الخوصصةالمخططات الليبراليةملفات دراسية

استقلالية البنك المركزي ونظام الصرف المرن، مخططات صندوق النقد الدولي لوضع البلد في قلب العاصفة : الجزء الرابع والأخير

يعتزم الحاكمون بالمغرب البدء في سيرورة التحول إلى نظام الصرف المرن، ابتداء من النصف الثاني من السنة الحالية، وهي السيرورة التي تعتبر التتمة المنطقية لما تم الشروع فيه منذ زمن بعيد من سياسات نيولبرالية، بل تشكل احدى ذراها الأكثر خطورة.

لمتابعة هذه السيرورة، ينشر موقع أطاك المغرب، على حلقات، دراسة للرفيق مرجاني عبد القادر حول الموضوع لأجل فهم ما يجري وأبعاده وانعكاساته على مستقبل البلد وأوضاع كادحيه.

يستعرض الجزء الأخير من الدراسة  سيرورة لبرلة الاقتصاد المغربي وتتمتها المنطقية المتمثلة في تحرير الدرهم، وبعد عرض عدد من التجارب الكارثية لهذا الاجراء في مناطق عدة من العالم، وكذا الانعكاسات المرتقبة بالمغرب ورهانات الحاكمين والطبقات السائدة على هذه السياسة، ارتباطا بالسياسة الافريقية للحكام والذين يعولون على جعل المغرب منصة مالية افريقية، بدعم من البنك الدولي،  تخلص الدراسة الى ” يعد النقد رهانا داخل العلاقات الاجتماعية، لذلك ينبغي مراقبة خلق النقود ووضعها في خدمة سياسة اقتصادية واجتماعية توفر الخدمات العمومية والحاجات الأساسية للجميع ولا ينبغي ضخها في القنوات المالية الرأسمالية.  أهداف سياسة الموازنة يجب أن تتمحور حول توزيع الثروة المُنتجة، بالشكل الذي يُقطَع فيه الطريق على الرأسمال للاستحواذ عليها.

تضريب الرأسمال والثروة وتطبيق ضريبة تصاعدية على الدخل، أدوات من شأنها أن تمتص عجز الموازنة. النفقات العمومية يجب أن تضمن الانتقال لسياسة اقتصادية إيكولوجية واجتماعية جديدة يتم التداول والتقرير فيها بشكل ديموقراطي، وسيساعد على بلوغ أهدافها، التأسيس لنظام اقتراض، يفرض أولا على الأغنياء، الذين يستفيدون من الوضع الحالي، تمويل الموازنة عبر إقراض الدولة بسعر فائدة منعدم وغير مرتبط بمعدل التضخم وثانيا يسمح للبنك المركزي، الذي يجب أن يخضع للرقابة العمومية، بتمويل الدولة بشكل مباشر. استرجاع الشركات التي تمت خوصصتها، التضييق على تهريب الأموال وإلغاء تسديد الديون الخارجية اللاشرعية ووقف سياسة التبادل الحر، كلها تدابير من شأنها أن توقف نزيف تدهور رصيد البلد من النقد الأجنبي وتُحَصن سيادته على ثرواته.”

——————————————————

المرور إلى نظام سعر الصرف المرن بالمغرب ضرورة يفرضها مسلسل تطبيق السياسات الليبرالية المسطرة من طرف صندوق النقد الدولي

منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، سنوات إخضاع المغرب لسياسات التقويم الهيكلي، والبلد يسير نحو مزيد من تحرير الاقتصاد. بالتوازي مع تطبيق التوجهات الليبرالية، يرتب رأسماليو البلد أعمالهم ويعيدون وضع استراتيجيتهم الاستثمارية بما يخدم تنمية أرباحهم وثرواتهم مع الاستمرار في منح الرأسمال الأجنبي مزايا متعددة وإزالة جل العقبات أمام تدفق الرساميل والبضائع. في المقابل، كلما خطا المغرب خطوة في اتجاه تبني اقتصاد السوق، كلما تم سحق حق الأغلبية التي لا تملك سوى قوة العمل، والإجهاز على حقها في الشغل والتعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وعلى حقها في التنظيم والدفاع عن مصالحها.

