يعيش العالم منذ 2008 على إيقاع أزمة نظامية ورأسمالية متداخلة : بنكية، مالية، اقتصادية، غذائية، مناخية… هي كذلك أزمة حكامة. هذه الأزمات المتداخة ناتجة عن المضاربات في الأسواق العالمية، بحيث يقدم المضاربون على شراء المنتوجات (المستقبلية) من أجل بيعها بأثمنة غالية. ولعل الأزمة الغذائية التي هزت الأسواق العالمية منذ 2007 سببها المباشر هي المضاربات التي أدت إلى ارتفاع أثمان المواد الغذائية حتى بات ما بين 850000 و 1 مليار نسمة يعانون من المجاعة جراء هذه الأزمة.
مجموعة الثمانية (G8) ومجموعة العشرين (G20)، بالرغم من اجتماعاتها المتكررة لم تستطع إيجاد حل للأزمة لأنها أزمة عالمية وشاملة وبالتالي تحتاج إلى حلول شاملة. فكان الحل الوحيد في نظر الدول الامبريالية الكبرى هو اللجوء إلى مزيد من الديون حتى دخلنا أزمة المديونية من بابها الواسع، وأصبحت بلدان كاليونان مثلا على حافة الإفلاس جراء تراكم ديونها العمومية. فحجم الديون العالمية (الخاصة والعمومية، الداخلية والخارجية) يصل إلى 158 ألف مليار دولار منها 41 ألف مليار دولار، أي نسبة 25% ديون عمومية و الباقي ديون خاصة. ونسبة الدين الخارجي للدول النامية لا تتعدى 1%، إذن هي جزء بسيط من مجموع الديون. و بالتالي فإلغاؤها لا يمكن أن يحدث أزمة.
مركز الأزمة: أوربا وأزمة الديون
مركز الأزمة العالمية يوجد حاليا في أوربا مع أزمة الديون العمومية والخاصة (الأبناك). إلا أن الأزمة كانت قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية بين 2007 و 2008 بفائض الإنتاج المتعلق بالعقار مما أدى إلى انخفاض في الأثمان، وعدم قدرة العائلات على السداد نتج عنه انهيار الأبناك والشركات الصناعية الكبرى كجينرال موتورز (Général Motors) في قطاع السيارات. كان لهذا تأثير مباشر على أوربا نظرا لارتباط البنوك في ما بينها و التي اشترت سندات الديون الأمريكية مما أدى إلى خسائر كبيرة للأبناك الأوربية وانهيارها و بيعها فيما بعد.
لقد تم إنقاذ الأبناك المنهارة من طرف الدولة ( مثال ايرلاندا ، ايسلاندا، بلجيكا و هولاندا) حيث تم تحويل الديون الخاصة إلى ديون عمومية و بالتالي خوصصة الأرباح و تعميم الخسائر. نتج عن هذا مشاكل اجتماعية كالبطالة (تسريح العمال المغاربة بإسبانيا وإيطاليا وغيرها) و مشاكل اقتصادية ( تراجع المداخيل الضرائبية، ارتفاع الديون، إذن مشاكل في سداد الديون و مضاربات في اليونان و البرتغال وإسبانيا ) أي نفس المشاكل التي تعرفها الدول النامية منذ سنوات حيث تفرض الدوائر المالية (صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوربي واللجنة الأوربية) برامج التقشف شبيهة ببرامج التقويم الهيكلي التي فرضت ولا زالت على دول الجنوب.
الآثار الاجتماعية للأزمة بالولايات المتحدة الأمريكية و أوربا
أولا: بالولايات المتحدة الأمريكية تم طرد 14 مليون أسرة من مساكنها و بأوربا ارتفعت نسبة البطالة لتصل إلى 20%، بل إلى 40% بالنسبة للشباب ما بين 16 و 25 سنة. وهي حالة مقلقة بالنسبة لهذه الفئة من الشباب.
بأوربا هناك آليات للوقاية الاجتماعية تقلص من حدة آثار الأزمة لكن برامج التقشف المفروضة على الدول تقلص وتحد من هذه الحقوق المكتسبة.
ثانيا: العلاقات مابين المركز و الهامش بأوربا (شبيهة بالعلاقة ما بين مركز الامبريالية العالمية والدول الهامشية) جعلت ألمانيا و فرنسا تراقبان و تستفيدان و تفرضان على دول الهامش (باقي دول أوربا) التنازل عن سيادتها. فالثلاثية، أو ما يعرف ب”الترويكا” أي صندوق النقد الدولي واللجنة الأوربية والبنك المركزي الأوربي هي التي تقرر وتمارس ضغطها على الدول وتفرض عليها شروطا قاسية.
ثالثا: الاتحاد الأوربي تأسس لفائدة الشركات الكبرى وخدمة لمصالحها، وليس لخدمة مصالح الدول وشعوبها. ولأدل على ذلك أن الأبناك المركزية لا تقدم القروض إلى الدول (بناء على معاهدة لشبونة يمنع على الأبناك العمومية تقديم قروض للدول). فالبنك المركزي الأوربي يقدم القروض للأبناك الخاصة بسعر فائدة 1% وهذه الأخيرة (الأبناك الخاصة) تقرض الدول بسعر فائدة يصل إلى 5% أو 6%، و بالتالي تخضع الدول لشروط الأبناك الخاصة ومناوشاتها وتصبح مضطرة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول مخططات التقشف. وهنا، وفي ظل المضاربات في الأسواق المالية، تتدخل الأبناك المركزية لتعيد شراء سندات الديون وتطالب بسعر فائدة أكبر.
الديون غير الشرعية والكريهة بأوربا
أفضل مثال عن الديون غير المشروعة والكريهة بأوربا هي ديون اليونان. هذه الأخيرة عرفت أول ارتفاع ما بين 1967 و 1974 في ظل النظام الديكتاتوري العسكري. وفي 2004 تم تنظيم الألعاب الأولمبية بمدينة أثينا التي كانت سببا في الارتفاع الثاني للديون العمومية اليونانية. قدرت في البداية تكاليف الألعاب الأولمبية ب 1,5 مليار أورو لتصل هذه التكاليف في نهاية المطاف إلى 20 مليار أورو أي 13 مرة أكثر مما كان متوقعا. السبب هو “الفيلة البيضاء”، أي المشاريع الضخمة التي استفادت منها شركات خاصة متعددة الجنسية مثل سييمنس الألمانية التي قدمت قرابة 1 مليار أورو كرشوة لفائدة رؤساء الأحزاب للحصول على العقدة الخاصة بتأمين الألعاب ومع ذلك لم يتم تشغيل هذا القطاع الخاص بالتأمين.
السبب الثاني لارتفاع حجم ديون اليونان هي التكاليف العسكرية التي تصل إلى 4% من الناتج الداخلي الخام. فاليونان يأتي في المرتبة الثانية من بين دول حلف الشمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة الأمريكية في ما مجال التسلح، ويحتل المرتبة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. واليونان تقتني الأسلحة أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و ألمانيا. وبرامج التقشف المفروضة على اليونان من قبل الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوربي تلزم اليونان بخفض المصاريف الاجتماعية دون المس بالتكاليف العسكرية، مما يؤثر سلبا على أوضاع العمال وبصفة عامة على الأوضاع الاجتماعية للساكنة.
وماذا عن دول الجنوب؟
تصل الديون العمومية الخارجية لدول الجنوب إلى 1460 مليار دولار وتمثل 1% من الديون العمومية العالمية. وأما إجماعي ديون دول الجنوب (الخارجية والداخلية) فتمثل نسبة 3% من مجموع ديون العالم، أي نسبة ضئيلة.
ما هو إيجابي بالنسبة لدول الجنوب أن أثمان المواد الأولية مرتفعة في الأسواق العالمية منذ 2003 – 2004، وبالتالي فإنها (أي دول الجنوب) لا تجد مشكلة في سداد الديون كما كان الحال في الثمانينات.
وإذا كان النظام المغربي قدم تنازلات تحث ضغط الشارع حيت رفع من الأجور على سبيل المثال، فإن العكس يقع في دول الشمال إذ أقدمت عدة حكومات على خفض الأجور، تقليص المصاريف الاجتماعية، تسريح العمال…
مثال آخر لهذا التناقض الحاصل اليوم أن البرازيل سددت قبل الآجال ديونها وأصبحت تقدم قروضا لصندوق النقد الدولي ولليونان. فبعض دول الجنوب تشتري سندات الديون من دول الشمال لكنها غير قادرة على قلب الوضع الحالي لصالحها. كما أن بعض دول الجنوب تمول من الشمال بسعر فائدة ضعيف لكن الوضع قد يتغير مرة أخرى وينقلب على دول الجنوب بأكملها كما حدث في السابق.
البدائل الممكنة
ونحن نعيش اليوم على إيقاع أزمة الديون التي انطلقت من أوربا، لابد من الدفع بإجراء افتحاصات للديون بمختلف الدول وبخاصة تلك التي حكمتها دكتاتوريات خلفت ديونا غير شرعية وكريهة. وقد سبق لدولة الإكوادور التي لا يتعدى عدد سكانها 13 مليون نسمة أن أجرت افتحاصا لديونها الداخلية والخارجية وأوقفت سداد الديون منذ 14-11-2008. وهناك عدة مبادرات بدول أخرى (البرازيل، الفلبين، مالي) ولجان افتحاص تشكلت بكل من اليونان وفرنسا وإسبانيا وإيرلاندا وبلجيكا. ويهدف الافتحاص إلى إجراء تحليل دقيق لديون البلد للنظر في المبالغ المحصل عليها وفي العقد الموقعة والمشاريع المنجزة وسعر الفائدة (إن كان ربويا)، إلخ.
أكد تقرير افتحاص الديون بالإكوادور، الذي أنجزته لجنة مكونة من وزراء وبرلمانيين وممثلي الحركات الاجتماعية وخبراء أجانب، أن جزءا مهما من الديون التي شملها الافتحاص هي غير شرعية. على إثر ذلك أعلن رفائل كوريا رئيس الإكوادور عن تعليق سداد سندات الخزينة وأقدم على إعادة شرائها بنسبة 35% من قيمتها وبذلك استطاع توفير 7 مليار دولار استثمرها في القطاعات الاجتماعية وخلق مناصب الشغل. إذن انطلاقا من هذا المثال البسيط يتبين أنه بالإمكان جدا إلغاء الديون. وعلى دول الجنوب إجراء افتحاصات للديون وأخذ مبادرة من الحركات الاجتماعية لإجراء افتحاصات شعبية للديون العمومية لأن جزءا مهما منها غير مشروع.
ربيع الشعوب
ربيع الشعوب الذي ظهر بالجنوب (مع إسقاط نظام بنعلي في تونس ونظام مبارك في مصر) وامتد لدول الشمال (حركات احتجاجية، حركة الغاضبين باسبانيا ثم بباقي دول أوربا وبالولايات المتحدة الأمريكية) يبشر بخريف ساخن خاصة وأن يوم 15 أكتوبر 2011 عرف عدة مظاهرات في مختلف عواصم العالم تلبية للنداء العالمي من أجل ديموقراطية حقيقية. في مدريد خرج حوالي 500 ألف متظاهر، في روما حوالي 200 ألف وفي واشنطن حوالي 10 آلاف متظاهر.
حركة 20 فبراير بالمغرب، التي ننظر إليها بكل تفاؤل وأمل للخروج من أزمة الرأسمالية، لها بطبيعة الحال علاقة مع حركة الغاضبين بأوربا (إسبانيا واليونان وغيرها) باعتبار أن كل هذه الحركات الاحتجاجية تطالب بفرض وتكريس ديموقراطية حقيقية. أما الديمقراطية بالدول الغربية، وخاصة بأوربا، فهي ديمقراطية شكلية ولأدل على ذلك أن الشعب الأيرلندي مثلا صوت بلا في الاستفتاء حول المعاهدة الأوربية وطلب منه أن يعيد التصويت مرة ثانية لأن تصويته الأول لم يكن جيدا ! وأيضا مثال بلجيكا التي شاركت حكومتها المستقيلة في العمليات العسكرية للحلف الأطلسي ضد ليبيا. ثم مثال أيرلندا التي صوتت مرتين ضد تسديد الديون لبريطانيا وهولندا.
إننا نعيش إذن ميلاد حركة عالمية شبابية لاحتلال الساحات العمومية لأن الحكومات هي في خدمة الأبناك الخاصة وليس في خدمة الشعوب.
لقط سقطت عدة دكتاتوريات في السابق (منذ 25 سنة) في حالات مماثلة لما يقع الآن، الأمر الذي أدى بالامبريالية العالمية إلى التراجع نسبيا عن دعم ومساندة الدكتاتوريات بدول الجنوب. وظهرت ببعض الدول أنظمة ديمقراطية لكنها تواصل نهج نفس السياسات النيوليبرالية، بل وأحيانا أكثر مما هو متوقع.
في أمريكا الجنوبية كانت هناك ديكتاتوريات حاكمة، تلتها أنظمة ديمقراطية وبعد 15 سنة ظهرت حركات احتجاجية أدت إلى بزوغ أنظمة تقدمية في كل من فنزويلا، الإكوادور و بوليفيا. لكن مع ذلك حكومات هذه الدول لها سلبياتها ولا زلنا نلمس لديها فرقا بين الخطاب والتطبيق (مثال المشاريع المؤثرة على البيئة في بوليفيا).
إذن، رغم ما يقع في العالم مع الثورات العربية وإسقاط أنظمة ديكتاتورية في بعض الدول، لن يتغير شيء إذا لم تتعبأ أكثر الحركات الاحتجاجية. ولا بد من مواصلة الضغط على الحكومات لتحقيق تقدم ملموس. فالطريق لا زال شاقا ولا شك أن إسقاط نظام ديمقراطي يتطلب جهدا أكثر مما يتطلبه إسقاط نظام ديكتاتوري.