تخلد اطاك المغرب الذكرى السادسة لحراك الريف وبهذه المناسبة نعيد نشر مقال “السمات العامة للحراك الشعبي في الريف” بقلم العربي حفيظي.
- الوضع بمنطقة الحسيمة والريف عموما
وصل عدد سكان إقليم الحسيمة، حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014، إلى 399654 نسمة، تتوزع هذه الساكنة على 40 جماعة بينها خمس جماعات حضرية فقط وهي: الحسيمة، امزورن، بني بوعياش، تاركيست، اجدير. وتضم سكان المجال الحضري ما مجموعه 127543 نسمة، وبذلك تشكل الساكنة الحضرية نسبة 31.91% من مجموع سكان الإقليم مقابل معدل وطني يساوي 60.03% حسب نتائج الإحصاء المشار اليه أعلاه. وهذا مؤشر أول على حجم التهميش الذي يعانيه الإقليم. لذلك نجد ضمن مطالب الحراك تعزيز الشبكة الطرقية بين مختلف مداشر إقليمي الحسيمة والدريوش والإسراع ببناء الطريق السريع بين الحسيمة وتازة وتحسين الخدمات التعليمية والصحية والترفيهية مع المحافظة على البيئة وجمالية المنطقة والحد من جشع لوبيات الفساد.
يجب الإشارة، أيضا، إلى ان مؤشرات التغطية الصحية لسنة 2012([1]) تؤكد ان عدد السكان لكل سرير يصل إلى 1218 بينما المعدل الوطني هو 1152، أما عدد السكان لكل طبيب فهو 3393 بينما المعدل الوطني هو 2883 وتبقى الإصابة بأمراض السرطان من أكبر المخاطر الصحية التي تهدد ساكنة الريف، حيث يمثل الريفيون المصابون بسرطان الانف و الحنجرة، مثلا، 90% من الإصابات الوطنية[2] لذلك يطالب الحراك بإحداث مستشفى جامعي بإقليم الحسيمة، وإتمام أشغال المستشفى الإقليمي محمد الخامس وتوفير طاقم طبي في جميع التخصصات، مع وضع حد للفوضى والتسيب الذي يعيشه المستشفى واعتبار هذا المطلب مستعجلا، وتجهيز مركز تحاقن الدم بالآلات اللازمة وامداده بطاقم طبي متخصص، و بناء مستشفى خاص بالسرطان في القريب العاجل بكل مستلزماته وطاقمه الطبي، وهو أيضا مطلب استعجالي، والإسراع باستكمال أشغال مستشفى إمزورن وفتح تحقيق في الخروقات التي طالته، مع توفير طاقم طبي كفيل بتلبية الخدمات اللازمة بمستشفى تاركيست. ثم تعميم المستوصفات والخدمات الطبية على باقي مداشر وقرى إقليم الحسيمة والنواحي، مع تزويدها بمختلف الآلات الضرورية (إسعاف، راديو، أدوية) وكل الموارد البشرية الكفيلة لمباشرة العمل بها.
يمثل معدل نسبة الأميين بالمغرب، حسب البحث الوطني حول محو الأمية لسنة 2012، 28% أما بإقليم الحسيمة فتصل النسبة إلى 29.4 % علاوة على انتشار الانقطاع المدرسي بسبب غياب البنيات اللازمة (كما نرى على الرابط رفقته بجماعة شقران مثلا[3]) وأيضا هناك استمرار للبناء المفكك الذي يحتوي على مادة الاميونت المضرة بالصحة، وأزيد من 750 قسم مشترك برسم الموسم الدراسي 2015/2016، وأحيانا يتم تجميع 6 مستويات في قسم واحد[4]. لذلك كان التعليم حاضرا ضمن مطالب الحراك من خلال المطلب المتعلق بتوسيع شبكة المؤسسات التعليمة (الابتدائية، الاعدادية، التأهيلية) بكامل أسلاكها على امتداد الريف وهو المطلب الذي يدل على الحاجة إلى تغطية مختلف مناطق الريف بالمؤسسات التعليمية اللازمة وهو مطلب يساهم في تقليص الهدر والانقطاع عن الدراسة
أما مطلب فتح مختلف التخصصات والشعب والمسالك التعليمية المعتمدة من قبل وزارة التربية الوطنية، مثل: التخصصات التقنية والعلمية، و الأقسام التحضيرية… فيسمح للتلميذات والتلاميذ بالدراسة دون حاجة إلى التنقل بعيدا عن مقر سكناهم.
أما النشاط الاقتصادي فيرتكز أساسا على الصيد البحري، حيث يشغل القطاع عمالة تقدر ب 7000 عامل، بينهم 3200 بحارا (1900 في وحدات الصيد الساحلي، و1300 في قوارب الصيد التقليدي). وقد بلغت كمية التفريغ في مينائي المدينة ما مجموعه 174 11 طنا، بقيمة 117.2 مليون درهم. ويعتبر ميناء الحسيمة خامس ميناء مغربي في حجم الإنتاج السمكي.[5] فمطالب هذا القطاع ضمن حراك الريف لم يحظ بها أي قطاع آخر (7 مطالب ضمن 41 مطلبا في المحور المتعلق بالشق الاقتصادي أي 17% من هذه المطالب).
هذا ما يدل على مدى ارتباط الساكنة الأساسي بهذا القطاع وعلى التهميش الذي يعانيه الإقليم بسبب ضعف بنيته الاقتصادية في مجالات الصناعة والفلاحة والخدمات مما ينعكس سلبا على وضع التشغيل.
نستطيع إظهار ذلك أيضا من خلال المطالب التي رفعها الحراك في مذكرته المطلبية حيث يطالب بجعل سهل النكور منطقة فلاحية لا منطقة إسمنتية تتسابق إليها لوبيات العقار، وتشجيع الفلاحين البسطاء وتقديم يد المساعدة لهم واستغلال مؤهلات المنطقة الفلاحية لتحقيق اكتفاء ذاتي غذائي. وعلى المستوى الصناعي يطالب الحراك بالإسراع في تنفيذ أشغال المنطقة الصناعية بتغانيمين المخصصة للمهنيين والحرفيين، والتشجيع على خلق معامل خاصة بتصبير السمك، وخلق معامل خاصة للصناعة الغذائية، عبر امتياز ضريبي في هذا المجال…
و مع ذلك فقد سجلت الحسيمة، بين 2007 و2012، نسبة 9.4% في ارتفاع مؤشر أثمان الاستهلاك، حسب المندوبية السامية للتخطيط (أي بمتوسط سنوي قدره 1.9%)، محتلة بذلك المرتبة الثانية على المستوى الوطني بعد الدار البيضاء، مما يجعلها إحدى المدن المغربية التي تعرف تضخما سريعا في كلفة المعيشة. هذا ما يجعلنا نفهم مطلب الحراك المتمثل في مراقبة أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية وتخفيضها بما يتلاءم والقدرة الشرائية للمواطنين، ووضع حد للوبيات المحتكرة لتوزيع تلك المواد الغذائية وبخاصة في مجال سوق الخضر والفواكه.
