الديون

آن الأوان أن نعيد لمعاداة الرأسمالية بريقها

آن الأوان أن نعيد لمعاداة الرأسمالية بريقها

دانييل تانورو

ليست الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي اليوم مجرد انكماش مألوف، بل هي انهيار تاريخي عميق. إنها نتيجة لاقتران عديد من التناقضات منها بالخصوص، التناقض بين العزم على تقليص الأجور والعزم على بيع مزيد من السلع، والتناقض بين عولمة الاقتصاد واستحالة تشكيل حكومة عالمية من قبل الدول المتنافسة، والتناقض بين الطابع الاجتماعي للاقتصاد والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، والتناقض بين رفع متواصل للإنتاج والحدود المحصورة لكوكب الأرض…

لا يعالج النظام الرأسمالي هذه التناقضات بقدر ما يؤجلها ويزيدها تعقيدا كما ترينا الأمثلة الكثيرة. فالمديونية كـ “حل” للتناقض بين انخفاض حصة الأجور في الناتج الداخلي الخام وارتفاع كمية السلع المعروضة للبيع نتجت عنها الأزمة المالية لسنة 2008،  كما أدت محاولات الدول لإنقاذ البنوك الى أزمة المديونية، ونتجت عنها سياسات تقشف حولت الانكماش الى ركود اقتصادي ، ويحفز انتقال مركز الثقل الرأسمالي نحو بلدان آسيا ذات الأجور المنخفضة التنافس الامبريالي الذي يزيد من استحالة “الحكامة العالمية”، وتقوي محاولة الحد من الأزمة البيئية بمنح قيمة للموارد الطبيعية استحواذ الرأسمال على الطبيعة، وبالتالي، تدميرها، إلخ.

تقود أزمة النظام الرأسمالي البشرية الى تفاوت اجتماعي متزايد، وبؤس جماهيري معمم، وبطالة كثيفة دائمة، واستغلال شديد للأجراء، و ميز حاد إزاء المضطهدين وخصوصا النساء. وستعمق الكوارث البيئية هذا الظلم والفوضى التي تعم الكوكب، وستتجلى النزعات الاستبدادية بشكل أكبر، وتتعزز النزعات القومية والعنصرية،  وتكبر مخاطر الحرب…

مأزق المطالبة “بحفز الانتعاش” الاقتصادي

سيكون وهما الرهان على تغيير سياسة الرأسمالية لتفادي هذه المخاطر، وحتى رأسمالية نيو- كينزية محافظة على البيئة وذات طابع “اجتماعي” ليست سوى أمنية فارغة، حيث أن تغيير النموذج السائد يستدعي مواجهة مع الرأسمال المالي، وأيضا مع الاحتكارات الكبرى التي ترتبط بالوقود الأحفوري، سينتج عنها انخفاض معمم لمعدل الربح، وهو أمر غير مقبول بالنسبة للرأسماليين. وبالتالي، ستلجأ البرجوازية الى تعميق الوصفات النيو – ليبرالية، متذرعة بالقوانين الاقتصادية الحتمية، لتحجب الطابع السياسي لخيارها الطبقي البغيض والوحشي. ومثال الاتحاد الأوروبي يوضح لنا ذلك: تبيع بلدان منطقة اليورو نسبة 80% من انتاجها داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيسمح بسياسة ترتكز على اشغال عمومية كبرى تحافظ على البيئة وتخلق مناصب الشغل. إلا أن الرأسمال المالي يرفض ذلك، ويبقى هدف الحكومات المتواطئة معه هو تحطيم ما تبقى من المكاسب الاجتماعية، وذلك عبر تكسير جميع المقاومات، واضعاف جميع المنظمات التي يصعب احتواؤها.

تطالب الجبهة النقابية المشتركة بـ “خطة لحفز الانتعاش لخلق مناصب شغل نوعية”، وهي بذلك تسقط في مأزق. أولا، “خلق مناصب شغل نوعية” هو مطلب فضفاض، وكان عليها بالأحرى أن تطالب بوضع حد للبطالة الجماهيرية البنيوية (23 مليون عاطل في الاتحاد الأوروبي عدد هائل)، وأن تؤكد بالخصوص على استحالة سياسة تشغيل جديرة بهذا الاسم دون تفكيك النظام المالي (الذي يفضل المضاربة على الاستثمار).

تفكيك النظام المالي

يستتبع تفكيك النظام المالي تأميم قطاع القروض لوضعه رهن اشارة الشعب (دون تعويض كبار المساهمين). سيتم الاعتراض على أن هذا المطلب بعيد المنال في ظل موازين القوى الحالية. حسنا، لكن يجدر بنا وضعه في المنظور التاريخي والتعبئة عليه في الاوساط الشعبية. فمجموع الأجراء يدركون أن البنوك تمارس ديكتاتورية اجتماعية وسياسية، وحتى الديمقراطية التمثيلية لم تعد تخدعهم. يكفي إذن أن نعمل على تحويل هذا السخط إزاء البنوك الى انتفاضة شعبية.

“الإرادة تفتح الطريق وتنيره” يقول لينين. فالحركة النقابية يمكنها اقناع المجتمع بأن القروض هي ملك عمومي وخدمة عمومية، إذا قامت بحملة تشهير نشيطة ضد النهب الذي يمارسه الدائنون مقرونة بتعبئة من أجل مطالب مباشرة. لكن عوض أن يتمحور ملفها المطلبي على هذا، نجدها تطالب “بضبط النظام المالي والبنكي ودعمه فعليا”، ولا تقدم أي توضيحات بضرورة منع الأموال المضارباتية وتحويل الديون الى سندات للتداول، ومنع المضاربة فيها، وارساء رقابة على حركات الرساميل، وفرض رسوم على المعاملات المالية، ، والغاء الجنات الضريبية، إلخ.

 احداث التقارب

إن المطالبة بإلغاء الديون غير الشرعية هي وحدها الكفيلة بتحقيق التقارب بين هذه المطالب الملحة وتأميم نظام القروض. فمنذ سنة 2008 والدول تصرف الأموال لإنقاذ البنوك المفلسة محولة بذلك الديون الخاصة التي رفض الرأسماليون تسديدها الى ديون عمومية، وتتكبد الشعوب تقل المديونية الناتجة عن الضمانات العمومية التي تقدمها الدول للبنوك.

ولمواجهة ذلك، تطالب الجبهة النقابية المشتركة بإجراءات لكي “يساهم الرأسماليون الكبار أيضا في هذا الانقاذ الى جانب المنعشين العقاريين والمقاولات”. حسنا، لكن الرأسماليين الأغنياء هم دائنون رئيسيون للدولة، وحملهم على أداء فوائد الديون يعني اغناء الاغنياء. وهذا أمر سخيف جدا. يجب التمييز، من جهة، بين فرض ضريبة على الثروات تخصص لتلبية الحاجيات الاجتماعية والبيئية عبر اعادة تمويل الخدمات العمومية والتعليم، ومن جهة ثانية، بين المديونية التي يجب تدقيقها وإلغاء الديون غير الشرعية، وفي انتظار ذلك، سن قرار بوقف التسديد.

يسمح انغراس النقابات في القطاع البنكي بالمساهمة في تدقيق الديون، وبأن تبين للسكان بالملموس بأن حفنة من اللصوص برباطة عنق يسلبونهم بتواطؤ مع الحكومة.  وهكذا، لن يبدو مطلب تأميم نظام القروض مجرد نزوة “ايديولوجية”، بل سيتجلى كضرورة بديهية لأسباب اقتصادية وسياسية واخلاقية. ويمكننا تطبيق نفس المقاربة لإقناع أغلبية المجتمع بفكرة أن الطاقة هي ملك عمومي، وبأن قطاع الطاقة يجب أن يأمم  هو أيضا خدمة للمصلحة الجماعية وتوفير التشغيل والحفاظ على البيئة، بمعنى شروط حياة الأجيال القادمة.

تقليص مدة العمل

تبين الأزمة البيئية ضلال النقابات في المطالبة بـ “خطة لحفز الانتعاش”، والتي تعني حفز انتعاش الرأسمالية، أي حفز نهب ثروات كالوقود الأحفوري الذي يغطي 80% من حاجيات الطاقة ويساهم بشكل رئيسي في التغيير المناخي. وبما أن الطاقة النووية ليست حلا كما بينت كارثة فوكوشيما، فليس هناك مجال للتردد أمام الحركة النقابية التي يجب الا تعول على حفز اقتصاد السوق، بل تدرج مطالبها في افق اقتصاد ينتج لتلبية الحاجيات الاجتماعية المحددة بشكل ديمقراطي والمحترمة للبيئة.   

إن المستتبعات الفظيعة للاحتباس الحراري تجعل منه مسألة اجتماعية أو اجتماعية- بيئية حاسمة تطرح بإلحاح كبير ضرورة بديل لنزعة الرأسمالية الانتاجية. و على الحركة النقابية أن تتقدم بمطالب ملموسة وعلى رأسها التخفيض الجذري لمدة العمل دون تخفيض الأجور مع توظيف تعويضي وتقليص وتيرة العمل، وهو ما يعد جوابا على مشروع الرأسمالية بتمديد مدة العمل، ومطلبا اجتماعيا- بيئيا بامتياز. وللأسف، ليس لهذا المطلب وجود في الملف المطلبي النقابي.

“آن الأوان لنعيد للنجوم بريقها”، كما قال أبولينير، آن الأوان لنرفع من جديد المطالب الرئيسية المعادية للرأسمالية والمتمثلة في تأميم البنوك والطاقة وتقليص مدة العمل، وآن الأوان لبلورة استراتيجيات لإقناع الجماهير بهذه الافكار مما سيجعلها تكون قوة مادية.

9 فبراير 2012.

دانييل تانورو Daniel Tanuro. مهندس زراعي ومناضل بيئي. صدر له كتاب: “استحالة رأسمالية خضراء” بسنة 2011.

URL : http://passerellesud.org/ Daniel-Tanuro -L-impossible.html

المقال صدر بالفرنسية بعدة مواقع الكترونية :

Il est temps de rallumer l’anticapitalisme

ترجمة “ممكن”.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى