المخططات الليبراليةالمكتبةكتب وكراريسملفات دراسية

الحلقة الثانية عشر من سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية: خدعة مفاهيم الرؤى الليبرالية لإصلاح التعليم بالمغرب

الحلقة الثانية عشر

  1. خدعة مفاهيم الرؤى الليبرالية لإصلاح التعليم بالمغرب: بين بلاغة المصطلح ولمعانه ومدلولاته الفعلية.

من أهم نتائج سعي الدولة لتأسيس “المدرسة الوطنية الجديدة بالمغرب” أي المدرسة النيولبرالية، كانت “انفجار” في انتاج وثائق صادرة عن الوزارات والمؤسسات الوصية. فمنذ تبني الميثاق إلى اليوم، برز عدد هائل من الوثائق التي تتناول جوانب من عمل (وثائق) يعكف عليه الحاكمون. سواء سواء تجسد ذلك في نصوص قانونية، ظهائر ومراسيم ومقررات وقرارات ومذكرات … أو كان بمثابة موجهات تربوية او تدبيرية.. الكتاب الأبيض ودلائل من كل نوع، او بمثابة دراسات وتقارير وتقييمات.. صادرة سواء عن الوزارة أو المجلس الأعلى للتعليم أو مؤسسات أخرى، أو كانت خلاصات لمنتديات أو لقاءات رسمية.. منتديات الإصلاح أو ندوات حول موضوع من المواضيع، أو مجلات ودوريات تخص الإصلاح التعليمي صادرة عن جهات رسمية، وزارة وأكاديميات ومجلس أعلى للتربية والتكوين …

تمتح كل هذه الوثائق، على اختلاف أنواعها، من معين واحد، إنه المنظور النيوليبرالي للمدرسة. ويتخذ كقواعد/مسلمات له، آخر ما انتجته “النظريات” الواردة من المنابع؛ المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المهيمنة.

يشكل مفهوم الرأسمال البشري، أهم قاعدة نظرية يقوم عليها “تصور الإصلاح التعليمي” راهنا، وعلى قاعدته تقوم باقي المفاهيم التدبيرية (المهننة – التحديث – اللامركزية – الإنصاف – التدبير التربوي – الجودة – الحكامة – المشروع …) والتربوية (مدخل الكفايات والتربية على الاختيار وعلى القيم – انفتاح المدرسة على المحيط …). وهي المفاهيم التي تحتاج لنقاش معمق، بدل اعتبارها وحيا مقدسا وطريقا هاديا لِجَنة الإصلاح. لكن كل داع لإخضاعها لمشرحة النقد والتحليل والنقض ما هو، في نظر أطراف الإجماع الليبرالي، إلا عدمي لا يريد للمغرب أن يدخل عهد المدرسة الوطنية الجديدة. حتى أن التقييمات التي تعممها المؤسسات الرسمية للسياسات العمومية للدولة التي تفشل كل مرة في الوصول لأهدافها، لا تتناول هاته المفاهيم بأي نقد ولو عرضا، إلا إذا تعلق الأمر بإعادة التأكيد عليها كطريق وحيد ينبغي سلكه.

مفهوم الرأسمال البشري:

يقصد الاقتصاديون بالرأسمال البشري ” مخزون المعارف التي يمكن تثمينها اقتصاديا والتي يختزنها فرد ما “[1]   بينما تعرفه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE ” المعارف والمؤهلات والكفايات والخاصيات التي تسهل الرفاه الشخصي والاجتماعي والاقتصادي”[2].

استقبلت المنظمات المالية والاقتصادية وحكومات الدول الرأسمالية المتقدمة هذا المفهوم باحتضان كبير. إنه مفهوم يعطي أخيرا تبريرا اقتصاديا للإنفاق على التعليم، أي النوع الوحيد من التبريرات المقبول في نظر من يحكمون العالم: الإنفاق المفضي لجني الارباح.