أهم المكونات التي أدت إلى هذا الارتفاع هي السلع والخدمات (26%) والتعليم (18.4%). نسب التضخم هاته، والتي لا تتناسب مع النشاط الاقتصادي للحسيمة مقارنة بالدار البيضاء، يمكن تفسيرها بعائدات المهاجرين من أبناء المنطقة، والتي تتأثر بانسداد أفق الهجرة وبالأزمة الاقتصادية في أوروبا، وهذا ما ينعكس على الوضع الحياتي والمعيشي لسكان هذه المنطقة.
مقابل هذا الوضع الهش على المستوى الصحي والتعليمي وعلى مستوى التشغيل…وعلى الرغم من انتظارات الساكنة القديمة والجديدة، فقد ظلت الفوضى في التدبير ونهب المنطقة مستمرين، لذلك طالب الحراك بالحفاظ على شواطئ الإقليم وعدم السماح بالتسيب والفوضى في تدبيرها، وإعادة النظر في المركب التجاري ميرادور ومعاقبة المتورطين في كل الاختلالات (طريقة توزيع المحلات، طريقة بناء المركب وتصميمه..) والكف عن نزع الأراضي بمبرر المنفعة العامة، مع ضرورة فتح تحقيق نزيه في ملفات نزع الأراضي التي عرفها إقليم الحسيمة مع تعزيز آليات الرقابة عند تفعيل مسطرة النزع وتوفير ضمانات قانونية لمن سرت عليهم هذه المسطرة، والتوقف عن مصادرة الأراضي السلالية بالريف وإرجاع ما تم سلبه منها. يتضح إذن مدى النهب الذي تتعرض له المنطقة لصالح أصحاب الأموال وعلى حساب فقراء المنطقة.
أما مشاريع الدولة التي أطلقت سنة 2015 لتمتد إلى سنة 2019 في إطار “الحسيمة منارة المتوسط” بغلاف مالي بقيمة 6,515 مليار درهم، والتي تضمنت خمسة محاور (التأهيل الترابي، النهوض بالمجال الاجتماعي، حماية البيئة وتدبير المخاطر، وتقوية البنيات التحتية وتأهيل المجال الديني)، فقد جاءت إثر خطاب رسمي بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة سنة2004. إحدى عشرة سنة لتفعيل توصيات !!! فكم من الوقت سنحتاج لإنجازها؟؟؟ بالفعل شاب تلك المشاريع (والتي أخذ منها الحراك العديد من مطالبه مع تكييفها) الكثير من التماطل وربما التراجع والإلغاء بسبب ضعف الميزانية التي تعرف اقتطاعات متواصلة لتلبية الحاجيات اللازمة لتسديد كلفة الديون، وهذه الكلفة ما انفكت تتعاظم بتعاظم الديون العمومية. وتحت ضغط الحراك اضطرت الدولة للاعتراف بالتأخر الحاصل، وبأمر من فوق، تشكلت لجنة للتفتيش خلال المجلس الوزاري المنعقد يوم السبت 24 يونيو2017، ضمت اللجنة كبار موظفي المفتشية العامة لوزارة الداخلية والمفتشية العامة لوزارة المالية، للنظر في تعثر المشاريع المبرمجة في إطار برنامج “الحسيمة منارة المتوسط”، خلال الفترة الممتدة ما بين 2014 و2016.
لنا اليقين أن اللجنة لن تجيب على ما هو أساسي، و لن تقول بأن سبب تخلف بنيات الصحة والتعليم وارتفاع نسبة البطالة راجع بالأساس إلى السياسات الليبرالية المرتكزة أساسا على ضبط التوازنات المالية، بتوجيه من المؤسسات المالية والتجارية الدولية، وذلك على حساب الحاجيات الأساسية لسكان البلد. فالصحة في تدهور، وقد تعمق الوضع منذ صدور مرسوم مارس 99 الذي جعل منها خدمة مقابل الأداء. نفس الشيء بالنسبة للتعليم، خصوصا منذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999، الذي فتح الباب للخواص للاستثمار في قطاع التعليم، حيث ادارت الدولة ظهرها تاركة المواطنين وجها لوجه مع مستثمرين جشعين. بالطبع لن تكون جهود اللجنة خاوية الوفاض ستجد كبش فداء للتضحية به وتحميله مسؤولية الهجوم العنيف والمتواصل على قوت الفقراء وحياتهم.
ولولا الحراك لكانت تلك المشاريع أو جلها ضمن ذكريات أهالي المدينة كما حدث مع مشاريع مماثلة في العديد من الجهات، وهي مشاريع غالبا ما يتم الإعلان عنها دون تنفيذها والاكتفاء بالدعاية لها تلميعا لصورة الحكام الفعليين، ودفع الناس الى الاعتقاد أن هناك أيادي خفية تعرقل وتقبر المشاريع.
جاءت مطالب حراك الريف دقيقة وشاملة تستجيب لحاجيات المقصيين والمهمشين، ويتداخل فيها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والنسائي والبيئي، وحتى النقابي (إيجاد حل لعمال الميناء غير المنضوين تحت أي هيئة (الحمالة..) وحمايتهم من الناحية القانونية (التغطية الصحية الإجبارية، التقاعد). وفي نفس الوقت تمثل تلك المطالب طموح كل الطبقات الاجتماعية، وهكذا نقف مثلا على مطلب بناء جامعة متكاملة التخصصات، الذي يعكس ارادة كافة أبناء الريف خاصة الطالبات، اللواتي يجدن صعوبات ذات طابع ثقافي، والفقراء الذين تعوزهم الحاجة، عندما يتعلق الامر بالتنقل والإقامة بمدن أخرى لمواصلة التعليم العالي.. نقف كذلك على مطلب بإقامة معامل خاصة لتصبير السمك، عبر منح امتياز ضريبي في هذا المجال ومطلب الإعفاء أو الامتياز الضريبي للمقاولات الصغرى والذاتية، غير أن هذين النموذجين لا يمثلان مطالب عموم ساكنة الريف المتعطشة للحرية والكرامة والمستشفى والمدرسة.
إن مطلب الاعفاء الضريبي يستجيب لرغبات البورجوازية الصاعدة الريفية أكثر من استجابته لعموم المواطنين والمواطنات، كما أنه يتنافى مع مطالب الحركات الاجتماعية التي تناضل من أجل فرض تلك الضرائب على الأغنياء لاقتطاع جزء من فائض القيمة لصالح الفقراء. باختصار يمثل تداخل المطالب هذا أحد أوجه ضعف تلك الحركة العظيمة في اقدامها وصمودها وشجاعتها. شكلت مطالب الحراك موضوع اجماع ساكنة المنطقة. لكن في نفس الوقت يشكل الإجماع المذكور أحد أوجه ضعفها لأن الأغنياء لن يذهبوا بالمعركة حتى النهاية، وفي الحالات الحرجة سيتخلون عن فقراء الريف.
لم يكن حراك الريف سحابة صيف في سماء صافية، فمدينة الحسيمة عانت، خلال تاريخها المعاصر، مثل باقي مناطق الريف، من تهميش اقتصادي واجتماعي متعمد ، لذلك فهي بؤرة احتجاج كامن أو متفجر (انتفاضة الريف 1958-1959 وانتفاضة 1984) ينتج عن هذا الواقع شعور لدى معظم الساكنة بتهميش منطقتهم و الانتقام منها وقد يصل هذا الإحساس حد الرغبة في الانفصال. يرتكز هذا الشعور على التجانس العرقي الذي يجعل من تهميش المنطقة تهميشا لريافة، أغنياء وفقراء، نساء ورجالا. شعور سمته الأساسية عزة النفس المرتكزة على إرث تاريخي في مقاومة باسلة للمستعمر الاسباني والفرنسي والإعلان عن تأسيس جمهورية الريف ما بين 1921 و1926 من القرن الماضي بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويتجلى تأثير هذا الارث في رفع علم هذه الجمهورية دون سواه خلال الوقفات والمسيرات الاحتجاجية و ترديد شعارات مستعارة من أقوال محمد بن عبد الكريم الخطابي، فضلا عن فشل الدولة في تنظيم مسيرات مضادة بالحسيمة والريف عموما.
جاءت حركة 20 فبراير المجيدة على إيقاع مد جماهيري عارم بكامل المنطقة المغاربية والعربية استطاع الاطاحة ببعض رموز الديكتاتورية في المنطقة، بنعلي بتونس وحسني مبارك بمصر، لذلك كانت 20 فبراير قوية ومقدامة بشبابها وشاباتها وعموم المشاركات والمشاركين بها على امتداد التراب المغربي. أبدعت المشاركات والمشاركين في المسيرات والاشكال الاحتجاجية، وفوق كل ذلك، تغلب الناس على الخوف وأصبحت الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية على رأس المطالب في كل شكل نضالي وفي كل الأماكن. لذلك كان من الصعب العودة إلى ما قبل 20 فبراير، رغم أن كل الاحتجاجات كانت مشتتة، عفوية وبدون تنظيم، ورغم تمكن الدولة من الالتفاف على مطالبها بتقديم تنازلات سطحية دون المساس بجوهر السلطة.
كانت الحسيمة والريف عموما في قلب هذا البركان. وما يزيد من حنق الريفيين والريفيات هو مقتل خمسة شبان حرقا، بوكالة بنكية يوم 20 فبراير، والذين طمست نتائج التحقيق بشأن الأسباب الحقيقية لمقتلهم لحد الآن. لذلك لايزال مطلب الكشف عن الحقيقة حاضرا وهذا ما نجده ضمن مطالب الحراك: الكشف عن حقيقة ملف الشهداء الخمسة في البنك الشعبي خلال أحداث 20 فبراير 2011.
لم يكن مقتل بائع السمك، الشاب محسن فكري، يوم 28 اكتوبر 2016 سوى السبب المباشر الذي أذكى من جديد كل الآلام والأحقاد وإحياء الشعور بالإهانة، وأن حياة الناس وكرامتهم لا تساوي شيئا أمام عبث واستخفاف السلطة والمسؤولين. من الواضح أن الشعور بالإهانة والاستخفاف بحياة الناس يتساوى فيه أهل الريف مع كافة المغاربة، فقبل مقتل محسن فكري ماتت فدوى العروي و مي فتيحة، وبعد مقتله مات غازي خلادة و غيرهم لأسباب تتعلق بالإهانة و الاستخفاف، ومع ذلك لم تنفجر احتجاجات شعبية واسعة بمناطق الضحايا. لكن بمنطقة الريف، اجتمعت كل الشروط المشار إليها أعلاه لينفجر الحراك، هذه المرة، قويا مدويا، ولا شك أنه يمثل، لحد الآن، (إلى جانب جرادة)، أهم حركة جماهيرية بعد 20 فبراير. فما هي مميزات هذا الحراك؟
2- مميزات الحراك الشعبي بالريف
2-1 قوة الحراك:
2-1-1- مشاركة جماهيرية واسعة ممتدة في الزمان والمكان.
بدأ حراك الريف بوقفة احتجاجية ليلة مقتل محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016، و خلال هذه الوقفة برزت وجوه شابة لم تكن معروفة من قبل بانتماء سياسي أو حزبي، تحاور الشباب مع السلطات المحلية وتشكلت لجنة لمتابعة قضية الشهيد و نجحت في حشد قطاعات من خريجي الجامعات و المعطلين وفئات اجتماعية متذمرة من الفقر والبطالة وغياب البنيات التحتية مثل الطرق المعبدة والمستشفيات والجامعات، و في تنظيم عدة مسيرات، و سرعان ما تطورت إلى لجنة الحراك الشعبي بالريف وتمكنت من بناء ملف مطلبي يتضمن مطالب اقتصادية و ثقافية و اجتماعية و بيئية.
تتميز هذه المطالب بشموليتها وبكونها مباشرة، ملموسة، وتمثل حاجيات السكان وتطلعهم لحياة كريمة. في الواقع، هي مطالب سياسية لأنها موجهة للملك، ولأن تحقيقها يتطلب القطع مع مجمل السياسات الليبرالية وتفضيل الاستثمار والأرباح على حياة ملايين البشر.
بفضل وضوح مطالب الحراك وطريقة بناء الملف المطلبي المتمثلة في النقاشات العامة في بنيات تحتية ديمقراطية، ومشاركة لجن الأحياء، بفضل سلمية الاحتجاجات، فضلا عن العوامل المشار اليها أعلاه، انخرطت جماهير واسعة، ، حتى المترددة منها، في المسيرات الشعبية بالحسيمة وبالريف عموما، وتمكنت من مواصلة نضالها على ما يزيد من سنة، ولم يتوقف النضال، رغم تدخل آلة القمع وفرض ما يشبه حالة حصار على المدينة، وخفوت التضامن على المستوى الوطني. والأكيد أن الدولة لن تتمكن بعد هذه التجربة الطويلة والغنية بالدروس من هزم إرادة الريفيين، حتى وإن تمكنت بــقوانينها ووسائل دعايتها وجوقتها ومحاكماتها وسجونها من إيقاف الحراك، لأن الجزء الهام من دوافعه لايزال على جدول الأعمال.
