لم يكن حفل التأبين الذي نظمته الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، يوم السبت 20 دجنبر 2025 بدار المحامي بمدينة الدار البيضاء وذلك بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل المناضل سيون أسيدون، مجرد لحظة استذكار عابرة، بل كان فعلا نضاليا بامتياز، واستعادة جماعية لمعنى الالتزام في زمن التباس المواقف وتآكل القيم. فقد تحول الفضاء إلى مرآة عكست مسار رجل اختار منذ بداياته أن يكون في صف القضايا العادلة، دون مساومة أو حسابات ضيقة.
الحضور الوازن لرفاقه ورفيقاته وأصدقائه أكثر من 350 مشاركة ومشارك، إلى جانب ممثلي هيئات سياسية وحقوقية وثقافية ونقابية وجمعوية، لم يكن حضورا بروتوكوليا، بل شهادة حية على عمق الأثر الذي تركه الراحل في مسارات نضالية متعددة. كلمات التأبين لم تكتف بتعداد المناقب، بل فتحت نقاشا ضمنيا حول الإرث الذي خلفه سيون أسيدون، إرث قوامه الوضوح المبدئي، والجرأة في مواجهة التطبيع، والإيمان الراسخ بعدالة القضية الفلسطينية باعتبارها بوصلة أخلاقية لا تقبل الانحراف.
لقد كان الراحل واحدا من الأصوات القليلة التي لم تفصل بين النضال الوطني والنضال الإنساني/الأممي، ولم تتعامل مع فلسطين كشعار ظرفي، بل كقضية مركزية تختبر صدقية المواقف والاختيارات. وفي زمن بات فيه التطبيع يُقدَّم كأمر واقع، ظل سيون أسيدون منتميا إلى جبهة الحق، مدافعا عن الحق، ومذكرا بأن الذاكرة لا تُطبّع، وأن العدالة لا تسقط بالتقادم.
وجاءت الفقرات الفنية والإبداعية التي احتضنها حفل التأبين عرض مسرحي، وفقرات موسيقية لكل من مامون سلاجي، عبد الفتاح النكادي- عمر الراضي، وكريم كشتاف (لم يسمح الوقت بمشاركة فناني الراب حمزة رائد وختك من تقديم مساهمتهم)… لتؤكد أن النضال ليس خطابا سياسيا فقط، بل هو أيضا فعل ثقافي وجمالي، قادر على ملامسة الوجدان وصون الذاكرة الجماعية من النسيان. هكذا بدا التأبين وكأنه وعد متجدد بمواصلة الدرب، لا رثاء لنهاية، بل احتفاء باستمرار المعنى.
في أربعينيته، لم يغِب سيون أسيدون، بل حضر بقوة، كضمير يقظ يذكّرنا بأن الانحياز للقضايا العادلة ليس ترفا أخلاقيا، بل مسؤولية تاريخية. وربما يكون هذا هو درسه الأبلغ: أن المناضلين الحقيقيين لا يرحلون، بل يتحولون إلى أسئلة مفتوحة في وجه الصمت والتواطؤ.

كلمة أطاك المغرب في حفل تأبين الفقيد سيون أسيدون
الحضور الكريم
رفيقات ورفاق، صديقات وأصدقاء الفقيد سيون أسيدون
نلتقي اليوم لتأبين المناضل الكبير سيون معطي أسيدون، الذي غادرنا يوم 7 نونبر، بعد مسار نضالي استثنائي كرسه، بعناد ووفاء، لخدمة قضيتين اعتبرهما واحدة لا تنفصل: قضية الشعب المغربي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وقضية الشعب الفلسطيني في التحرر والعودة. برحيله، لا نفقد فقط مناضلا صادقا، بل نخسر ضميرا حيا ظل يقاوم حتى آخر نفس.
لقد كان سيون أسيدون رجلَ مبدأٍ لا يساوم، ومناضلا صلبا دفع ثمن مواقفه اثنتي عشرة سنة من الاعتقال السياسي خلال مع اصطلح عليه سنوات الرصاص، دون أن تنكسر إرادته أو تخفت قناعته بعدالة ما يناضل من أجله. خرج من السجن أكثر صلابة، وظل وفيا لقيمه، منخرطا في مواجهة الاستبداد والفساد، ومدافعا عن حقوق الشعب المغربي في الكرامة والعدالة الاجتماعية، مؤمنا بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالنضال الجماعي.
ومن هذا الوعي النضالي العميق، احتلت فلسطين مكانة مركزية في مسيرته. فقد كان من مؤسسي حركة المقاطعة BDS بالمغرب، ومن أبرز وجوه مناهضة التطبيع، حاضرا في الشارع، وفي الحملات الشعبية، وفي النقاش العمومي، لا يكل ولا يمل. شارك في المسيرات المليونية، وفي “معركة الموانئ”، سواء ضد شركة ZIM أو ضد الشركات المحملة بالأسلحة بعد 7 أكتوبر 2023، وفي حملات مقاطعة الشركات المتورطة في دعم الاحتلال (كارفور وغيرها)، مؤمنا بأن المقاومة الشعبية، المتجذرة في وعي الناس وتنظيمهم، تشكل ركيزة أساسية في معركة التحرر، وأن دعم فلسطين ليس شعارا بل ممارسة يومية.
ولأن النضال عند سيون أسيدون لم يكن خطابا مجردا، فقد تميز برفضه القاطع للفصل بين الفكر والممارسة. كان مثقفا مناضلا ومناضلا ميدانيا في آن واحد: يكتب البيانات، يوزع المناشير، يشارك في الوقفات، يحضر الاجتماعات، ويكون الأجيال الجديدة، مؤمنا بأن النضال فعل جماعي لا يعرف الزعامة المتعالية ولا الامتياز.
ومن هذا المنطلق نفسه، لم يقتصر نضاله على القضية الفلسطينية، بل كان حاضرا أيضا في معارك الحريات والدفاع عن ضحايا القمع بالمغرب حيث انخرط لسنوات في النضال الحقوقي من أجل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والمطالبة بـ كشف الحقيقة كاملة حول المختطفين والمختفين قسرا، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب. كما لم يتوقف عند حدود التضامن، بل دعم بقوة إعادة إدماج المعتقلين السياسيين السابقين ورد الاعتبار لهم اجتماعيا وإنسانيا، إيمانا منه بأن العدالة لا تكتمل دون جبر الضرر وضمان الكرامة لمن دفعوا ثمن مواقفهم دفاعا عن الحرية.
ولأن الحريات كل لاينفصل، فقد واكب وساهم بقوة في التعبئة التضامنية التي رافقت ملف الموسيقيين الشباب، معتقلي الهارد روك سنة 2003، حين جرى الزج بأربعة عشر شابا في السجن بتهم عبثية مست حرية التعبير والاختلاف الثقافي. شارك الراحل في الحملة التضامنية، وكان حاضرا في الحفل الرمزي الذي نُظم بمركب محمد زفزاف بالدار البيضاء، والذي شكل لحظة قوية في مسار رد الاعتبار لهؤلاء الشباب، ورسالة واضحة ضد القمع والتشهير والوصاية على الإبداع. بهذا الموقف، جسد مرة أخرى التزامه الثابت بالدفاع عن الكرامة الإنسانية، ووقوفه الدائم إلى جانب المظلومين، مهما اختلفت قضاياهم.
وانسجاما مع هذا المسار، كان سيون أسيدون من المدافعين الثابتين عن حرية الرأي والتعبير. شارك في العديد من الوقفات والمسيرات التضامنية مع الصحافيين المعتقلين عمر الراضي، وسليمان الريسوني، وتوفيق بوعشرين، معتبرا أن استهداف الصحافة الحرة هو استهداف مباشر لحق المجتمع في الحقيقة والنقاش العمومي. كما ساند بقوة معتقلي ومعتقلات الرأي، وفي مقدمتهم معتقلة الرأي سعيدة العلمي، منخرطا في كل المبادرات الحقوقية المطالبة بإطلاق سراحهم. بذلك، جسد أسيدون وحدة المعركة بين فلسطين والحريات والديمقراطية، مؤكدا أن النضال من أجل العدالة لا يتجزأ.
وفي السياق ذاته، كان الراحل حاضرا بقوة في دينامية حركة 20 فبراير، حيث لم يتخلف عن النزول إلى الشارع إلى جانب الشابات والشبان المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لم يكن حضوره رمزيا، بل مشاركا فعليا في النقاش، منفتحا على الحوار، سخِيا بالأفكار والمقترحات، ومؤمنا بدور الشباب في إحداث التغيير. وقد شكل وجوده دعما معنويا وفكريا للحركة، مجسدا قناعته الراسخة بأن بناء مغرب الحرية والعدالة لا يتم إلا بمشاركة الأجيال الجديدة.
وكان سيون أسيدون واضحا وحاسما في تعريفه لهويته، إذ اعتبر نفسه مغربيا أمازيغي الجذور، منحدرا من عائلة يهودية مغربية، دون أن يعني ذلك أي انتماء ديني أو سياسي للصهيونية. شدد مرارا على رفضه التام للخلط بين اليهودية كهوية تاريخية وثقافية، وبين الصهيونية كمشروع استعماري عنصري. واعتبر أن فلسطين كانت دائما القضية الجامعة التي وحدت المغاربة، حتى عندما اختلفوا حول قضايا أخرى، في دلالة عميقة على مركزيتها في الوعي النضالي المشترك.
وإذ نستحضر اليوم الجبهات المتعددة في نضال الراحل، فلأن ما أشبه اليوم بالبارحة. فالهجوم على الحريات ما يزال مستمرا، بل بلغ مستويات خطيرة:
- في التعامل القمعي مع جيل Z، الذي رفع مطالب مشروعة من أجل الحق في التعليم والصحة، وفي ربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك عبر الاعتقالات والأحكام القاسية التي وصلت في بعض الحالات إلى أكثر من 15 سنة، وشملت حتى القاصرين؛
- وفي استهداف الفنانين، كما في حالة الفنان حمزة رائد والفنان جواد أسرادي (بوز فلو)؛
- في استمرار اعتقال نشطاء حراك الريف ا منذ ما يقارب تسع سنوات لذين طالبوا بمطالب مطالب اجتماعية تركزت حول تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في منطقة الريف، وتشمل: التعليم (بناء جامعة ومؤسسات تعليم عالي)، والصحة (مستشفى جامعي ومركز للسرطان، تحسين المستشفيات القائمة)، الاقتصاد (خلق فرص عمل، دعم الصناعات المحلية، محاربة الفساد)، والحقوق (إطلاق سراح المعتقلين، محاكمة المسؤولين عن الاختلالات، إلغاء الظهير العسكري للمنطقة)، بالإضافة إلى المطالب الثقافية (مراكز ثقافية ودور شباب) ؛
- قمع الحريات والتجمعات النضالية آخرها ما تم يوم 19 دجنبر 2025 ضد ساكنة مدينة أسفي المنكوبة واستمرار معاناة ضحايا السياسات النيولبرالية في كل من فجيج وطاطا والحوز وفاس وآسفي…
- قمع ومتابعة المناضلين من أجل مقاطعة الشركات المطبعة مع الكيان الصهيوني في كل من طنجة رضوان القسطيط، سلا (اعتقال 13 ناشطا في أعضاء الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع)، وأسفي ، ناهيك عن قمع العديد من المسيرات والوقفات السلمية ، وحرمان العديد من الجمعيات المناضلة من حقها في وصولات الإيداع والحق في التنظيم.
كما أن التطبيع مع الكيان الصهيوني بلغ بالمغرب مستويات خطيرة وغير مسبوقة، شملت المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، كما امتدت إلى مجالات الثقافة والإعلام والتعليم. لم يعد التطبيع مجرد قرار رسمي، بل يجري السعي إلى فرضه كأمر واقع داخل المجتمع، في محاولة لتبييض جرائم الاحتلال وتطبيع الوعي مع الاستعمار والقتل اليومي للشعب الفلسطيني. وهو ما يجعل المعركة التي خاضها الراحل ضد التطبيع أكثر راهنية وإلحاحا، باعتبارها معركة دفاع عن السيادة الأخلاقية للمجتمع، وعن الحق والعدالة وكرامة الشعوب.
