الديونملفات دراسية

الديون في موريتانيا: استثمار لرجال الأعمال ومأساة للفقراء

 

نقدم في المقال التالي صورة أولية  لرسم السمات العامة للاقتصاد الموريتاني في ظل كماشة الديون بعد  ” الاستقلال ” عن الامبريالية الفرنسية، التي لا تزال تسيطر على مفاصل الثروة وتتدخل في الوضع السياسي خدمة لمصالحها ومصالح المؤسسات المالية العالمية حيث وضعت موريتانيا بفعل الديون على حافة الانهيار.

حصاد الاستقلال:

حصلت موريتانيا على استقلالها يوم 28 نوفمبر 1960، وتبنت الدولة أولى البرامج الاستثمارية التي امتدت على مدى 18 سنة، من 1960 إلى 1978. تخللتها عملية تأميم الشركة الفرنسية “ميفرما” سنة 1974. من طرف الرئيس المختار ولد داداه.

إلا أن فقر البلد( أفقر دولة عربية ) وتخلفه وظروف الحرب في المنطقة وتوالي الانقلابات العسكرية وعدم استقرار الوضع السياسي، نتج عنه تردي الاقتصاد الوطني الناشئ، الذي عرف اختلالات بنيوية مزمنة ودائمة، ليرتفع عجز الموازنة العامة إلى حوالي 9% ، من الناتج المحلي الإجمالي، وتراكمت المديونية الخارجية (فرنسا، ليبيا، الكويت، الجزائر)، لتصل إلى نحو 20%، وارتفعت نسبة التضخم إلى حوالي 14%، مع بداية الثمانينيات.

يضاعف الفساد المستشري في أجهزة الدولة وتتابع الكوارث الطبيعية (أسراب الجراد، الجفاف…) حالة التخلف وبؤس البلد الشديدين.

بهذا الشوط المتعثر في النهوض بالاقتصاد الموريتاني، دخلت البلاد دوامة برامج الإصلاح النيوليبرالي أشرف عليها رجال أعمال، تحت إمرة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لتخفيض الإنفاق على القطاع العام والرفع من نسبة الضرائب وغيرها من الإجراءات النيوليبرالية.

طريق سلكه المغرب مع برنامج التقويم الهيكلي سنة 1983، وكانت نتائجه كارثية على اقتصاد البلد وعلى وضعه الاجتماعي.

مرحلة الإصلاح الاقتصادي

باشرت المؤسسات المالية العالمية المنوه بها أعلاه، تقديم الدعم والسيولة المناسبة من أجل البدء في ما سمي “الإصلاح الاقتصادي” في إطار مخططات ثلاثية امتدت من سنة 1985 إلى 1995.

بلغت الكلفة الإجمالية لهذا الإصلاح حوالي 4.5 مليار دولار، مع التزام البلد بتنفيذ الإصلاحات النيوليبرالية المتفق عليها مع السادة المانحين، منها رفع اليد عن دعم السلع الغذائية وخفض العملة وخوصصة المؤسسات العامة مثل: شركات النقل والسكر والتأمين وغيرها. وأيضا خوصصة بعض الأنشطة الاقتصادية ذات الطابع الخدماتي مثل الاتصالات والبنوك، مع ما رافق هذا الإجراء من تجميد الأجور وإلغاء التشغيل في الوظيفة العمومية (باستثناء الشرطة وقطاع الصحة).

كما جرى إبرام اتفاقيات الصيد البحري مع كبرى الشركات العالمية (الاتحاد الأوربي )، ورهن ثروات البلد البحرية للرأسمال العالمي.

الوضع بعد الإصلاح الاقتصادي

خلفت هذه الإجراءات الليبرالية الجديدة كوارث حقيقية على مستوى عيش الموريتانيين واستقرارهم الاجتماعي، إذ ارتفعت نسبة الفقر مابين سنة 2001 و 2002 إلى مستوى قياسي بلغ 40%. ناهيك عن شظف عيش آلاف الفقراء، والنسب العالية لمعدلات البطالة المستشرية في صفوف حملة الشهادات الجامعية، (40 % نساء و35% من سكان المدن). وجرى إغراق البلد بسلع مستوردة خربت المنتوجات البسيطة الموريتانية (منتوجات النسيج التقليدية).

لم يجن الموريتانيون من الإصلاح الاقتصادي غير الفقر والتضحية بالبلد على مذبح الديون والمؤسسات الدولية الناهبة لخيرات الشعوب. ولم يتوقف النزيف الاقتصادي عند هذا الحد، حيث استمرت الدولة في الاستدانة لمعالجة الوضع.

رهن البلد للمؤسسات المالية الدولية

رغم إشادة صندوق النقد الدولي بنسبة النمو التي بلغت 7%، سنة 2011، كمحصلة لارتفاع أسعار المواد الخام عالميا، كما جاء على لسان الاقتصادي الموريتاني اسلم ولد محمد:

“أن النمو الذي عرفه الاقتصاد الموريتاني في تلك السنة -2011- والذي تراوح مابين 6.5% إلى 7% يعود بالأساس إلى زيادة أسعار المواد الخام التي تصدرها خاصة الحديد وليس إلى زيادة الإنتاج، بل إن الصادرات ارتفعت في سنة 2011 إلى %4.8 كما زادت الواردات خلال الفترة ذاتها لتصل إلى 28.5%”.

النمو لا يعني بالضرورة الانعكاس الايجابي على المستوى الاجتماعي لتحقيق حياة الرفاه، فالمقصود هو نمو رؤوس أموال الشركات العالمية ورجال الأعمال المستفيدين من إجراءات التقشف ورفع اليد عن القطاع العام.

ويفضح الاقتصادي الصوفي ولد الشياني بدوره ادعاءات انعكاس نسبة النمو على الوضع المعيشي للموريتانيين:

“رغم ما يقال عن تراجع نسبة الفقر ونسبة البطالة في موريتانيا فإن الظروف المعيشية للسكان مازالت صعبة جدا، كما أن ما حدث من نمو اقتصادي لم ينعكس على الظروف المعيشية للفقراء في القطاع الريفي حيث أن مساهمة القطاع الأولي الريفي (الزراعي والرعوي) لم تزد على %0.3. وأن مؤشرات سنة 2008 التي تهدف للوصول بنسبة الفقر إلى %26 سنة 2013 لم تتحقق بل مازالت نسبة الفقر هذه السنة بحدود %38 وتلك النسبة (%26) لن تتحقق إلا سنة 2030”.

بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، فإن الوضع المتردي لاقتصاد البلد يكذب الأرقام الوهمية  للمؤسسات المالية، إذ بلغت ديون موريتانيا مستوى قياسي في السنوات الماضية، ففي سنة 2013 وصل الدين الخارجي 3330 مليون دولار، بزيادة قدرت ب %7.8،  مقارنة مع سنة 2012. أي أن الدين الخارجي قد انتقل من %78.1 سنة 2012، إلى %79.6 سنة 2013. وقدرت أرقام خدمة الدين الخارجي سنة 2013 بما مجموعه 156.6 مليون دولار أي بزيادة قدرها %12.5 عن سنة 2012، وقد بلغت نسبة خدمة الدين 10% من الموازنة سنة 2013.

ويدخل في هذه الديون الخارجية، الديون المتراكمة منذ سنة 1974 لصالح أمراء دولة الكويت والتي بلغت حينها 44 مليون دولار بفائدة ثقيلة جدا قدرت ب 13% للمساهمة في شركة مناجم الحديد “ميفرما”. ودين آخر للمساهمة في رأس مال شركة “ساميا” بقدر 4 ملايين دولار بلغت فائدته 2.5%.

كما تدين موريتانيا للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (fades) بمبلغ 711 مليون دولار، وللبنك الدولي بمبلغ 395 مليون دولار، وللبنك الإسلامي للتنمية بمبلغ قدره 292 مليون دولار.

فيما بلغت نسبة الدائنين العرب 43% و ديون الصين 20% ، وديون نادي باريس 36.2%. حسب تقرير المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الإستراتيجية سنة 2013.

مع العلم أن بعض الدول قد أعفت موريتانيا من السداد مثل (صندوق النقد العربي وليبيا…)، لتنخفض الديون الخارجية لموريتانيا ب 2% سنة 2014 لتصل إلى حدود 4.25 مليار دولار مقارنة مع سنة 2013.

فرنسا: المستعمر القديم والدائن الأول

هذا وتحتل الشركات الفرنسية مرتبة مهمة في مصاف المصدرين الأجانب إلى موريتانيا، إذ تقوم حوالي 1257 شركة فرنسية بتصدير منتجاتها إلى السوق الداخلي، بقيمة إجمالية بلغت 192.2 مليون دولار.