2-1-2- قيادة محترمة
بــمقتل بائع السمك، محسن فكري، انبثقت قيادة شابة لقيادة الحراك، وسطع نجم ناصر الزفزافي ومحمد جلول وسليمة الزياني(سيليا) وآخرون. تمكن الزفزافي بكاريزميته، وجلول بإرادته وعزمه، وسيليا بنبرتها الحازمة وصوتها الصادح، من اكتساب احترام منطقة بأكملها. وخلال بضعة أشهر تحول شباب مغمورون إلى قادة ميدانيين.
التسيير الديمقراطي للمعارك والاحترام النضالي للقادة والثقة بهم، شروط لا غنى عنها لإنجاح المعارك النضالية. نتذكر كيف كانت أشرطة الزفزافي مادة إعلامية في بيوت ومقاهي الريف، وكيف يستجيب الريفيون والريفيات لنداءاته، وحتى عندما تدخل بأحد مساجد الحسيمة بعد هجوم الفقيه على الحراك وقادته، لم ينتقده السكان ولم يتخلوا عنه، فقد تفاعل معه المصلون وانسحب جزء هام من المسجد.
شكل هذا التلاقي بين القيادة الديمقراطية وثقة الجماهير فيها ووضوح المطالب ومساهمة السكان في اعدادها أحد أهم عناصر نجاح الحراك واستمراره.
2-1-3- مكانة النساء في الحراك الاجتماعي.
لا تقتصر مشاركة النساء على تلك الوجوه البارزة بحراك الريف كسليمة الزياني، نوال بنعيسى، ياسمينة الفارسي وغيرهن، ولا على المثقفات و الجامعيات و المتعلمات بل تمثلت في خروجهن بكثافة للمساهمة في إنجاح الحراك. ويمكن اكتشاف ذلك بسهولة من خلال صور وفيديوهات المسيرات[6] التي نظمتها النساء كمسيرة يوم الأربعاء 08 مارس، حيث قررت نساء الحسيمة النضال بطريقتهن، للاحتجاج ضد الاستغلال والتهميش والحكرة وقد نجحت المسيرة واستطاعت تجميع آلاف النساء رغم محاولات الدولة بث البلبلة والشغب بدس جمهور كروي في المسيرة، ، الشيء الذي لم يزد سوى في تقوية عزم النساء وارادتهن الكفاحية. نظمت النساء أيضا مسيرة يوم الأحد 04 يونيو 2017 تضامنا مع حراك الريف و المعتقلين. كما شاركن في مسيرات عديدة جنبا إلى جنب مع الرجال وكانت مشاركتهن وازنة، من أهمها تلك التي تم تنظيمها يوم 20 يوليوز 2017 والتي عرفت تدخلات عنيفة للقوى القمعية حيث لعبت النساء أدوارا متعددة سواء في التنظيم، القيادة، أو مد المصابين بالماء والبصل.
حطمت مشاركة النساء الواسعة تلك الصورة النمطية عن كون الريف منطقة محافظة، من الصعب مشاركة نسائها في النضال. إن لخروجهن ما يبرره. لم تخرج نساء الحسيمة للنضال لاقتسام مقاعد برلمانية أو لإقرار مساواة على الأوراق كما هو حال جل الحركة النسائية. لقد خرجن، عاطلات وربات بيوت وفلاحات وعاملات، لأن الحدث كان تاريخيا ومقنعا والنساء عادة لا تخلفن المواعد التاريخية الكبرى كما هو حال نساء باريس خلال ثورة 1789 أو نساء بتروغراد اللواتي خرجن للنضال خلال الثورة الروسية سنة 1917. للنساء الفقيرات والمهمشات مشاغل يومية كثيرة وثقافة ذكورية تجثم على صدورهن، لذلك ليس لهن وقت لتضييعه، لا يخرجن الا إذا كانت الاحداث كبيرة ومؤثرة وهذا بالضبط ما وقع بالريف.
2-1-4 التضامن الداخلي ودور المهاجرين بأوروبا في الحراك
أشعل حراك الريف من جديد لهيب الاحتجاجات الشعبية بمختلف المدن المغربية وخرجت جماهير الكادحين، على امتداد البلد، تردد من جديد شعار الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية معلنة تضامنها مع ساكنة الريف أو مطالبة بتحقيق مطالبها المحلية. لقد قطع هذا التضامن الطريق على الدولة وجوقتها الذين حاولوا تجريم الحراك والصاق تهم الانفصال به. ويوم الأحد 28 ماي 2017 خرجت 53 مدينة وبلدة للتضامن علاوة على عشرات الوقفات التضامنية بمختلف المدن وتشكلت في أبريل 2017 لجنة وطنية لدعم حراك الريف كما تم تنظيم مسيرة وطنية بالرباط يوم الاحد 11 يونيو 2017 شارك فيها عشرات الآلاف وكذلك مسيرات ووقفات احتجاجية يوم 20 يونيو 2017 بمختلف الأقاليم المغربية تخليدا لذكرى انتفاضة 20 يوينو 1981 مطالبة برفع العسكرة عن الريف بدعوة من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. كما شارك العديد من المناضلات والمناضلين بمسيرة يوم 20 يوليوز 2017 بالحسيمة التي خلفت استشهاد عماد العتابي. لم تنجح إذن، كل محاولات النظام في طمس حركة 20 فبراير وقبر مطالبها واتضح أن كل تنازلاته الشكلية ومناوراته وقمعه لم تقم سوى بتأجيل انفجار الغضب الشعبي. كما تنكشف من جديد أزمة تنظيم وقيادة الحركة الجماهيرية المقدامة والراغبة في تحسين مستوى حياة ملايين البشر، ويتأكد أن الحركة العفوية والمشتتة لا يمكن أن تنتصر على دولة منظمة تنزل بكامل ترسانتها الايديولوجية، الدينية والاعلامية، وأجهزتها القمعية لمحاصرة أنصار الحرية.
اما أبناء الريف بالمهجر، فقد عبروا عن تضامن رائع ومنقطع النظير مع أبناء منطقتهم ولعبوا بذلك دورا كبيرا في التعريف بمنطقتهم ومشاكلها ومطالبها لدى الرأي العام الأوربي، كما ساهموا إلى حد كبير في استمرار الحراك ودعمه[7]. ينم هذا التضامن الواسع عن ذاك الإحساس الذي يتقاسمه كل أبناء الريف بكونهم عرضة للتهميش والاقصاء وانتقام الدولة. وهكذا تشكلت العديد من اللجن المحلية بالمدن الاوربية لدعم الحراك، والتي اجتمعت باسبانيا لتشكيل التنسيقية الأوربية لدعم حراك الريف بهدف” الترافع حول “ملف الريف (الملف المطلبي للحراك الشعبي بالأساس) وخصوصا في جانبه الحقوقي والثقافي، لدى المنظمات الدولية والأممية والدول الكبرى في العالم، وتمثيل الشعب الريفي ميدانيا بجميع أقطار العالم”[8] حسب هذه التنسيقية. و تم تنظيم الوقفات و المسيرات التضامنية بالعديد من مدن أوربا و الولايات المتحدة الامريكية، نذكر منها تلك التي دعت لها لجنة التضامن مع الريف في بلاد الباسك لأجل حشد أهالي الريف و المهاجرين المغاربة ، وكل المناضلين المناصرين للحرية قصد المشاركة المكثفة في المسيرة الاحتجاجية ليوم الجمعة 02 يونيو لفرض الغاء مذكرة المتابعة بحق المعتقلين، وبهدف الاستمرار النوعي والكمي في الحراك الشعبي بالريف. كما خرجت حشود غفيرة من الجالية الريفية للتظاهر بمدينة روتردام، يوم الأحد 04 يونيو 2017، للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي الحراك ووقف المتابعات وتحقيق المطالب. و يوم السبت 17 يونيو 2017جابت مسيرة شارك فيها المئات، شوارع مدينة أمستردام، طالب خلالها المتظاهرون بإطلاق سراح معتقلي ، ثم مسيرة ستراسبورغ الخ”حراك الريف” والقضاء على الفساد. وأصدرت التنسيقية الأوربية لدعم حراك الريف. نداءً إلى كل أهالي الريف وكل الأحرار لـتنظيم قوافل التضامن مع عائلات المعتقلين وذويهم في الريف، تفعيلا لخلاصات بيان صادر عن التنسيقية يوم 24 يونيو 2017، وللمشاركة في مسيرة يوم 20 يوليوز 2017، على أن تنطلق هذه القوافل في اتجاه الحسيمة بداية من 15 يوليوز كما أطلقت الجالية الريفية حملة تضامن واسعة مع ساكنة الريف بكتابة رسائل مختلفة على ظهر أوراق نقدية تضمنت أسماء المعتقلين وشعارات تروم إطلاق سراحهم وناشدت التنسيقية الأوربية الداعمة لحراك الريف أبناء الجالية الريفية بسحب أرصدتها من البنوك المغربية ،ومن مغاربة المهجر غير الريفيين من رفض قمع الدولة للريفيين واحتج على ذلك بحرق جواز سفره وعدم الاعتراف الصريح بالملكية والمطالبة بالجمهورية، وهو حال إحدى العائلات المغربية بإيطاليا[9]. ومن المؤسف أن يتراجع الدعم الوطني للحراك وأن تظهر خلافات داخل التنسيقية أدت إلى انسحاب بعض اللجن الأوربية كما يشير إلى ذلك البيان الصادر عن لجنة الحراك الشعبي الريفي بدوسلدورف الصادر بتاريخ 03/09/2017. لقد شكل هذان العنصران دعامة قوية لحراك الريف، لذلك فضعفهما سينعكس سلبا على هذا الحراك.
2-1-5-عدم الثقة في ممثلي النظام وفي أحزابه
رغم أن مطالب الحراك كانت اجتماعية واقتصادية وثقافية، إلا انها كانت سياسية بامتياز، فبرفض أهل الريف التفاوض مع ممثلي الحكومة ومطالبتهم، بدلاً من ذلك، بالحوار مع ممثل للملك، انما يكشفون حقيقة أن لا سلطة في البلاد إلا سلطة الملك، أي أن شعارات الديمقراطية، التي تتغنى بها الدولة، بما تعنيه من تعدد حزبي و انتخابات و تداول على السلطة الخ ، ليست سوى شعارات زائفة، و لهذا السبب فالمواجهة مفتوحة و مباشرة مع الملكية . بهذا المعنى فمطالب الريف أكثر تجدرا من مطالب حركة 20 فبراير المطالبة بإصلاح النظام السياسي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الملكية. هذا ما ظل يخشاه النظام ، الذي عمل جاهدا، ولعقود، لإقناع عموم المواطنات والمواطنين بجدوى ديموقراطيته التي تجعل من مؤسسات كالحكومة والبرلمان مجرد واجهة لإخفاء حقيقة من يملك السلطة الفعلية بالبلد. لم تأت مواقف أهل الريف من فراغ، فطيلة سنوات عديدة أعطت السلطات وعودا كثيرة لربح الوقت ولجم الاحتجاجات، واتضح أن الحاكم والآمر الفعلي هو الملك. لذلك لن يخطئ أي مجد في توجيه مطالبه إلى المعني الحقيقي بها، خاصة عندما تكون تلك المطالب من حجم مطالب الريف. فمن يستطيع إلغاء ظهير العسكرة غير الملك؟ ومن يستطيع أخذ القرار للاستجابة إلى مطالب الريف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟ الم يكن تدخل الملك إبان 20 فبراير حاسما، فأسكت النقابات بإرسال مستشاره “المعتصم” للتفاوض معهم؟ ..وقرر إجراء ” تعديل” الدستور وتشغيل الآلاف من المعطلين …الخ. هل تصدر الحكومة أو البرلمان هكذا قرارات؟. أم الملك وحده من يمكنه اتخاذها؟. إن الريفيون والريفيات بمطالبتهم الحوار مع ممثلي الملك إنما يكشفون بالملموس وفي العلن طبيعة نظام الحكم بالبلاد: حكم فردي مطلق، يعود فيه اتخاذ القرارات الأساسية للمؤسسة الملكية.
وقد شكل هذا العنصر أحد نقط القوة للحراك الذي استعصى عن التطويع أو الالتفاف على مطالبه بالوعود الكاذبة واللقاءات الماراطونية الفارغة. بعد فشل سياسة الاحتواء، انكشف وجه الدولة الحقيقي عندما كشرت عن أنيابها وحركت ترسانتها الضامنة لحمايتها: المساجد، القمع، الاعتقالات، المحاكم والسجون. وليس غريبا أن يكون انتقام الدولة شرسا وعدائيا، وأن يتجاوز عدد المتابعين أكثر من 400، وهو رقم يفوق عدد المتابعين وطنيا اثناء حراك 20 فبراير خلال سنته الأولى.
مع حراك الريف، أصبحت عبارة “الدكاكين السياسية” مشهورة كنار على علم. لقد عبر قادة الريف، وخصوصا الزفزافي عن رفضهم لتدخل من نعتهم هذا الأخير بمحترفي السياسة، كما رفضوا تدخل الاحزاب يمينا ويسارا، ما يدل على فقدان المواطنين للثقة في الأحزاب التي جربوها في المجالس المنتخبة بالنسبة لأحزاب اليمين أو الجمعيات التنموية بالنسبة لبعض اليساريين، وفي كلتا الحالتين، استنتج القادة الجدد للحراك تعفن تلك الاطارات وميل ممارسيها إلى تغليب مصالحهم الضيقة والخاصة على مصلحة المواطنين والمنطقة.
2-2 حدود الحراك:
2-2-1 سطحية نقد النظام السياسي
على الرغم من رفض الحوار مع ممثلي الحكومة وتوجيه الخطاب مباشرة إلى الملك إلا أن مطالب الحراك تعكس وعيا سياسيا سطحيا في نقدها للنظام الاجتماعي والسياسي بالبلاد ويمكن استنتاج ذلك من خلال نقطتين أساسيتين.
¨ طبيعة المطالب، فهي مطالب تمثل عامة ريافة بغض النظر عن انتمائهم الطبقي، وكما أشرت سابقا فهي تتضمن مطالب الفئات الشعبية الفقيرة (تحسين خدمات الصحة والتعليم والمطالب الثقافية والترفيهية…) كما أنها تتضمن مطالب الاعفاء الضريبي للمقاولات… وهذا المطلب لا يمثل سوى مصالح أصحاب الاموال الريفيين (مافيا العقار، تجار المخدرات..) الراغبين في الاستثمار بالمنطقة، والذين تهددهم مزاحمة كبار الرأسماليين من المغرب أو خارجه، ولأسباب قومية يرون أنهم المؤهلون للاستثمار بالريف. إن تداخل المطالب هذا يحد من الحراك ولا يمكن أن يجعل منه بأي حال نموذجا لتجربة تنير طريق المضطهدين. تذكرنا تلك المطالب من حيث إجماع السكان عليها بحركات التحرر الوطني ضد المستعمر، وهي حركات في مجملها كانت تمثل بورجوازيات محلية أكثر من تمثيلها للفقراء والمهمشين وعموم المضطهدين (بغض النظر عن الانتماء الاجتماعي لقادتها)، ترتكز على محاربة الأجنبي من أجل الحصول على الاجماع. وإن كان هذا يشكل نقطة قوة، لأنه يعمل على استجابة الجميع لنداء الحراك، لكنه يشكل في الوقت نفسه، نقطة ضعف في حالة اشتداد الصراع وما سينتج عنه بالتأكيد من فرز طبقي. إن بوادر هذا التقييم بدأت تلوح في الأفق. فبعد تدخل الدولة، بطرقها القمعية والاحتوائية، انعكس ذلك على التنسيقية الأوربية لدعم الحراك بالانقسام بين المحسوبين على الياس العماري والمعارضين له، كما بدأت لجن محلية بالانسحاب من التنسيقية[10].
¨ استبعاد أي نقد للسياسات الليبرالية في مجملها، تمثل السياسات الليبرالية جوهر الهجوم على مصالح المواطنات والمواطنين الفقراء، وقد اشتدت هذه السياسيات وتعمقت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي بتنفيذ المغرب لتوصيات المؤسسات المالية المانحة للقروض، واشتد هذا الوضع مع ارتفاع مديونية المغرب وتوقيعه على اتفاقيات تجارية غير متكافئة مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الامريكية. فخدمة الديون تقتضي تخصيص جزء من الميزانية لهذا الغرض، وهذا يعني تخفيض الميزانية العامة مما ينعكس سلبا على مجمل القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم. كما أن الاتفاقيات التجارية تتسبب في إغراق بلادنا بالمنتوجات الصناعية والفلاحية القادمة من بلدان الشمال، وهذا ما يقضي على الزراعة المعاشية وعلى المقاولات المغربية وما ينتج عن ذلك من ازدياد في أعداد المهمشين والعاطلين. ففي الوقت الذي نلمس فيه حدة انتقاد قادة الحراك للمسؤولين ولفسادهم، بدءا بالمسؤولين المحليين ووصولا إلى الوزراء والحكومة عموما، ولا يستثنى من هذا النقد سوى الملك، لم نجد أي اشارة لجوهر المشكل والمتمثل في تطبيق سياسات ليبرالية مملات من قبل المؤسسات المالية الدولية، وتنفذها مختلف أجهزة الدولة، بتعاون قائم على المصلحة بين الرأسمال العالمي والرأسمال الكبير المحلي. فبتطبيق هذه السياسات الليبرالية، تظل أوضاع المواطنات والمواطنين متفاقمة مهما كانت جدية المسؤولين واستقامتهم، لذلك نلاحظ تراجع الخدمات العمومية حتى في الدول الاوربية نفسها بسبب هذه السياسات وتحول بلدان اوربية كاليونان إلى ما يشبه دولة من “العالم الثالث”
إن خلط المطالب والتعبير عن كافة الطبقات الاجتماعية وعدم التوجه نحو نقد واضح للسياسات الليبرالية وبالتالي النظام الاجتماعي بمجمله، يجعل من قادة حراك الريف ما يشبه “قادة وطنيين” يركزون على الريف دون سواه ولم يسعوا بجد إلى لعب أي دور في التأثير على باقي مناطق المغرب وتحفيزها للنضال في معركة شاملة ضد الاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، خاصة أن الزفزافي حظي بتقدير واحترام الشبيبة المناضلة على امتداد البلد. وبدلا من لعب دور الموحد تم اللجوء في بعض الأحيان إلى استعمال خطاب عرقي انغلاقي بالتضخيم من مسألة الهوية الامازيغية.
2-2-2 الحراك، الأحزاب، اليساريون العدل و الاحسان
2-2-2-1 أحزاب البرلمان
يدل تأسيس حزب البام وحصوله على نتائج انتخابية هامة خصوصا في منطقة الريف خلال 2011 و2016 على فقدان أحزاب الدولة للمصداقية الشعبية وأفول نجمها، لذلك سعى النظام إلى خلق فريق ليبرالي إداري (البام) للعب دور الوساطة المجتمعية كحزب “حداثي” في وجه حزب العدالة والتنمية الإسلامي ، غير أن عجزه عن إيقاف حراك الريف وبروز “حركة ضمير” وتلويح الياس العماري بالاستقالة، علامات على بحث المخزن عن بديل آخر. أما حزب العدالة والتنمية فقد اصطف إلى جانب النظام و دعا زعيمه، بنكيران، يوم 30 أكتوبر 2016، أعضاء حزبه والمتعاطفين معه إلى عدم الاستجابة لأي احتجاج بخصوص حادث مقتل “سماك” الحسيمة. ولم يشارك أعضاء الحزب و أنصاره في مسيرات التضامن مع الحراك. باقي أحزاب البرلمان الأخرى فاقدة للشرعية، فقد جربتها جماهير الكادحين في الانتخابات واكتشفت في كل مرة أنها جماعات من الانتهازيين لا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة، غير أن ما عمق الهوة مع “الدكاكين السياسية” حسب تعبير الزفزافي، هو تلك التصريحات “اللامسؤولة لممثلي الأحزاب الستة في الائتلاف الحكومي تجاه حراك الريف” والتي اتهموا فيها متزعمي الاحتجاجات بالانفصال وتلقي الدعم الخارجي.
2-2-2-2 دور اليسار
¨ فيدرالية اليسار
في أكثر من مناسبة عبرت فيدرالية اليسار الديمقراطي سواء عبر تصريحات قادتها ، أو بياناتها، أو مبادرات ممثليها في البرلمان عن تضامنها المطلق مع الحراك الاجتماعي السلمي لساكنة الريف ، كما طالبت الحكومة “بإعادة الاعتبار لمنطقة الريف و التحلي بالحكمة والجدية في التعامل مع مطالب الساكنة” وساهمت بشكل فعال ،منذ أبريل 2017، في تأسيس اللجنة الوطنية لدعم حراك الريف رافضة العمل إلى جانب العدل و الاحسان الاسلامية على خلفية انسحاب هذه الأخيرة من حركة 20 فبراير في منتصف الطريق، عكس بعض تيارات اليسار الجذري التي لا تضع شرط اقصاء هذه الجماعة ، لذلك نجدها تشتغل معها جنبا الى جنب في العديد من اللجن المحلية الداعمة للحراك. يشكل موقف فيدرالية اليسار هذا، أحد أسباب إضعاف الحراك فهي من جهة عاجزة عن خلق دينامية واسعة للدعم ولا أدل على ذلك مشاركتها الضعيفة في أهم المحطات كالمسيرة الوطنية بالرباط يوم 11 يونيو 2017 التي هيمن عليها وجود العدل والاحسان أو مسيرة الحسيمة يوم 20 يوليوز 2017 حيث كان وجود الفيدرالية ضعيفا ولم تتمكن من تنظيم قافلة وطنية وازنة، ومن جهة أخرى تسبب هذا الموقف في خلق نقاش عقيم داخل لجان الدعم المحلية بين فيدرالية اليسار من جهة واليسار الجذري والعدل والاحسان من جهة أخرى بخصوص العمل إلى جانب العدل و الاحسان من عدمه، انتهى بانسحاب الفيدرالية من لجان الدعم. لقد جرت مضايقات و اعتقالات في صفوف مناضلي الفيدرالية في العديد من المدن المغربية (تاوريرت، جرادة، وجدة ، بركان، طنجة، تمارة، تارودانت…) إثر مشاركتهم في الوقفات الاحتجاجية وكل الأشكال التضامنية مع الحراك الشعبي في الريف ليوم السبت 28 أكتوبر، و زاد من صعوبة التضامن الحصار المضروب على مدينة الحسيمة وفصلها عن باقي مناطق المغرب (يتعرض كل زائر للحسيمة للتفتيش و المساءلة و ربما الاعتقال)، غير أن الضعف الذاتي وفقدان الجدية في العمل كلها عوامل ساهمت في ذبول أشكال الدعم لأهالي الريف. وبخصوص مشاركة الفيدرالية في مسيرة 20 يوليوز قال عبد السلام العزيز، منسق فيدرالية اليسار الديمقراطي، عشية تنظيم هذه المسيرة “إن الأمناء العامين للأحزاب الثلاثة المشكلة للفيدرالية سيجتمعون مساء اليوم وسيعلنون عن موقف موحد، مؤكدا أن هذا الموقف سيؤكد “على حق المغاربة في التظاهر، والابتعاد عن منطق سنوات المنع والسلطوية، الذي لن يخدم أحدا” كذا.
¨ اليسار الجذري
تميز تدخل اليسار الجذري بالحضور الميداني في كل أشكال الدعم والتضامن مع الحراك وإصدار البيانات والمقالات التحليلية[11] غير انه لم يتمكن من لعب أي دور أساسي في مسار الاحداث بسبب ضعفه التنظيمي أو بسبب فقدان الثقة في عناصر محسوبة على أحد مكونات هذا اليسار. فالعديد من تلك العناصر منغمسة في العمل الجمعوي المحلي النفعي لذلك لم يتردد الزفزافي في الحديث عن الدكاكين السياسية دون استثناء لأحد علما أنه شارك في حملة مقاطعة الانتخابات الأخيرة مع حزب النهج دون أن يكون منتسبا إليه.
¨دور العدل والاحسان
تشكل “العدل والاحسان” الجماعة الأكبر والأكثر تنظيما من بين المعارضين للنظام، غير أنها تحتاج إلى الشجاعة والجرأة السياسية لمواجهة الاستبداد. فقد فوتت العديد من الفرص أبرزها 20 فبراير المجيدة التي كان بإمكانها نظرا لحجمها و قدرتها على التنظيم أن تساهم في تجاوز تلك المطالب الروتينية و تعمل على لف كل المتضررين من وضع التهميش و الاقصاء خصوصا أن الظرف الإقليمي كان يسمح بذلك، و يبدو أن الخوف من مواجهة مفتوحة مع النظام يدفعها إلى الخلف، و تعزز هذا التوجه بعد تجربة الاخوان المسلمين بمصر و انقلاب العسكر عليهم و إلقاء القبض على قادتهم في مسرحية هزلية، لقبر الديمقراطية.
يبدو أنها تنتظر كسب المجتمع بأكمله أو أغلبيته على الأقل للتحرك بجدية !!! العدل والاحسان حاضرة في لجان الدعم كما حضرت بقوة في مسيرة الرباط الوطنية في يونيو 2017، لكن بشكل محسوب لا يخل بالعلاقة التي رسمتها لنفسها مع الدولة: المناوشة دون مواجهة مفتوحة. خلال مسيرة 20 يوليوز بالحسيمة، لم تعلن عن موقف صريح واكتفت ببيان مقتضب نشرته على موقفها الإلكتروني جاء فيه : “ما زالت السلطات المخزنية مصرة على تجاهل المطالب المشروعة لساكنة الريف، ممعنة في قهر المواطنين وهضم حقوقهم ، ولعل آخر الخروقات قرار السلطة بمدينة الحسيمة منع مسيرة 20 يوليوز 2017”.وأضاف البيان الذي لم يوقعه سوى أعضاء الجماعة بالحسيمة أنهم يدينون “هذا المنع المتعسف لأن الاحتجاج السلمي حق تكفله جميع الشرائع والقوانين، ونجدد دعمنا لكل الفعاليات السلمية الداعية إلى تحقيق المطالب المشروعة للمنطقة”. بينما لم تصدر الجماعة موقفا رسميا لقيادتها. وقد طالبت الجماعة في أكثر من مناسبة بـ «الاستجابة” لمطالب المحتجين وإطلاق سراح جميع المعتقلين باعتباره المدخل السليم لحل الأزمة.”