تسارع في سنوات التسعينيات مسلسل تحرير المنظومة المالية والاقتصادية للمغرب.

سنة 1993، مع انضمام المغرب إلى المادة الثامنة من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، تم رفع القيود عن أداء المدفوعات والتحويلات المتعلقة بالمعاملات الدولية الجارية. سنة 1995، تم الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، سنة 1996 تم التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وتأسيس سوق الصرف الذي شهد مزيدا من اللبرلة سنتي 2005 و2007، بعد ذلك تم تمتيع بنك المغرب بالاستقلالية مع صدور قانون 2006، بالإضافة إلى التوقيع على مجموعة من اتفاقيات التبادل الحر مع عدة دول (الولايات المتحدة الأمريكية، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، مصر، الأردن، تونس…). هذا المسار رافقه التخفيف من الرقابة على الصرف من أجل المعاملات الجارية وحساب رأس المال.

في أوائل عام 2001، تم الحفاظ على مبدأ ترسيخ الدرهم بسلة من العملات لكن مع إجراء تعديل على الترجيحات بإعطاء الأهمية أكثر لليورو على حساب الدولار كانعكاس لتبعية المغرب لسوق الاتحاد الأوروبي.  ومنذ ذلك الحين، لا يزال المغرب يعتمد نظام تثبيت اسمي لسعر الصرف بسلة عملات وفي كثير من الأحيان يتدخل البنك المركزي للحفاظ على سعر الصرف داخل حدود مثبتة حول تسعيرة الدرهم المركزية.

في عام 2006، كُشف النقاب من قبل بنك المغرب على نظام تسعير الدرهم، فقد أعلن أن هذا النظام مرتبط بسلة عملات تتكون من اليورو والدولار بأوزان 80٪ و20 ٪ على التوالي كانعكاس لترسيخ شبه كلي لسعر الدرهم بالأورو. سنة 2011، يشير صندوق النقد الدولي إلى أن “السلطات النقدية المغربية لديها الوسائل والقدرة للمرور إلى نظام استهداف التضخم وإلى سعر صرف أكثر مرونة”[i] . بعد سلسلة من الارتفاعات المتوالية لقيمة الدولار مقابل تراجع قيمة اليورو، أعلنت وزارة الاقتصاد والمالية والبنك المركزي في بيان مشترك، شهر أبريل سنة 2015، أنه تقرر تحيين ترجيحات العملات المكونة لسلة تسعير الدرهم لكي تعكس البنية الحالية للمبادلات الخارجية للبلاد.  حيث تم تحديد الترجيحات الجديدة في 60 في المائة بالنسبة لليورو و40 بالمائة بالنسبة للدولار الأمريكي مقابل 80 و20 في المائة على التوالي سابقا. ويعتبر القرار الجديد خطوة نحو إضفاء مزيد من المرونة على تعاملات صرف العملات الأجنبية في السوق المالية المغربية في أفق الانتقال إلى نظام الصرف المرن الذي ستبتدئ مرحلته الأولى في النصف الثاني من سنة 2017، حيث سيسبح الدرهم في مجال تتسع المساحة بين حديه شيئا فشيئا إلى أن يتم تحريره. فالمغرب يعمل من اجل التحول إلى سوق إقليمي للتمويلات الدولية الموجهة نحو أفريقيا وجنوب البحر المتوسط بالاعتماد على المركز المالي الدولي في الدار البيضاء. هذا المسار يتخذه القائمون على شؤون المغرب بتنسيق ومباركة صندوق النقد الدولي وبتشاور مستمر مع رأسماليو البلد وعلى رأسهم البنوك، من أجل تكييف استراتيجياتهم الاستثمارية ضمانا لتقوية موقعهم عند تبني النظام الجديد – مثلا عن طريق بيع حصة من أسهمها لبنوك لها تجربة في المضاربة بالأسواق المالية – وضمان موقع لهم في الأسواق الإفريقية عند تدفق الرساميل الأجنبية. فالأطماع كلها موجهة للبلدان الإفريقية التي تسجل معدلات نمو مهمة كروواندا، وإثيوبيا، وتنزانيا، والسينغال والكوت ديفوار.   يعرض صندوق النقد الدولي مساعدته لتعزيز قدرات التنبؤ والتحليل لسياسات البنك المركزي في إطار نظام سياسة نقدية جديدة، وعرض تقديمه الدعم من أجل حل المسائل الإجرائية التي قد يطرحها نظام سعر صرف أكثر مرونة [ii].