كما تتواجد فروع نحو 65 شركة فرنسية في موريتانيا منها شركات عابرة للقارات.

احتلال جديد ونهب لخيرات بلدان ” الجنوب ” إفريقيا في اتجاه البلدان المصنعة ” الشمال ” وتحرير السوق الداخلي أمام رؤوس الأموال الفرنسية لنهب الفقراء في موريتانيا.

ولتسهيل عملية النهب تقدم فرنسا مساعدات مالية “1” للدولة الموريتانية من أجل تنمية البنية التحتية (طرق وموانئ…)، حيث بلغت المساعدات الإنمائية حوالي 20.4 مليون يورو سنة 2008، وتشترط الامبريالية الفرنسية في تقديم المساعدات الولاء السياسي التام للحكام، إذ مثلا، يتم توقيف هذه المساعدات أو التهديد بذلك عند كل انقلاب عسكري.

التقشف لخدمة الديون

أمام تراكم الديون على الميزانية العامة للبلد، عمل الحكام على تنفيذ إجراءات تقشفية مجحفة تثقل كاهل الفقراء وتزيدهم بؤسا، إذ ستعمل موريتانيا على إلغاء الدعم الشامل لأسعار المواد الغذائية الأساسية، لتفتح الباب لما سمي “شبكات الأمان الاجتماعي” الموجهة إلى الفقراء والمعوزين، هذا الإجراء مملى من طرف صندوق النقد الدولي، لسداد الدين وللتغلب على مشاكل الاقتصاد على حساب قوت الشعب.

وبعد موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 16.78 مليون دولار أكد في بيانه على:

“أن موريتانيا بحاجة لتحسين تحصيل الضرائب غير المرتبطة بالتعدين، والبحث عن مصادر أخرى للعائدات الضريبية من قطاع الموارد الطبيعية، مع حماية موقع موريتانيا كوجهة للاستثمارات الأجنبية”.

ما يعني المزيد من شد الحزام ومن اجتياح رؤوس الأموال الأجنبية للبلد، وامتصاص الأرباح دون عراقيل لحفنة من المستثمرين الجشعين على كاهل و سواعد الغالبية المفقرة من السكان.

تعميق الفوارق الاجتماعية

على مستوى الخدمات الصحية تعرف موريتانيا أعلى المعدلات في العالم من حيث وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة، ويبلغ نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة 43 دولار سنة 2004. رقم يوضح مدى هزالة الوضع الصحي في ظل ترحيل الثروة إلى بنوك الاتحاد الأوربي و بنوك المؤسسات المالية الدائنة.

أما التعليم فيشهد تدنيا بالغ الحدة، إذ تتذيل موريتانيا الدول العربية في هذا القطاع عندما يتجه الأطفال في سن التمدرس إلى العمل بدل التعلم، وهي ظاهرة متفشية في المجتمع الموريتاني، إذ تصل نسبة الهدر المدرسي إلى حوالي 40%.

ويقدر عدد المدارس في موريتانيا ب 3000 مدرسة، يعاني نسبة 37% منها عجز مهول في التجهيزات اللوجستية، وتشكل النساء الفئة الأكثر أمية في المجتمع بنسبة 53%.

بالإضافة إلى التعليم الجامعي الذي وصفته رابطة الدكاترة العلميين بموريتانيا بأنه قطاع يحتضر.

أما فيما يتعلق بمتوسط نصيب الفرد من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في موريتانيا فقد نشرت مجلة ( غلوبل فايناس) الاقتصادية، سنة 2010 أرقام تفيد أن دولة موريتانيا تقبع في المرتبة 145 من تصنيف شمل 182 دولة، بمعدل دخل يساوي 2095 دولار سنويا، مقارنة مع دولة قطر التي احتلت الرتبة الأولى ب 90 ألف دولار سنويا كمعدل متوسط نصيب الفرد من قيمة الناتج المحلي الإجمالي.

وفيما يخص نسبة الفقر فتتجاوز 46% من أصل مجموع السكان الثلاثة ملايين نسمة.

هذا وتلجأ النساء القرويات إلى مؤسسات القروض الصغرى لتدبير شؤونهن العائلية، وتصل نسبة النساء القرويات المعيلات لأطفالهن إلى 31.7%. وتشكل النساء في المجال الحضري نسبة 51% من المدينين بفوائد مرتفعة )15( %تعجز غالبيتهن عن سدادها.

