بعد نهاية الجزء الاول الذي خصص لتقديم ملخص تاريخي نقدي لسيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب، سيغوص الجزء الثاني في الخلفيات الاقتصادية لإرساء السياسات التعليمية النيوليبرالية.
الحلقة الثالثة عشر
في الأسس الاقتصادية لوضع لَبِناتِ المدرسة النيوليبرالية
- مدرسة الرأسمالية في طور السياسات النيوليبرالية
لن يكون ممكنا، في المغرب أو في بلد آخر، تناول السياسات التعليمية والرؤى الاستراتيجية للتربية والتكوين بالتحليل والنقد، دون التأكيد على وظيفة المدرسة في النظام الرأسمالي، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى تطور الرأسمالية في كل بلد وموقعه في قسمة العمل الدولية الذي تفرضه شروط السوق العالمية الحرة.
كانت أهداف السياسات التعليمية (في النظام الرأسمالي) ولا تزال، تأخذ بعدين: اقتصادي وسياسي. الغاية من ذلك، تحسين المستوى التعليمي للعامة من أجل تزويد البأطرونا بقوة العمل المؤهلة وكذلك تزويدها بالمدراء والمسيرين والنخب لضمان استمرارية الدولة والحفاظ على مصالح الرأسماليين، وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى التعليم على أنه وسيلة لإخضاع المجتمع لهيمنة الطبقة المسيطرة، من خلال العمل على غرس أيديولوجية ليبرالية ونظم أخلاقية تضع سقفا سياسيا لكل المضطهدين: القبول بنظام الاستغلال.
يعني هذا أن المدرسة في النظام الرأسمالي تميل دائمًا إلى ممارسة وظيفة مزدوجة، مادية وأيديولوجية. لكن، يبقى من الضروري تحليل كيف يجري تنفيذ هذه الوظيفة. إن التحولات التي تحدثها أزمات الرأسمالية والتغيرات التكنولوجية أو موازين القوة التي تعدلها النضالات الطبقية، تدفع الدولة لإنجاز إحدى مهماتها المتمثلة في تكييف النظام التعليمي مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بحيث يكون قادرا على تعزيز تراكم رأس المال.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبعد التطور الهائل لتقنيات الإنتاج، لم يعد رأس المال يولي اهتمامه فقط لضمان الحد الأدنى والضروري لإعادة إنتاج قوة العمل وصيانة قدراتها الفزيائية، بل أصبح يهتم كذلك بمستوى مهاراتها واستعداداتها الذهنية. سيؤدي هذا التطور الرأسمالي إلى تعميم تعليم أساسي إلزامي وإلى التدرج في إتاحة فرص الوصول إلى جميع مستويات النظام التعليمي مع التنويع في التخصصات المهنية والمسارات الدراسية بما يضمن لرأس المال التزود بقوة عمل ذات مستويات مختلفة من الجودة توافق التراتبية التي تسود علاقات الشغل داخل نمط الإنتاج الرأسمالي.
تكمن واحدة من أهم الخصائص الأساس للأنظمة التعليمية في المجتمعات الرأسمالية، في استيراد التناقض بين عمل المستويات الدنيا في صيرورة الإنتاج (التنفيذ) وعمل المستويات العليا (التسيير والإدارة والبرمجة) إلى نظام التعليم من خلال تفيئ المتعلمين وتنويع البرامج التعليمية والشعب.
أدى انفجار الأزمة الاقتصادية في سبعينيات القرن الماضي إلى تباطؤ وتيرة نمو شبكة التعليم العمومي وإلى انخفاض في حجم الاستثمارات العمومية المخصصة للتعليم. ومع تنامي الإدراك بعمق الأزمة وبداية التأسيس لنموذج جديد يدير تناقضات الاقتصاد الرأسمالي، بدأت المؤسسات الراعية لمصالح رأس المال تعمل على توجيه الدول إلى اعتماد سياسات تعليمية تضبط وظيفة المدرسة وفق حاجيات الاقتصاد الليبرالي والعولمة الرأسمالية.
يمكن القول إن الاقتصاد العالمي لما بعد سبعينيات القرن الماضي هو اقتصاد أزمات متعددة، كانت لها انعكاسات كارثية على الوضع الاجتماعي والبيئي، وقد أظهرت الأزمة العالمية لسنة 2008، نهاية كفاءة نموذج اقتصادي أدار عجلة الاقتصاد الرأسمالي لمدة تقارب الثلاثين سنة واستنفاذه لديناميكيته. لم يعد لرأس المال من سبيل للحفاظ على مستوى عال من الأرباح سوى المضي بوتيرة أسرع في تكثيف الاستغلال، مدعوما بحكومات تنهج سياسات تقشفية وتقدم إهداءات ضريبية للمقاولات، في بيئة يحتد فيها التنافس بين الرساميل إلى مستوى بلوغ حروب تجارية تعبر عن أزمة العولمة الليبرالية وإلى حدود التهديد بحروب عسكرية مدمرة.
يمكن أن نفكك أزمة الاقتصاد الرأسمالي الراهنة ونُرجِعها إلى ضعف وتيرة الإنتاجية والنمو والتراكم على المستوى العالمي، والذي امتد منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، رغم مساهمة الاقتصاديات الناشئة في الرفع من مستوى هذه العناصر منذ منتصف الثمانينيات، في الوقت الذي كان ينحدر فيه بالبلدان المتقدمة. بعد أزمة 2008، امتد انحدار معدلات نمو هذه العناصر إلى كل بلدان العالم.
رغم هذه الوضعية المقدمة أعلاه، حافظ الرأسمال العالمي على معدلات مرتفعة للربح، من جهة أولى، بالاعتماد على توسيع الاستثمارات والمضاربة في حقل المالية، مع نزع التقنين عن الأسواق المالية ورفع الحواجز أمام تنقل الرساميل، وما ترتب عن ذلك من تفاقم للمديونية العمومية لكل البلدان وللمديونية الخاصة، اضافة إلى نهب الثروات العمومية عبر تعميم سياسات الخصخصة والاستفادة من الجنات الضريبية، ومن التنافس المتنامي بين الدول في تطبيق التخفيضات الضريبية. ومن جهة ثانية، بتكثيف الاستغلال عبر سن سياسات تقشفية، تعميم مرونة الشغل وهشاشته، والتخفيض المتنامي للأجور والتقليص من كتلتها خصوصا بالبلدان التي تتوفر على فائض من اليد العاملة الرخيصة. هذه البلدان التي رُحلت إليها العديد من الصناعات.
لن يكون هناك من نموذج اقتصادي يضمن معدلات ربح مرتفعة للرأسمال، دون حل معضلة الرفع من وتيرة الإنتاجية ومن وتيرة نموها. حل هذه المعضلة سيتيح إمكانية الرفع من الأجور لتحقيق منافذ تستوعب البضائع المنتجة ولضمان مستوى عال من الاستهلاك. سيكون البحث عن معدلات نمو مرتفعة، تضاهي سابقاتها لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أمام تحدٍّ آخر، يتجلى في تغيير طبيعة النمو ليكون نموا اقتصاديا يخرج البشرية من نفق الأزمة البيئية المهددة لكوكب الأرض.