لأجل فهم النجاح الباهر للمفهوم وجب الرجوع قليلا للوراء. مكنت أعمال الاقتصادي الأمريكي Edward F . Denison من البرهنة على كون النمو الاقتصادي لم يكن مرتبطا فقط بالارتفاع الكمي لعوامل الإنتاج (الرأسمال والعمل) بل كذلك إلى نوعية اليد العاملة، وهي النوعية التي يمكن أن تعزى جزئيا للتعليم. بهذا المعنى، لا يجب فقط الاكتفاء بتنمية الاستثمارات المادية أو حجم الأيدي العاملة، بل يجب الاستثمار في نوع جديد من الرأسمال. أي بالمحصلة، يُمَكن مفهوم/نظرية الرأسمال البشري من تحويل نفقات التعليم من خانة نفقات الاستهلاك إلى اعتبارها نفقات استثمار. هذه النظرة جعلت حتى منظمات نقابية وأحزابا يسارية في أوروبا سبعينيات القرن العشرين تتبنى ما ينتج عنها من استدلال بشأن مشروعية الرفع من الإنفاق على التعليم[3] ، رغم وضوح استناد هذه النظرة إلى مبادئ تجعل المقاولة والربح والفردانية هي المنطلقات والغايات، أي رغم انتصارها للرأسمال على حساب العمل. 

بالنسبة للاقتصادي الاميريكي غاري بيكر Gary Becker، “الرأسمال البشري هو ملك خاص يولد مدخولا لحامله”[4]. بمعنى أن الفرد يملك موارد سيسعى إلى تنميتها من أجل الرفع من إنتاجيته.. أي من مداخيله وامتيازاته الاجتماعية. وبالتالي من العادي أن يجري القبول بالسعي وراء امتلاك رأس المال البشري هذا وتنميته. لكن هذا الفهم يفترض أن اختيار المهنة ذو بعد واحد: ما يهم فقط هو المدخول المالي/المادي الذي سيتأتى من تلك المهنة. وبالتالي وجب أن يكون تمويل تنمية الرأسمال البشري متناسبا مع ما يمكن أن يجلبه من “أرباح” إضافية. إذن إذا كان الإنفاق على التعليم هدفه الأساس تكوين هذا الرأسمال البشري، سيطرح السؤال: من تقع عليه مسؤولية الإنفاق؟ من سيحدد مضمون التعليم/التكوين؟ إذا أخذنا التناسب بين الأرباح التي يتوقعها كل طرف، فالتمويل يقع على الدولة والمقاولة والفرد ذاته. لكن تمويل الدولة سيقف في الحدود التي تجعل منه تمويلا “مجديا”. بهذا المعنى لا يمكن لها ان تتخلص من التعليم باعتبار آثاره الإيجابية على كل المجتمع، وإذا تحملت جزءً من مسؤولية التمويل فعليها كذلك مسؤولية توفير الظروف التي ستمكن كل الأفراد من تحديد اختياراتهم “العقلانية” وتحملهم الكلفة المالية لذلك.  وإذا كان على السلطات العمومية ضمان التعليم الأساس، اعتبارا للجدوى الاجتماعية العالية للاستثمار فيه (وظائف ايديولوجية أساسا ووظائف ما يسميه العهد النيولبرالي بالتماسك الاجتماعي)، فإن عليها كذلك أن تعمل على جلب تمويلات خاصة قادمة من المقاولات والأسر. يمثل تنويع أشكال التمويل الطريق “الأكثر عقلانية”، فهو يجعل الأسر تتحمل قسطا متزايدا من جهد تمويل التعليم بشكل يتناسب مع المكاسب الخاصة التي يمكن أن يجنونها منه. هكذا فعندما تقترح كل من منظمة التعاون الاقتصادي OCDE والبنك العالمي تنويع أشكال التمويل، فإن مرجعهما في ذلك هو هذا “المردود التعليمي”.[5]

يسترجع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب المنطق المعروض أعلاه في تحديده لمفهوم الرأسمال البشري، وهو بذلك يوفر المرجع النظري لخطاب إصلاح التعليم إصلاحا ليبراليا.

إطار رقم 04

تعريف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي للرأسمال البشري[6]

مفهوم الإنصاف

ضمن هذا المناخ الذي يعطي المدرسة والنظام التعليمي مهمة أساس تكمن في خدمة الاقتصاد والمنافسة، وفي ظل التوجه نحو اعتماد “تنويع التمويل” أي تحميل الأسر جزءً من أكلاف التعليم، وما يعنيه ذلك اجتماعيا، كان التوجه نحو تبني مفهوم الإنصاف باعتباره يحاصر التفاوت الذي يمكن أن تحدثه التوجهات أعلاه في العلاقة مع الاستفادة من التمدرس.  

تعرف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الإنصاف في التعليم كالتالي: “يقصد بالإنصاف في التعليم أن النظام التعليمي يوفر نفس فرص التعليم لجميع التلاميذ. ليس المقصود من ذلك، حصولهم على نفس النتائج، ولكن عدم وجود صلة بين نتائج التلاميذ والخلفيات التي أتوا منها أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكنهم التحكم فيها. في التعليم، يعني الإنصاف أن التلاميذ من خلفيات اجتماعية اقتصادية مختلفة يمكن أن يصلوا إلى مستويات متماثلة من الأداء المدرسي والرفاه الاجتماعي والعاطفي، ولديهم نفس الحظوظ في الحصول على دبلومات التعليم بعد الثانوي.”[7]. لكن التمحيص في التعريف أعلاه وربطه بأساس المنظور الجديد للمدرسة، الرأسمال البشري، فإن مفهوم الإنصاف لا يحمل من مدلولاته إلا الاسم. حسب غاري بيكر Gary Becker، الأطفال الأكثر موهبة يتعلمون بشكل أسرع أي بكلفة أقل، أي أنهم يراكمون رأسمالا أكثر مردودية، وهم ينزعون إلى مواصلة تعليمهم باعتبار مردوديته أكبر. لكن الأطفال الأقل موهبة يعانون للحصول على دبلومات بالشكل الذي يجعل كلفة الحصول عليها أكبر من المداخيل التي قد توفرها لهم، وبالتالي هم لا يسعون لإتمام دراساتهم ويسعون للدخول للعمل بشكل مبكر.[8]

يرتبط الإنصاف بالخيارات المتخذة في بلد ما بخصوص الإنفاق العمومي على التعليم، أي أنه إذا ما قرر بلد ما جعل المرحلة الابتدائية فقط هي الإلزامية، فعليه بذلك أن لا ينفق فلسا واحدا على ما عداها إلا بعد تمكين كل الأطفال من مقعد في المرحلة الابتدائية (مقعد بيداغوجي بلغة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي) دون تمييز. يستعمل مفهوم الإنصاف بهذا المعنى لتبرير جعل المستويات، المعتبرة غير إلزامية من التعليم، مستويات خاضعة لمبدأ أداء أكلاف التعليم.

في المغرب مثلا، يعتبر التعليم الابتدائي والإعدادي إلزاميا، وإعمالا لمفهوم الإنصاف، من الواجب على الدولة أن تحجم عن أي تمويل بخصوص الأسلاك الأخرى. وهذا ما يشكل خلفية إخضاع الثانويات لصيغة “مؤسسة الدولة المسيرة ذاتيا” وجعل الجامعات مؤسسات ذات استقلال مالي وإداري، كإجراءات لتشريع يلقي بتكاليف التعليم على كاهل الأسر، مع العمل بالمقابل على تنويع أشكال التمويل بهدف التخلص من جزء من أكلاف تمويل التعليم الإلزامي ذاته، تحت نفس المبرر، توفير المال لكي تتمكن من الوفاء بمبدأ إلزامية التعليم المعتبر أس مفهوم الإنصاف…. الليبرالي. 

إطار رقم 05

تعريف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لمفهوم الإنصاف[9]

  • بمثابة خلاصة: قانون إطار لتثبيت مكاسب الطبقات السائدة قانونيا.

نص الميثاق على ضرورة “اعتماد النصوص التشريعية والتنظيمية اللازمة، طبقا لروح الميثاق ونصه، ومنحها الأسبقية في التداول والمصادقة والتنفيذ، وتسريع المساطر المتبعة في هذا الشأن، ولاسيما إعداد مشروع قانون إطار يتضمن الأهداف والمبادئ والإجراءات العامة التي ينص عليها الميثاق[10]، لقد كان ذلك أمنية قديمة لجعل الرؤية الليبرالية لمجال التربية والتعليم منصوص عليها بالقانون. لكن مرت سنين من التردد والتقدم والتأخر في تنفيذ التوجهات الأساس للميثاق، والتي ألهمت كما رأينا كل الخطط والإجراءات التي جاءت بعده، وبقيت رغبة إعداد قانون إطار مؤجلة إلى أن اجتمعت ظروف مناسبة لطرحه وإعداده. إنه مناخ اجتياز عاصفة 2011 بنجاح بالنسبة للحاكمين، والتقدم في تدقيق رؤيتهم لمجال التعليم، وتحقيقهم انتصارات جوهرية على من يمكنهم رؤية الإجراءات التراجعية ومعارضتها، الذين هم رجال ونساء التعليم ومنظماتهم. في ظل استبطان هؤلاء الشغيلة ومنظماتهم لكل المفاهيم[11] التي تشتغل بها الدولة في الميدان، رغم أنها هي من تكتوي بنتائج تبنيها. تمثلت تلك الإجراءات أساسا في تمرير صيغة التشغيل بالتعاقد مع الأكاديميات الجهوية، عوض التوظيف العمومي، وإعادة هيكلة العلاقات الشغلية والتدبيرية بالميدان في اتجاه المرونة التي تعني انعدام الاستقرار.