في مقابل هذا البؤس، حقق بعض رجال الأعمال الموريتانيون ثروات هائلة وصلت 4.6 مليار دولار. ويسيطر حوالي 5%  من العائلات على مجمل الثروة في البلد.

 

لا سيادة لبلد يرزح تحت الديون

تنخرط الدولة الموريتانية ضمن تحالفات إستراتيجية ” معلنة أو غير معلنة ” في المنطقة منها ما هو متعلق بمكافحة الإرهاب ومنها مراقبة الحدود البرية والبحرية لصد تدفق الآلاف من الجوعى المهاجرين و الفارين من جحيم الحروب والاقتتال الداخلي ببلدانهم جنوب الصحراء، كما تقدم موريتانيا أراضيها الشاسعة ( 1.303.700 كم2)، لتفريغ النفايات القادمة من الدول المصنعة.

كل هذه الخدمات التي تقدمها لدول الشمال وحتى لدول الجوار مثل الجزائر، تدخل في مقابل الحصول على استثمارات بائسة تنعش الاقتصاد المأزوم بفعل تراكم الديون، وضع ينتج عنه كذلك التحكم الدائم في السياسة الداخلية للبلد عبر رسم خارطة طريق لتدبير القطاع العمومي ووضع خطط اقتصادية مجحفة واتفاقيات غير متكافئة مع دول صناعية كبرى وغيرها من مظاهر فقدان السيادة بفعل رهن البلد وثرواته لمن هم أقوى اقتصاديا وعسكريا.

إلغاء الديون الموريتانية مطلب فوري.

الصورة أعلاه توضح ملامح الاقتصاد الموريتاني المأزوم بفعل تراكم الديون وارتفاع فوائدها، وانعكاس ذلك على الوضع الاجتماعي الغارق في البؤس.

فلا تنمية حقيقية إلا بإلغاء الديون غير المشروعة، وتوجيه خيرات البلد إلى الإنفاق الاجتماعي.

فلنرفع شعار:  إنهم ينهبون الشعب… فلتسقط الديون الموريتانية .

 

الهوامش :

  • المواقع الالكترونية:

موقع الخزينة العامة الموريتانية .

وكالة الأنباء السعودية على النت.

موقع أنباء الموريتاني

موقع أخبار نواكشوط.

موقع مال وأعمال ل الأخبار الاقتصادية موريتانيا

وكالة كيفه للأنباء

الأخبار أنفو موقع موريتاني.

موقع الحصاد الموريتاني.

موقع الحقائق أنفو الموريتاني

  • المقالات المنشورة على اللأنترنيت:

المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية

مقال :الديون تهدد الاقتصاد الوطني ديون معقدة وأرقام غائبة منشور على موقع ديلول الموريتاني .

مقابلة مع الاقتصادي أحمد ولد نافع منشورة في مدونة هموم الفكر والواقع.

مقال :أحمد ولد نافع: الاقتصاد الموريتاني من أمال الإصلاح إلى مأزق الفقر

منشور على موقع الجزيرة نت.

مقال: النقد يقرض موريتانيا 16 مليون دورلا، الجزيرة نت.

مقال: صندوق النقد يشيد باقتصاد موريتانيا،الجزيرة نت.

تقرير: التجمع الخماسي تنسيق في ظل التعقيدات .الجزيرة نت.

مقال : الديون الخارجية تحاصر اقتصاد موريتانيا الهش. لمحمد فال الشيخ على موقع العربي الجديد.

مقال: موريتانيا مدينة للكويت بضعف ميزانيتها

مقال: النفط ومأزق التنمية في موريتانيا، أحمد ولد نافع

مقال: الانتعاش الاقتصادي و عوامل الاستقرار السياسي ل عيسى ولد الداهي.

  • 1 : الوكالة الفرنسية من أجل التنمية: أداة مالية ومنفذ رئيسي للمساعدات التي تقدمها فرنسا، وتعمل بالتعاون مع مؤسسات مالية أخرى.( البنك الدولي و البنك الافريقي و البنك الاوربي للاستثمار و الوكالة اليابانية للتعاون الدولي.

بقلم: على أزناك. عضو مجموعة كلميم والنواحي.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى