متابعة النضالات

عاملات سيكوم-سيكوميك بمكناس يواجهن إفلات أرباب العمل من العقاب وخيانة النقابة

بعد تشريد بـشوارع مكناس لأربع سنوات، دون ضمان اجتماعي أو دخل، اضطرت عاملات وعمال سيكوم- سيكوميك إلى خوض اعتصام مفتوح أمام فندق الريف بمكناس، الذي تعود ملكيته لرب العمل الحارِمِ إياهن من حقوقهن. وقد شـُرِعَ بالاعتصام في 27 يوليو 2024. أوضحت العاملات أنه لا نية لهن في التوقف حتى تتحقق مطالبهن أو يُحملن إلى قبورهن. لقد أطلقن على الاعتصام اسم “الكرامة”، ومغادرته تعني التنازل عن القليل المتبقي منها. خيارهن واضح: الموت ولا المذلة. ليس الاذلال المتأتي من الفقر وظروف معيشة الطبقة العاملة المغربية المهينة سوى ظلٍّ للإذلال الأكبر الذي يجسده النظام الرأسمالي المفروض، الذي يتيح لصاحب العمل السابق تجريد العاملات من حقوقهن المعترف بها وفقا للقانون السائد.

 سياق خاص

لفهم مجريات هذا النضال، يجب أن نضعه في سياق العنف النيوليبرالي المفروض على العمال المغاربة منذ عقود. تعرضت هؤلاء العاملات للاستغلال أولاً من قبل الأوليغارشي المتنفذ، التازي العلمي، الذي شغل منصب وزير الصناعة في عهد حكومة اليوسفي، حيث كان يشغل أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً في مصنعه، ويجبرهم على الاختباء في صناديق عند زيارة الزبائن. كان هؤلاء الأطفال ينامون أحيانا في المصنع وقد حُرموا من التعليم، وبعضهم لم يتعلم القراءة أو الكتابة. هذه هي الرأسمالية، حيث يمكن التضحية بمستقبل أمة من أجل الأرباح. إن العيش في ظلها ليس مزحة، ولو كانت كذلك لكانت مزحة قاسية. إنها تبدي اعترافا صريحا بما تدره الصناعة والتجارة والاستثمار، لكن دون اعتراف بالأيادي العاملة.. بالمنتجين المباشرين للأرباح. وبعبارة أخرى، ليس لدينا سوى آليات وضعها النظام الاستغلالي للحفاظ على دوران عجلة الإنتاج والتأكد من أن الربح يأتي دائمًا قبل الاحتياجات الإنسانية. هؤلاء النساء، اللواتي أصبحن بَالِغاتٍ الآن، يمثلن نقدًا صارخًا للنظام النيوليبرالي في المغرب. فبعد أن حُرمن من التعليم الأساسي، أصبحن واعيات بوضعهن الطبقي بفعل الاستغلال اليومي. نظمن أنفسهن في وقت مبكر في إطار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل cdt، ونظمن إضرابات واحتجاجات حولت تدريجياً أماكن عملهن إلى مكان يضمن ظروف عمل إنسانية متواضعة، مثل دفع الأجور في مواعِـدِها، الضمان الاجتماعي، وإجازة الأمومة المدفوعة الأجر. كان ذلك نجاحًا نادرًا، 500 عامل/ة، أكثر من 90% منهم نساء، طالبن بحقوقهن وحصلن عليها في قطاع موجه للتصدير حيث معظمهن غير نقابيات ويتقاضين أجورًا متدنية ويعاملن كأدوات يمكن التخلص منها… حالة “سيكوم” فريدة جدًا بهذا الصدد.

ظروف العمل

  تتسم ظروف العمل العادية في قطاع النسيج بالمغرب بتدنٍّ كبير في الأجور وطول ساعات العمل وضعف معايير الصحة والسلامة وغياب شبه تام للحماية الاجتماعية، وبيئات غير آمنة مع انعدام للاستقرار المهني. فالعديد من المصانع لا تلتزم حتى بالحد الأدنى من المعايير القانونية، ما يعرض العمال والعاملات للأذى الجسدي والنفسي، وكأنما من الضروري خرق القانون لكسر العامل الذي لا يحميه حتى قانون طب الشغل في المغرب، وهو قانون متجاوز وغير مؤهل لمعالجة واقع العمل الصناعي الحديث، ولا يوفر حماية تذكر من الاستغلال.