اعتبر الحاكمون ان الوقت مناسب لتثبيت مكاسبهم السياسية في حقل التعليم بالقانون، فجرى تجديد التوصية باعتماد قانون إطار للتربية والتكوين في الرؤية الاستراتيجية، وليحمل في بنوده موادا لا تمت للصياغة القانونية بصلة، بل مصطلحات/مفاهيم إيديولوجية صرفة، تسللت للقانون بسبب ميزان قوى مختل إلى حد كبير، لعل أهمها مفهوم الرأسمال البشري : ” وحيث إن جوهر هذا القانون -الإطار يكمن في إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، تتوخى تأهيل الرأسمال البشري، مستندة إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص من جهة، والجودة للجميع من جهة أخرى، بغية تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع.”[12]، و”اعتبار الاستثمار في التربية والتكوين والبحث العلمي استثمارا منتجا في الرأسمال البشري، ورافعة للتنمية المستدامة ودعامة أساسية للنموذج التنموي للبلاد”[13]

جاء القانون الإطار مكثفا لكل المنظورات والإجراءات التي اتخذتها الدولة آنفا، والتي جرى رصد بعضها أعلاه، وبقي وفيا بذلك لمنظور بناء المدرسة النيوليبرالية. وتم تمريره في سياق جلبة زائفة مفتعلة وهامشية حول “لغة التدريس”، وهو ما كان متوقعا باعتبار أن الإجماع النيوليبرالي قائم على السياسات التعليمية المفترض اتباعها، والتي قوامها:

  •  أن التعليم استثمار في رأس المال البشري، وهو بذلك سيؤدي إلى الإجهاز على التعليم العمومي وإخضاع التربية والتكوين لسطوة رأس المال.
  • خاضع لتحكم متطلبات المقاولات الرأسمالية تحت عنوان المرونة والقابلية للتشغيل (التشغيلية) كموجهين أساسين لأهداف التعليم ومضمونه، أي تعليم بئيس مُوَجَّه لاقتصاد ينتج مزيدا من الفقر والبؤس.
  • –          خادم لمنظور تنموي يفتح البلد فريسة للاستثمارات الأجنبية المباشرة ذات الطبيعة التي ستحكم عليه (البلد) بالتموقع في المراتب الدنيا لسلاسل القيمة العالمية.
  • تعليم موجه نحو تقوية “مرونة سوق الشغل” وتكوين عمال ذوي “أجور منخفضة”.
  • –          تعليم قائم على حكامة تجري وفق تدبير مقاولاتي، وهو ما يعني الإجهاز على استقلالية أجرائه.

إن هذه الخلاصات تستلزم مزيدا من التحليل والتفكيك، وهو ما سنأتي عليه في الفصل الموالي.


[1]  D.GUELLEC et P.RALLEL , Les Nouvelles Théories de la croissance, La découverte, coll “ Repères”, Paris 1995 page 52 .

[2] OCDE, Du bien etre des nations, le role du capital humain et social, 2001, page 18

[3] Christian Laval, L’école n’est pas une entreprise/ La découverte/poche,Paris 2004 page 45

[4] Christian Laval, L’école n’est pas une entreprise/ La découverte/poche,Paris 2004 page 45

[5] Christian Laval, L’école n’est pas une entreprise/ La découverte/poche,Paris 2004 page 47

[6]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، “من اجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح  2015 – 2030 ” صفحة 85

[7] https://www.oecd.org/pisa/equite-dans-leducation-eliminer-les-barrieres-France.pdf

[8] Christian Laval, L’école n’est pas une entreprise/ La découverte/poche,Paris 2004 page 47

[9]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، “من اجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح  2015 – 2030 ” صفحة 80

[10]  خاتمة الميثاق الوطني للتربية والتكوين

[11]  لا تجد المنظمات النقابية حرجا في استعمال مفاهيم الرأسمال البشري والموارد البشرية وباقي الرطانة الليبرالية، في بعض الاحيان دون تمحيص في سياق الفقر النظري والايديولوجي الذي تعانيه تلك المنظمات، وفي احيان اخرى من منطلق تبني كلي لتلك المفاهيم.

[12]  قانون – إطار رقم 17.51 يتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي/ الديباجة

[13]  نفسه، المادة 4

زر الذهاب إلى الأعلى