كل المؤشرات تدل على أن تعويم الدرهم من شأنه أن يُعرض اقتصاد البلد إلى أزمات يصعب تصور مداها حاليا، لكن الأكيد أن تحميل كلفتها للشغيلة والأجراء عموما هو ما يتم الإعداد له. السعي إلى تخفيض عجز الموازنة بتصفية صندوق المقاصة، تفكيك الوظيفة العمومية عبر إدخال المرونة والهشاشة، تخفيض كتلة الأجور، تخريب أنظمة الحماية الاجتماعية ورسملتها والدفع بمسلسل لبرلة الخدمات العمومية، كلها إجراءات لسياسة موازنة تتوافق مع تحرير الدرهم وفتح أسواق الرساميل.

تكمن مصادر الأزمات المقبلة، أولا، في اتكال المغرب على الأسواق العالمية لتلبية حاجاته من السلع الأساسية كسلع التجهيز، القمح والأدوية. فقد بلغ عجز الميزان التجاري سنة 2016، 106.7 مليار درهم بزيادة 29.2 مليار درهم بالمقارنة مع سنة 2015 رغم انخفاض فاتورة المنتجات الطاقية ب 11.9 مليار الدرهم[iii]. وتكمن ثانيا، في ارتفاع حجم الدين العمومي الذي بلغ سنة 2015، 82.2 في المئة من الناتج الداخلي الخام. فالمنحى التصاعدي للدين العمومي الخارجي الذي بلغ 301 مليار درهم نهاية سنة 2015 مقابل 122 مليار سنة 2007، ليمثل 30.6 في المئة من الناتج الداخلي الخام، سيجعل خدمة هذا الدين في ارتفاع مستمر وكل هبوط في قيمة الدرهم سيرفع من تكلفة خدمة الدين العام، ومن ثم سيرتفع عجز الموازنة. أما رفع معدل الفائدة كإجراء لمواجهة التضخم، فسيرفع من كلفة الدين الداخلي العمومي الذي بلغ 509 مليار درهم سنة 2015 ممثلا نسبة 63% من الدين العمومي الإجمالي وسيبطؤ النمو. نفس الوضع ستعرفه مديونية القطاع الخاص الذي لا مناص من التجائه للاقتراض حتى يتمكن من مباشرة استثماراته.   فحسب تقرير 2015 لمعهد ماكينزي للدراسات، حول استدانة عدة دول في العالم، يُعتبر المغرب بلد أكثر مديونية، قياسا بناتجه الخام، من مصر وجنوب إفريقيا، حيث يتبوأ المرتبة الـ 29 في لائحة ضمت 49 بلد. فقد ورد في التقرير ارتفاع الديون العامة للبلد إلى 136 في المئة من الناتج الداخلي الخام – ارتفاع بأكثر من 20 نقطة بين سنتي 2007 و2014- مقسمة إلى ديون الخزينة (62% ،63.5% حسب تقارير وزارة الاقتصاد والمالية) ديون الشركات (51%) وقروض الأفراد (23%)، وقد مثلت ديون القطاع المالي 15 في المئة من الناتج الداخلي الخام[iv].  وكمصدر ثالث لأزمة صرف مقبلة، نذكر ضعف احتياطي النقد الأجنبي بالمغرب، المتذبذب نتيجة عدم استقرار مداخيل السياحة وتحويلات مغاربة الخارج. لن يكون بمقدور هذا الاحتياطي امتصاص صدمات تطيح بقيمة العملة المحلية، خصوصا أن النسبة الكبيرة للمعاملات في أسواق الصرف العالمية عبارة عن مضاربات في العملة ليس لها أية علاقة بالاقتصاد الحقيقي، ويمكن لصناديق التحوط[v] التي تملك دراية كبيرة بالمقامرة في أسواق المال أن يساهموا في تسريع تدني قيمة الدرهم على حساب اقتصاد البلد، في حين سيتَعسر على البلد أن يستدين أكثر نتيجة مطالبة الأسواق المالية بسعر فائدة أكبر يأخذ بعين الاعتبار المخاطر المتنامية الناتجة عن تراجع المؤشرات الاقتصادية. أما المصدر الرابع، فيتجلى في ضعف السوق المالية المغربية التي لم تتمرس بعد على المقامرة وألاعيب المضاربة. فبغاية التحوط من مخاطر تقلبات سعر الصرف سيتنامى التعامل بالمشتقات والعقود الآجلة التي سيتم تحرير تداولها. بعد الأزمات المالية العديدة التي عرفتها عدة دول، لا اختلاف اليوم حول مدى خطورة هذه المنتوجات المالية.

