستثمارات الأجنبية؛ ثالثاً، زيادة الصادرات للحصول على العملة الصعبة الضرورية لشراء السلع الأجنبية التي تتيح مواصلة نموها. والمقصود أيضا بالنسبة للبلدان الأفقر جذب هبات بالتصرف كتلاميذ نجباء للبلدان المتقدمة.

يدحض الواقع هذه النظرية، فالبلدان النامية هي من يزود البلدان الصناعية بالرساميل، وبوجه خاص الاقتصاد الأمريكي. حتى أن البنك العالمي يعترف بذلك بقول: «إن البلدان النامية، بمجملها، مُقرضة صافية للبلدان المتقدمة»[3]. في الفترة 2004-2005، أدى تضافر انخفاض أسعار الفائدة إلى حد ما، وتناقص أقساط المخاطر وارتفاع أسعار المواد الخام، إلى زيادة قوية لاحتياطيات الصرف في البلدان النامية. بلغت هذه الأخيرة عام 2004 زهاء 1600 مليار دولار[4]، وهو مبلغ غير مسبوق يفوق مجموع الديون الخارجية العمومية للبلدان النامية كلها! وبإضافة الرساميل التي أودعها رأسماليو هذه البلدان في بنوك البلدان الصناعية، أي نحو 1500 مليار دولار، يمكن قول إن البلدان النامية ليست مدينة بل دائنة.

لو قامت البلدان النامية بإنشاء بنك تنمية خاص بها وصناديق نقد دولي خاصة بها، يمكنها بسهولة تامة الاستغناء عن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات البلدان الصناعية المالية الخاصة.

ليس صحيحا أن البلدان النامية مضطرة للجوء للاستدانة لتمويل تنميتها. في الوقت الحاضر يفيد القرض بشكل رئيسي لضمان مواصلة تسديد الديون. وعلى الرغم من وجود احتياطيات صرف هامة لا تزيد الحكومات والطبقات الحاكمة المحلية في الجنوب الاستثمار والنفقات الاجتماعية. استثناء واحد في العالم الرأسمالي: الحكومة الفنزويلية التي تنهج سياسة إعادة توزيع لعائدات النفط لصالح الفئات الأكثر تعرضا للاستغلال والتي تواجه جراء ذلك معارضة قوية من الطبقات الحاكمة المحلية والولايات المتحدة. إلى متى سيدوم ذلك؟

لم يسبق أن كان الوضع من وجهة نظر مالية مواتياً بهذا القدر للبلدان النامية. و لا أحد مع ذلك يتحدث عن تغيير قواعد اللعبة. هذا لأن حكومات الصين وروسيا والبلدان النامية الرئيسية (الهند والبرازيل ونيجيريا وإندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية والمكسيك والجزائر وجنوب إفريقيا) ليست لديها أي نية لتغيير الوضع العالمي لمصلحة الشعوب.

ومع ذلك، بوسع حكومات البلدان النامية الرئيسية ،على المستوى السياسي، إذا أرادت، أن تنشئ حركة قوية قادرة على إدخال إصلاحات ديمقراطية أساسية في النظام المتعدد الأطراف. يمكنها تبني سياسة جذرية: إلغاء الديون وتطبيق حزمة سياسات تقطع مع النيوليبرالية. إن السياق الدولي مواتٍ لأن القوة العالمية الكبرى موحلة حالياً في حرب العراق واحتلال أفغانستان، وتواجه مقاومات قوية في أمريكا اللاتينية مفضية إلى إخفاقات مهينة (فنزويلا وكوبا والإكوادور وبوليفيا…) أو إلى مأزق (كولومبيا).

أنا مقتنع بأن هذا لن يحدث:  لن يُطبق السيناريو الجذري على المدى القصير. فالسواد الأعظم من قادة البلدان النامية الحاليين عالقون تماما بالنموذج الليبرالي الجديد. في معظم الحالات هم مرتبطون بمصالح الطبقات الحاكمة المحلية التي لا تملك أي منظور ابتعاد فعلي عن السياسات التي تفرضها القوى الصناعية (فما بالك الحديث عن قطيعة). يكتفي رأسماليو الجنوب بسلوك ريعي، وعندما يكون الأمر غير ذلك يحاولون كسب حصص في السوق. تلك حال رأسماليي البرازيل، وكوريا الجنوبية، والصين، وروسيا، وجنوب إفريقيا والهند… الذين يطالبون حكوماتهم بالحصول على هذا التنازل أو ذاك من الدول الأكثر تصنيعا في إطار المفاوضات التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف. علاوة على ذلك، فإن التنافس والنزاعات بين حكومات الدول النامية، بين رأسماليي الجنوب، حقيقية ويمكن أن تصبح أكثر حدة. تؤدي العدوانية التجارية لرأسماليي الصين أو روسيا أو البرازيل تجاه منافسيهم في الجنوب إلى انقسامات عميقة. عموما يتفقون (سواء فيما بينهم ومع الشمال) على فرض ظروف عمل أسوأ على عمال في بلدانهم بذريعة زيادة تنافسيتهم لأقصاها.