ضعف نقابي يجب تجاوزه

من وجهة نظر تاريخية، هذه ظروف مثالية لتشكيل وعي طبقي لدى العمال أو حتى الانتفاض. خلاف ذلك فإن أقل من 10% من القوى العاملة في قطاع النسيج في المغرب منخرطة في النقابات. لكن بالمقابل، الاتحاد العام لمقاولات المغرب cgem وهو اتحاد لأرباب العمل يمكنهم من النضال الجماعي من أجل حقهم في قمعنا. وضمن هذا الاتحاد تقف الجمعية المغربية لصناعات النسيج والملابس الجاهزة (amith)، التي تمثل مصالح أرباب العمل في صناعة النسيج والملابس الجاهزة. وطبيعة هذه المصالح واضحة.

 سيرورة الهجوم على الحقوق والافلات من العقاب

 بدأ أصحاب الشركة في تفكيك شركة sicome في وقت مبكر من عام 2010. وتُرِك العمال عاطلين عن العمل من الناحية التقنية لأسابيع على فترات متقطعة. وفي عام 2013، باع المالكون عقار الشركة، الذي تبلغ مساحته خمسة هكتارات، لشقيق الرئيس التنفيذي، وأعادوا تأجيره مقابل 100,000 درهم شهرياً. كما أنشأوا شركة جديدة، sicomek، باستخدام نفس المقر ولكن برأس مال أقل بكثير: 100,000 درهم مغربي مقابل 5.48 مليون درهم مغربي. وفي سنة 2014، باعت شركة sicomek سيارتها الخاصة بالنقل لشركة أخرى يملكها المدير العام، تدعى “أليانس” Alliance . وقد جرى نقل العمال والموظفين بهدوء إلى هناك دون موافقتهم، واكتشفوا في عام 2016 أنهم لم تسو مدفوعات الضمان الاجتماعي الخاصة بهم، على الرغم من الاقتطاعات المستمرة من أجورهم. لم يكن ذلك صدفة، بل كانت استراتيجية تصفية متعمدة. تراكمت الديون على شركة sicome، وتوقفت عن دفع الرواتب، وأغلقت أبوابها في 2 نوفمبر 2017. اختفى المالكون، مما أدى إلى اندلاع الاحتجاجات. في يوليو 2018، أعيد فتح المصنع جزئيًا، بتمويل من إعانة حكومية بقيمة 4 ملايين درهم، لكن الدورة تكررت، وأُغلق المصنع أخيرًا في 16 نونبر 2021 مرة أخرى دون دفع الأجور وأداء واجبات الضمان الاجتماعي، موازاة مع مزيد من الديون. اعتبارًا من مايو 2025، لا يزال بعض العمال يسددون الديون المترتبة عليهم عن تلك الفترة، وهذا السلوك غير أخلاقي، ولكنه “قانوني” بطريقة ما. نفس الأشخاص الذين قاموا بذلك لا زالوا ينشطون في صناعة النسيج ويستغلون العاملات الشابات غير المنظمات نقابيا. ما نوع النظام الذي يسمح بمثل هذا الإفلات من العقاب؟ حتى الدولة تشجع هذا النموذج من خلال خصخصة التعليم والرعاية الصحية والنقل، وتجبر العمال والعاملات على الركوع لتلبية أبسط الاحتياجات الأساسية، بينما تقمع النقابات وتجرم الإضرابات.