في خضم دفاعه عن خيار تحرير الدرهم، يقدم بنك المغرب بعض الحجج التي يراد لها أن تكون مقنعة لإثبات إمكانية إنجاز هذا الخيار دون تعريض البلد إلى المآسي التي شهدتها مصر نتيجة تحرير الجنيه. من بين هذه الحجج نذكر، أولا، ضعف نسبة التضخم بالمغرب بالمقارنة على ما كانت عليه بمصر قبل تعويم عملتها، ثانيا، توفر المغرب على احتياطي ملائم من النقد الأجنبي، وثالثا، اضطرار مصر إلى تطبيق نظام سعر الصرف المرن بشكل مفاجئ وتحت ضغط تردي الوضع الاقتصادي بخلاف المغرب الذي ينظم عملية الانتقال بهدوء. دون العودة إلى المصادر الأربعة التي تم استعراضها سابقا، يمكن باختصار تقديم بعض التوضيحات نبين من خلالها أن حجج البنك المركزي موجهة للاستهلاك الإعلامي في ظل غياب أي تعبئة يساهم فيها اقتصاديون مغاربة رافضون لتحرير الدرهم قصد تنوير الرأي العام بمخاطر التعويم.

أولا، لقد أضرت الأزمة المالية العالمية بشكل كبير بصادرات مصر ولم يكن لقرارات التخفيض التدريجي لسعر العملة، أواخر سنة 2012، أي تأثير على تنافسية الإنتاج المصري. خنق صعود الثورة المضادة الاقتصاد المصري، ولم تفلح أموال الخليج في إعادة التوازن لاحتياطات مصر من النقد الأجنبي. في بداية سنة 2016، تم تخفيض الجنيه بشكل قوي وكان ذلك إشارة واضحة إلى اتجاه مصر نحو التعويم.

القرارات الحكومية المتتالية المتمثلة في الزيادة في أسعار الكهرباء وعدة خدمات أخرى، الزيادة في نسب الضريبة على القيمة المضافة والتخفيضات المتوالية لقيمة العملة، كلها كان لها الأثر الواضح في ارتفاع نسبة التضخم. لكن قرار التعويم يوم 3 نوفمبر 2016 كان عاملا أساسيا في ارتفاع هذه النسبة من 14 في المئة إلى 24.3 في المئة شهر دجنبر لتصل إلى 29.6 في المئة شهر يناير 2017 حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة بمصر، وليس هناك ما يثبت أن قرار التعويم بالمغرب سيأخذ منحى آخر وإن كان ذلك يمكن أن يحدث بوتيرة أقل. لقد تراوحت نسبة ارتفاع أسعار عدة مواد بمصر عشية التعويم بين 7.1 في المئة و87.5 في المئة. وكمحاولة لكبح جماح ارتفاع معدل التضخم بمصر، عمل البنك المركزي على رفع سعر الفائدة ب 300 نقطة مما فاقم من المديونية العمومية ومن عجز الميزانية. هذا الإجراء رفع أيضا من كلفة الإقراض الذي بلغ سعر فائدته 15.75 في المئة[vi].

كانت أزمة صناعة الدواء خير دليل على عواقب تحرير سعر صرف العملة في بلد يسد نسبة كبيرة من حاجياته من الدواء عن طريق الاستيراد. فقد شهدت الأسواق اختفاء كاملا لأدوية حيوية نتيجة توقف الشركات عن توريدها إلى الصيدليات والمستشفيات إلى أن يتم الإقرار بالزيادة في أسعارها. وقد وافقت وزارة الصحة المصرية على زيادة أسعار 25 في المئة من مجمل الأصناف المتداولة في السوق ووصلت هذه الزيادة إلى حدود 50 في المئة في سعر بعض الأدوية[vii].

في المغرب، ، تكشف بنية مشتريات الدواء عن دخول أدوية باهظة الثمن إلى السوق، تمثل قيمتها 2.7 مليار درهم، أي ما نسبته 55.3% من إجمالي المشتريات، يتعلق الأمر بأدوية موجهة لعلاج أمراض السرطان والاستعمال الآني، لتبلغ نسبة ما يتم استيراده من لقاحات وأدوية أمراض مزمنة 70 % من قيمة فاتورة الدواء المغربية، و تجدر الإشارة، أن الواردات تطورت بشكل مهم ضمن اتفاقيات التبادل الحر، خصوصا مع الاتحاد الأوربي، إذ انتقلت قيمتها من مليار درهم في 2000 إلى 4.4 مليار درهم برسم سنة 2014، فيما لم تتجاوز الواردات في اتجاه الاتحاد، سقف 700 مليون درهم، والوضع نفسه بالنسبة إلى الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية[viii]. هذه الأرقام تبين مدى تبعية المغرب إلى الخارج لسد احتياجات المرضى من الدواء، ومدى انعكاس أي انخفاض لسعر الدرهم على أسعار الدواء المستورد التي سيشكل ارتفاعها تعميقا لأزمة قطاع الصحة العمومية بالمغرب.

ثانيا، سيجتاز المغرب قبل التعويم “الخالص” للدرهم، مرحلة انتقالية سيتم فيها توسيع هامش تغير سعر الدرهم. هذه المرحلة ستكون محفوفة بالمخاطر ويمكن أن يتعرض فيها الدرهم لهجمات المضاربين مما سيدفع بالسلطات النقدية للمرور لمرحلة التعويم بشكل قسري. حاليا، وفي خضم الإعداد لخطة تحرير الدرهم، لم يتم بعد الإعلان عن المدة التي ستخصص للفترة الانتقالية، فالانتقال المنظم، كما يسميه البنك المركزي، يلزمه تحديد مسبق للفترة الزمنية اللازمة قبل المرور للتعويم “الخالص”.