لكن الشعوب سوف تتخلص عاجلاً أم آجلاً من استعباد الديون وتحرر نفسها من الاضطهاد الذي تتعرض له من قبل الطبقات الحاكمة في الشمال والجنوب. وستفرض بنضالها سياسة توزيع عادل للثروة ووضع حد للنموذج الإنتاجوي الذي يدمر الطبيعة والبشرية. وسيكون على السلطات العمومية عندئذ إيلاء أسبقية مطلقة لتلبية الحاجات الإنسانية الأساسية.

ولا بد لتحقيق ذلك من نهج بديل: يجب الفكاك من دوامة الديون الجهنمية دون الوقوع في سياسة إحسان تروم تأبيد نظام عالمي يهيمن عليه كليا رأس المال وبعض القوى الكبرى والشركات متعددة الجنسيات. المقصود إرساء نظام دولي لإعادة توزيع المداخيل والثروات لتعويض النهب الذي اُخضعت له شعوب المحيط ولا تزال طيلة قرون. لا تعطي مثل هذه التعويضات في شكل هبات أي حق للدول الصناعية للتدخل في شؤون البلدان المستفيدة منها. وفي الجنوب يتوجب ابتكار آليات قرار بصدد وجهة الأموال والتحكم باستعمالها من طرف السكان المعنيين والسلطات العمومية المعنية. يفتح هذا حقل تفكير وتجريب شاسع.

من ناحية أخرى، يجب إلغاء البنك العالمي وصندوق النقد الدولي واستبدالهما بمؤسسات عالمية أخرى ذات اشتغال ديمقراطي. يجب أن يكون للبنك العالمي الجديد وصندوق النقد الدولي الجديد، أيا كان اسماهما الجديدان، مهام مختلفة جذرياً عن سابقيهما. يجب أن تضمن مهامهما تلبية الاتفاقات الدولية حول الحقوق الإنسانية (السياسية، والمدنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية) في مجال الائتمان الدولي والعلاقات النقدية الدولية. ويجب أن تكون هذه المؤسسات العالمية الجديدة جزءا من نظام مؤسسي عالمي على رأسه منظمة للأمم المتحدة تم إصلاحها جذريا. ومن الأولويات الأساسية أن تتلاقى البلدان النامية في أقرب وقت ممكن في كيانات إقليمية مزودة ببنك مشترك وصندوق نقد مشترك. خلال أزمة جنوب شرق آسيا وكوريا في الفترة 1997-1998، فكرت البلدان المعنية في صندوق نقد آسيوي. و أجهض تدخل واشنطن المحادثات. وأجهز نقص إرادة الحكومات المحلية على بقية الأمر. وفي أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، بدأت الحكومة الفنزويلية نقاشًا في 2005-2006 حول إمكان إنشاء بنك للجنوب. وللموضوع بقية.

ثمة أمر لا بد له من وضوح: إذا كان المطلوب تحرر الشعوب وتلبية كاملة للحقوق الإنسانية، فيجب أن تكون المؤسسات المالية والنقدية الجديدة، عالمية أو إقليمية، في خدمة مشروع مجتمعي يقطع مع النيوليبرالية والرأسمالية.

[1]    منح البنك العالمي قروضا للبرتغال حتى عام 1967

[2]    لقد تطورت المفردات المستخدمة لتعيين بلدان قروض التنمية التابعة للبنك العالمي على مر السنين من استخدام مصطلح «المناطق المتخلفة» إلى «البلدان المتخلفة». للوصول إلى مصطلح «بلد نام» ، يطلق على بعضها اسم «البلدان الصاعدة».

[3]    «كانت البلدان النامية، مجتمعة، مقرضة صافية للبلدان المتقدمة». (البنك العالمي، تمويل التنمية العالمية 2003، 13). وفي طبعة 2005 من Global Development Finance، p. 56 ، يكتب البنك: «البلدان النامية هي الآن مصدر رأس المال لبقية العالم     . («

[4]    المصدر: البنك العالمي، تمويل التنمية العالمية 2005، واشنطن، أبريل 2005 ، ص. 165- وفي نهاية عام 2004، بلغ في البلدان النامية حجم احتياطيات النقد الأجنبي 1.6 مليار دولار (1.591 مليار دولار، انظر الصفحة 165)، وهو أكثر من مجموع دينها العام الخارجي (1.555 تريليون دولار، ص 161). الصين وماليزيا وتايلاند والهند وكوريا الجنوبية لديها احتياطيات النقد الأجنبي أعلى من ديونها العامة الخارجية. تمتلك صناديق الاستثمار الآسيوية مجتمعة احتياطيات من العملات الأجنبية تزيد بأكثر من ضعف الدين العام الخارجي (أو 30٪ أكثر من إجمالي ديونها الخارجية العامة والخاصة – انظر الجدول ص 161 و 165). تمثل احتياطيات الصين وحدها 7 أضعاف ديونها العامة الخارجية. وبالنسبة لشمال إفريقيا والشرق الأدنى، يبلغ احتياطي النقد الأجنبي 141 مليار دولار، في حين يبلغ الدين العام الخارجي 127 مليار دولار. يبلغ احتياطي الجزائر 41 مليار دولار مقابل دين عام خارجي يبلغ 27 مليار دولار.

 

زر الذهاب إلى الأعلى