يُتوقع من النساء، وخاصة نساء الطبقة العاملة، أن يخدمن الاقتصاد في ظل ظروف عمل غير إنسانية؛ حيث يُتوقع منهن الاستمرار في ضخ مزيد من القوى العاملة بسوق الشغل، وتقديم كميات هائلة من العمل غير مدفوع الأجر، بينما يُحرمن بشكل منهجي من الوصول إلى الخدمات العمومية التي من شأنها أن تسمح لهن بالقيام بعملهن دون أن يُسحقن تحت وطأة الإرهاق، أو أن يُحاصرن في دائرة الديون التي يُجبرن على الانجرار إليها لمجرد البقاء على قيد الحياة، ومساعدة السوق على البقاء من خلال الحفاظ على استمرار الإنتاج. واليوم، أصبح الإضراب غير قانوني عملياً. أصابت النقابات عدوى البيروقراطية وأصبحت ضعيفة. لقد جرى تقويض وعي الطبقة العاملة من خلال بيئة سياسية يتم فيها تصوير الصراع الطبقي على أنه غير شرعي، وتضعنا المؤسسات المالية الدولية على الطريق السريع، بشكل معكوس، إلى عالم بائس كانمالك العبيد الكلاسيكي يود أن يعيش فيه ويتوقف عن الاهتمام بقدرة ممتلكاته(العبيد) على الإنتاج لأن تغييرهم أرخص من إصلاح الآلة.  وبكلمة، تدفع تلك المؤسسات المالية الاستعمارية الطبقة العاملة، على نحو متسارع، إلى أوضاع بؤس غير مسبوقة.

أشكال التضامن

كسرت القافلة التضامنية المُنَظمة يوم 27 أبريل 2025 الصمت المضروب على المعركة، التي انضمت لها العديد من الجمعيات الحقوقية والمجموعات الطلابية والأحزاب السياسية والنشطاء المستقلين من مختلف أنحاء البلاد، رافعين الأعلام الفلسطينية وصور المعتقلين السياسيين والمطالب الاجتماعية وخاصة مطلب 20 شباط/فبراير “حرية، كرامة، عدالة اجتماعية “، مؤكدين على الترابط العميق للنضال العالمي ضد الإمبريالية والنضال الطبقي المحلي. قد يعتقد بعض الأشخاص أن هذا الأمر يكتنفه بعض الغموض، ولكنه في الحقيقة حاد الوضوح، فمعركتنا واحدة. صراع واحد سببه عدو واحد مشترك: الأوليغارشية، والنظام الذي يدعمه البنك الدولي ووكلاؤه المحليون.

في فاتح مايو، تجسدت نفس روح التضامن، ليس من قبل الأجهزة النقابية التقليدية ولا لصالحها. بل من قبل طلاب ومواطنين مستقلين وبعض التيارات السياسية المبدئية. شاركت نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل cdt في المسيرة التي نُظمت أمام عمال سيكوم-سيكوميك. سارت المسيرة بمفردها، حيث لم يشارك فيها سوى أشخاص يرتدون اقمصة رُسِمَ عليها شعار النقابة خلف لافتة. أما العمال، من ناحية أخرى، فقد حشدوا تضامنًا أوسع وأصدق -اتحادًا حيًا من الناس يجمعهم نضال حقيقي -ليعلموننا مرة أخرى أن النقابة ليست اسمًا ولا وضعًا قانونيًا وليست شعارًا على الإطلاق. إنها الإرادة الجماعية لأولئك الذين يقاومون معًا.

خيانة

في الواقع، لقد قامت بيروقراطية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل cdt بخيانة هؤلاء العمال والعاملات على نحو فعال. إنها تقاضيهم/هن لأنهم/ن تجرأوا/ن على المطالبة بحقوقهم/ن، وهو خبر مثير للسخرية لدرجة أنه لا يمكن حتى لموقع مثل “ذا أونيون” أن يجد له عنوانا أكثر تهكما. انقلبت “النقابة” المزعومة على قاعدتها الخاصة وانفضح عفن العمل النقابي البيروقراطي. لم تأتِ الدعاوى القضائية من قيادة النقابة البيروقراطية محليا فحسب، بل أيضا من صاحب العمل السابق، وهذا أمر غير مفاجئ. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو استهداف الدولة للأشخاص الذين يُظهرون الدعم. ياسين بوعملات، مثلا، يواجه الآن متابعة قضائية لمجرد وقوفه علنًا مع العمال المضربين. لقد جعله نشاطه مستهدفًا، مما يثبت أنه حتى التضامن البسيط يكفي لإثارة قمع الدولة عندما يهدد النظام.