دروس التجربة التركية تنبئ بجم الدمار الذي تخلفه السياسات الليبرالية. منذ شهر يناير لسنة 2000، بدأت تركيا في تطبيق برنامج “الاستقرار باستخدام الصرف” المخطط من طرف صندوق النقد الدولي. كانت الأهداف المسطرة تتمثل في التأسيس للمصداقية اللازمة لطمأنه المستثمرين الأجانب وللمرونة التي تحتاج إليها السلطات النقدية التركية لتدبير سياسة الصرف في بيئة تطبعها حرية تنقل الرساميل. كانت تتجلى إحدى مميزات هذا البرنامج في اعتماد إجراءات تعقيم الرساميل الوافدة، واستخدام احتياطات النقد الأجنبي بالإضافة إلى تعديل معدل الفائدة بشكل يومي ليحاذيَ معدل السوق النقدية. ما كان مخططا له هو انخفاض سعر الصرف بمعدل ثابت طيلة سنة 2000 في إطار ربط الليرة بسلة عملات مكونة من الدولار واليورو، وإتاحة المجال للبنك المركزي من أجل تنفيذ البرنامج الذي سيتوج بتعويم العملة دون اندلاع أزمة. إلا أن البرنامج الذي كان من المتوقع أن يمتد لمدة 18 أشهر، لم يدم لأكثر من سنة، وكان لفشله انعكاسات بحجم الكارثة. لقد رافق هذا البرنامج سياسة موازنة وسياسة نقدية انكماشيتين، حيث لم يعد متاحا للبنك المركزي بالزيادة في السيولة إلا عن طريق دخول الرساميل. نظرا لتدهور أساسيات الاقتصاد وارتفاع المديونية العمومية والخاصة مع ما رافق ذلك من اختلالات في النظام البنكي، تنامت شكوك المستثمرين في إمكانية استمرار صمود برنامج “الاستقرار” ليبتدئ بعد ذلك سباق خروج الرساميل. عمت حالة من شح السيولة وارتفاع جنوني لمعدلات الفائدة. انطلق نهاية أكتوبر لسنة 2000 مسلسل انهيار البنوك التي هب البنك المركزي إلى إنقاذها وفي شهر فبراير سنة 2001 انقض المضاربون على العملة التركية ولم يفلح البنك المركزي في الدفاع عن قيمتها باستعمال احتياطات النقد الأجنبي المتوفرة. يوم 22 فبراير 2001، أعلن عن تعويم العملة. تراجعت قيمة هذه الأخيرة، في يوم واحد، بنسبة 35 في المئة مقابل الدولار لتفقد 70 في المئة من قيمتها خلال شهرين. ارتفاع التضخم إلى نسبة 52.5 في المئة، تجاوز معدلات الفائدة لنسبة 4000 في المئة، انهيار مئات الشركات وفقدان عشرات الالاف من مناصب الشغل، كانت إحدى نتائج تبني وهم الانتقال السلس للتعويم المخطط له من طرف صندوق النقد الدولي[ix].

بلغ احتياطي النقد الأجنبي بالمغرب شهر يناير 2017، حوالي 25 مليار دولار، أي ما يكافئ حوالي سبعة أشهر ونصف من الواردات. يعلن صندوق النقد الدولي أن أربعة أشهر من الواردات تعد صمام أمان للبلد. هذه التقديرات مبنية على توقعات لا يمكن الاعتماد عليها مهما تعددت نماذج محاكات سيناريوهات الصدمات. فمثلا، سنة 1998، وبعد تعرض عملة البيزو لعدة هجمات، لم يفلح البنك المركزي الكولومبي في الدفاع عن عملته رغم طرحه لما يناهز 400 مليار دولار من النقد الأجنبي[x].

ثالثا، يعتبر اعتماد نظام سعر الصرف المرن في البلدان التابعة انعكاسا لعجزها عن تقوية عملتها نتيجة تخليها عن مهمة بناء اقتصاد مستقل عن الدوائر الإمبريالية وخضوعها لشروط الرساميل المحلية والأجنبية. فتعويم العملة هو نتيجة لنهج السياسات الليبرالية سواء اتخذ قرار التعويم عند تفجر أزمة نظام سعر صرف كان قائما أو عبر سلك سبيل التدرج. يتم في كلتا الحالتين الاستسلام لما سيترتب عن هذا التعويم من تردي للأوضاع الاجتماعية للفئات الشعبية وخلق وضع مهدد باستمرار بتقلبات مفاجئة وأزمات اقتصادية.

لا يمكن الإقرار أن المغرب سيشهد تكرارا لتجربة مصر، لكن لا يعني ذلك التستر على الانعكاسات السلبية لتعويم العملة على الأوضاع الاجتماعية للبلد، كما أن الترويج لقدرة المغرب على إنجاح الانتقال لنظام سعر الصرف المرن وتثبيته لا يثير بالمطلق النقاش حول الفئات التي ستتحمل كلفة التعويم.

 

يعد النقد رهانا داخل العلاقات الاجتماعية، لذلك ينبغي مراقبة خلق النقود ووضعها في خدمة سياسة اقتصادية واجتماعية توفر الخدمات العمومية والحاجات الأساسية للجميع ولا ينبغي ضخها في القنوات المالية الرأسمالية.  أهداف سياسة الموازنة يجب أن تتمحور حول توزيع الثروة المُنتجة، بالشكل الذي يُقطَع فيه الطريق على الرأسمال للاستحواذ عليها.

تضريب الرأسمال والثروة وتطبيق ضريبة تصاعدية على الدخل، أدوات من شأنها أن تمتص عجز الموازنة. النفقات العمومية يجب أن تضمن الانتقال لسياسة اقتصادية إيكولوجية واجتماعية جديدة يتم التداول والتقرير فيها بشكل ديموقراطي، وسيساعد على بلوغ أهدافها، التأسيس لنظام اقتراض، يفرض أولا على الأغنياء، الذين يستفيدون من الوضع الحالي، تمويل الموازنة عبر إقراض الدولة بسعر فائدة منعدم وغير مرتبط بمعدل التضخم وثانيا يسمح للبنك المركزي، الذي يجب أن يخضع للرقابة العمومية، بتمويل الدولة بشكل مباشر. استرجاع الشركات التي تمت خوصصتها، التضييق على تهريب الأموال وإلغاء تسديد الديون الخارجية اللاشرعية ووقف سياسة التبادل الحر، كلها تدابير من شأنها أن توقف نزيف تدهور رصيد البلد من النقد الأجنبي وتُحَصن سيادته على ثرواته.

 

 

[i]FMI, les déclarations de fin de mission. Maroc–Conclusions préliminaires des consultations de 2011 au titre de l’Article IV

[ii] Consultations de 2013 au titre de l’article IV du statut de l’FMI, Rapport du FMI No. 14/65, Mars 2014.

[iii]Office des changes, indicateurs mensuels des échanges extérieurs, année 2016.

[iv]McKinsey Global Institute. Debt and (not much) Deleveraging. February 2015, pp 4, 18, 106.

[v] تستثمر صناديق التحوط في مجموعة واسعة من الأصول لتوليد أعلى عائد ممكن بالمخاطرة أكثر مما هو متوقع من الاستثمارات العادية، تقترض هذه الصناديق لتضارب في الأسواق المالية وتتحكم في أصول تتجاوز بكثير مساهمات وثروات مالكيها.

[vi]إبراهيم الغيطاني، “سياسات متكاملة: مسارات الخروج من أزمة “التضخم” في مصر”، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 21 فبراير, 2017. https://futureuae.com

[vii] مقال صدر يوم 13/01/2017 بموقع المدن بعنوان “أزمة دواء تعصف بالمصريين بعد زيادة الأسعار”. http://www.almodon.com

[viii] تعليق لعبد المجيد بلعيش، مدير عام الجمعية المغربية لصناعة الأدوية لجيدة الصباح http://assabah.ma/99915.html

[ix] لمزيد من الاطلاع على الأزمة التركية يمكن مراجعة:

ARI A., et DAGTEKIN., 2007 : « Les indicateurs d’alerte de la crise financière de 2000-2001 en Turquie : un modèle de prévision de crise jumelle » ، Région et Développement n° 26, pp35-50.

HERICOURT J., et REYNAUD J., 2006 : « La crise monétaire turque de 2000/2001 : analyse de l’échec du plan de stabilisation par le change du FMI » ، Cahiers de la Maison des Sciences Economiques, 2006.09

[x] Gharbi H., 2005 : « La gestion des taux de change dans les pays émergents. La leçon des expériences récentes », Revue de l’OFCE 95, pp279-326.

زر الذهاب إلى الأعلى