إن أحسن تأبين يمكن أن نقدمه للراحل، هو السير على منواله، وتوحيد صفوفنا، وجعل كل مجال من مجالات النضال رافدا للآخر، حتى يتحقق ما كان يطمح إليه: مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
في الختام، فإننا نظم صوتنا لكل المطالبات والمطالبين بكشف الحقيقة كاملة حول ظروف وملابسات الحادث الذي تعرض له، ونجعل من المطالبة بتحقيق شامل ومسؤول جزءا من الوفاء له، وامتدادا طبيعيا لنضاله ضد الظلم والإفلات من العقاب.
برحيل سيون أسيدون، نفقد مناضلا صادقا، لكننا نكسب إرث أخلاقيا ونضاليا ثقيلا، يحملنا مسؤولية الاستمرار في الطريق:
طريق الحرية، والكرامة، والعدالة، والنضال ضد التطبيع نصرة لفلسطين.

كلمة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS
الحضور الكريم،
الأصدقاء والرفاق،
نلتقي اليوم في أربعينية صديقنا وأخينا ورفيق دربنا سيون أسيدون (المعطي كما يحب أن ينادى)، لا لنستحضر الحزن،بل لنؤكد، وبحزم لا يقبل التأويل، أن رحيله لم يكن نهاية لقضية، ولا غيابًا لصوت، ولا طيًّا لملف. أربعون يومًا مرّت، وما زال حضوره حيًا في ضمائرنا، في مواقفه الصلبة، وفي القيم التي عاش من أجلها ودافع عنها دون مساومة أو تراجع.
لقد كان سيون، قبل كل شيء، أخًا وسندًا ومناضلًا صلبًا في الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته، ثابتًا في رفضه للصهيونية وكل أشكال التطبيع، وحاسمًا في موقفه الرافض لمرور أي سفينة من أساطيل دعم الاحتلال عبر أرضنا أو موانئنا، لما تمثله من تواطؤ مباشر في إطالة عمر الإبادة الجارية بحق الشعب الفلسطيني. لقد كان نموذجًا نادرًا للمناضل الذي جمع بين الشجاعة الأخلاقية، والالتزام المبدئي، والوفاء لقضايا العدالة والحرية.
إن وفاءنا الحقيقي لسيون لا يُقاس ببلاغة الكلمات، بل بصلابة المواقف، وبالاستمرار العملي على نهجه، وبالتمسك غير المشروط بالمبادئ التي عاش من أجلها حتى آخر لحظة. ومن هذا المنطلق، نؤكد اليوم، وبأوضح العبارات، أننا سنعمل دون تردد أو تراجع، ومع جميع الهيئات الحقوقية والنضالية الوطنية والدولية، على الكشف الكامل والشامل عن حقيقة ما تعرّض له صديقنا سيون أسيدون، وأننا لن نقبل بأي محاولة للتسويف أو الطمس أو الالتفاف على الحقيقة، ولن نتراجع قيد أنملة حتى تتحقق العدالة كاملة غير منقوصة.
كما نُجدّد مطالبتنا الصريحة والحازمة بإجراء تحقيق مهني وجاد ودقيق، مع نشر نتائجه كاملة وبكل شفافية أمام الرأي العام الوطني والدولي المتابع لهذا الملف. إن كشف الحقيقة في هذه القضية ليس مطلبًا عائليًا أو حقوقيًا فحسب، بل هو واجب أخلاقي وقانوني تجاه من كرّس حياته للدفاع عن الحقيقة والكرامة والعدالة، ورفض الصمت حتى آخر أنفاسه.
نؤمن إيمانًا راسخًا بأن العدالة لا تسقط بالتقادم، وأن الصمت عنها تواطؤ مرفوض، وأن الحقيقة، مهما طال الزمن، لا بد أن تظهر. ومن هنا، نُجدّد العهد أمام روحه، وأمام أنفسنا، وأمام كل الأحرار، بأن هذا الملف سيبقى مفتوحًا، وأن صوت الحق سيظل أعلى من كل محاولات التعتيم أو النسيان أو الإفلات من المسؤولية.
لروح صديقنا وعزيزنا المجد والخلود،
ولنا العزم والقوة لنحمل رسالته بأمانة وثبات،
حتى تتحقق الحقيقة، وتنتصر العدالة.
الدار البيضاء، 20 دجنبر 2025