لمجرد مشاركته في توزيع تلك المنشورات، يواجه أحد النشطاء الآن الملاحقة القضائية. وتتهمه السلطات بالتحريض والدعوة إلى مظاهرة غير مصرح بها -وهي اتهامات لا تنبع من فعل العنف أو العرقلة، بل من الفعل البسيط المتمثل في التظاهر من أجل الآخرين. هذه هي الطريقة التي يعمل بها النظام: فهو لا يكتفي بسحق العمال، بل يستهدف أيضًا أولئك الذين يجرؤون على التعبير عن التضامن معهم.

 خلال الاحتجاج، رفع العمال شعار “يا بوخـ.. يا حقير*عاقت بك الجماهير”, نعتا وفضحا للمسؤول النقابي المحلي، الذي لم تسهم وصوليته إلا في ترجيح كفة النظام البرجوازي القائم على الاستغلال.

 لا بد من الإشارة إلى أن العمال ارتدوا الأعلام ورفعوا شعارات نقابية “الكونفدرالية” باعثين رسالة واضحة بأنهم ما زالوا يؤمنون بنقابتهم، وينتقدون فقط الطريقة التي تدار بها، حيث تدافع قيادتها المزعومة عن مصالحها الخاصة، حتى وإن تطلب الأمر التخلي عن العمال وتركهم لمصيرهم دون سند! وهذا ينطبق بوضوح على عمال سيكوم-سيكو ميك.

النقابة تعني الاتحاد، والاتحاد قوة..

يبدو أننا نسينا بطريقة ما التعريف الأساسي للنقابة، وهي تَجَمُّع من العمال الذين يتحدون لدعم بعضهم بعضا والدفاع عن حقوقهم بشكل جماعي. والآن من الذي ينطبق عليه هذا التعريف؟ هل هم العمال المناضلون الحقيقيون أم أجهزة البرجوازية الفاسدة التي أضعفت ثقة الناس في النقابات وحالت دون صحوة وعي الطبقة العاملة؟ يرى الكثيرون أن النقابات مجرد أدوات للتلاعب، وللأسف فإن تجارب عمال وعاملات سيكوم-سيكوميك تؤكد صحة هذا الرأي. ومع ذلك، ورغم الخيانة والتخلي عنهن، إلا أنهن صامدات في تضامنهن مع بعضهن، وأثبتن أنه بينما النقابات ضرورية لنضال العمال، إلا أنه يجب أولاً استعادتها من الطفيليات البيروقراطية التي تفسدها. هذه هي الحقيقة التي وصلنا إليها، ليس لأن القوة الجماعية فكرة فاشلة -لا يمكن لأحد أن ينكر أنه بدون عقولنا وعضلاتنا لن تدور عجلة واحدة -ولكن لأننا لم نقم بعد ببناء نظام جديد للنضال الجماعي يضع الإنسان في المقام الأول. بدلًا من ذلك، سمحنا بتشكيل هياكل تضع الطفيليين الصغار على رأس النقابة، يخدمون الطفيلي الكبير (البرجوازية) ويسيطرون على العمال باسم التمثيلية. هذه نقابات بالاسم فقط، حيث تدافع شريحة بيروقراطية عن مصالحها الضيقة، ولا تبدي تضامنًا يذكر مع القضايا العادلة الأخرى.

يجب أن نرفض هذا المنطق. فالطبقة العاملة واحدة. كلنا ضحايا نفس الآلة. الرأسماليون هم العدو وفرصتنا الوحيدة تكمن في الوحدة وليس الانقسام. لن نفقد قيودنا بالتسول. بل لن نفقدها إلا إذا كسرناها معاً. أدوات الكسر موجودة بأيدينا في قلب النقابة.

بقلم: صفاء أقراب، مناضلة بجمعية أطاك المغرب.

زر الذهاب إلى الأعلى