3– ردود فعل الدولة تجاه الحراك
3-1-تجاهل الحراك
سيرا على نهج المستبدين، وعلى الرغم من فظاعة مقتل بائع السمك محسن فكري وما تلا ذلك من احتجاجات على امتداد شهور عديدة، تميز تدخل الدولة بالتجاهل واللامبالاة. فمقتل فكري فجر موجة واسعة وسريعة من الرفض والتضامن سواء بمنطقة الريف أو على امتداد باقي مناطق المغرب، وهكذا نددت يوم 29 أكتوبر، أحزاب وجمعيات بالمغرب بمقتله وطالبت بفتح تحقيق لكشف حيثيات الحادث. ويوم 30 أكتوبر، توقف ميناء مدينة الحسيمة عن العمل، حداداً على مقتله، ومنذ ذلك الحين والاحتجاجات في غير توقف: احتجاجات طلابية خاصة بمدن الشمال، إصدار بيانات من قبل الجمعيات الحقوقية و الهيئات السياسية، تظاهرات عارمة بمدينة الحسيمة و عموم الريف و أشكال احتجاجية تضامنية متعددة بباقي مناطق المغرب (مسيرة الرباط الاحتجاجية الثانية يوم 6 نونبر 2016 …). ومع ذلك لم تتدخل الدولة بشكل رسمي إلا يوم 01 نونبر 2016 بإحالة النيابة العامة لأحد عشر متهما على قاضي التحقيق، مرجحة “القتل غير العمدي” في مقتله ونافية صدور أي أمر بالاعتداء، وهو الأمر الذي عمق الكراهية تجاه الدولة وكشف عدم مصداقيتها، وفي هذا السياق انتشرت عبارة ” اطحن مو” للدلالة على عنف الدولة. ويوم 26 إبريل 2017 أصدرت محكمة الاستئناف بمدينة الحسيمة احكاما مستفزة للمشاعر بإصدار أحكام مخففة في حق المتهمين في قضية محسن فكري (47 شهراً لمجموع المتهمين). أما أحزاب الائتلاف الحكومي فقد أصدرت بلاغا يوم 11 ماي 2017، تحذر فيه من النزعات الانفصالية لحراك الريف، وتتهم النشطاء بتلقي تمويل من الخارج. وأخير، وبعد فشل الرهان على الوسطاء المحليين وعياء المحتجين أو حدوث شرخ في صفوف الحراك، تحرك وفد وزاري مكون من 7 وزراء، يوم 22 ماي2017، في محاولة لتهدئة الوضع.
لقد تجاهل الحكام الفعليون دعوة الحراك إلى تدخلهم المباشر او إيفاد مبعوثين لهم للحوار مع قادة الحراك مباشرة. واكتفى الملك بإشارة خاطفة الى الحراك في خطاب العرش يوم 29 يوليوز 2017 بمناسبة عيد العرش، وفي نفس الخطاب أشاد بتعامل الشرطة مع المتظاهرين قائلا: ” إن قوات الأمن أظهرت ضبط النفس والتزاما بالقانون”. لم تقم المؤسسة الملكية بتقديم تنازلات على غرار ما قامت به لإطفاء حركة 20 فبراير، واكتفت بتحميل المسؤولية للعديد من المسؤولين الحكوميين والموظفين السامين لأنهم قصروا في مهامهم وقامت بإعفائهم من مناصبهم دون متابعة وكلفت وزراء ووسطاء أخرين بالتدخل. لم تشأ المؤسسة الملكية عموما الرضوخ لمطالب المحتجين لأن ذلك سيقلل من شأن الحاكمين وقدسيتهم واحترامهم وربما سيفتح الطريق لمناطق أخرى لنهج نفس الطريق وهذا ما يخشاه الاستبداد الذي أحاط نفسه خلال عقود وقرون بهالة من التقديس.
3-2 العصا والجزرة:
شكل حادث مسجد “ديور الملك” بالحسيمة، إبان خطبة الجمعة ليوم 26 مايو 2017، منعطفا في أحداث حراك الريف لسببين. أولا داخل المسجد استنكر قائد حراك الريف ناصر الزفزافي استغلال المسجد واتهام نشطاء حراك الريف بزرع الفتنة وهي سابقة من نوعها في تاريخ البلاد (مع بعض الاستثناءات الباهتة) . داخل مساجد البلد، يسمح الخطباء لأنفسهم بقول ما يحلو لهم لتبرير السياسات العمومية و لتعزيز مكانة الحاكم و الدفاع عنه، دون حق المستمعين في النقاش أو الرد، لأن من لغى فلا جمعة له. كثر من تستفزهم خطب الائمة ولكنهم يصمتون. الزفزافي كسر هذا الطابو وهو حدث يضع مطلب علمانية المجتمع وعدم تدخل الفقهاء والائمة في القضايا السياسية والمجتمعية على جدول المطالب الديمقراطية. ثانيا، أعطى الحادث للدولة، بعد شهور عديدة من التجاهل، فرصة للتدخل، فكشرت عن أنيابها في محاولة لاستعادة هيبتها بتعبير الخطاب الرسمي، وانطلق مسلسل الاعتقالات والقمع: اعتقال عشرين مناضلا من الحراك يوم “حادث المسجد” بالحسيمة وعدد من مدن الريف، بتهمة “المس بالسلامة الداخلية للدولة”، و”التمويل من الخارج”، ويوم 29 ماي2017، ألقت السلطات القبض على ناصر الزفزافي.، وفي نفس اليوم تجددت المظاهرات في عدد من المدن المغربية تضامناً مع الحراك الشعبي بالريف. بعد أربعة أيام فقط من بداية الاعتقالات ارتفع عدد المعتقلين إلى 71 مناضلا كما تم اعتقال الفنانة سيليا يوم 05 يونيو2017، وتم عرض إعلاميي حراك الريف السبعة المعتقلين على خلفية تغطيتهم للحراك على وكيل عام استئنافية الدار البيضاء يوم 13 يونيو 2017، كما تم إصدار أحكام قاسية يوم 14 يونيو 2017، في حق 32 من نشطاء الريف بلغت سنة ونصف سجنا نافذة لكل من 25 معتقل وشهر واحد موقوف التنفيذ لكل من السبعة الآخرين. وشهد يوم 26 يونيو 2017، قطع الطرقات والقمع والمطاردات والاختطافات والاعتقالات بالحسيمة خلال مسيرة الوفاء للمعتقلين الخ، وفي نهاية أكتوبر 2017 تجاوز عدد المعتقلين 400 معتقلا. و على الرغم من السماح ببعض الأشكال التضامنية إلا أن الدولة تدخلت بحزم لقمع الحراك و منع انتشاره: قمع و تفريق وقفات احتجاجية داعمة لـ”حراك الريف “، في عدة مدن، بينها الرباط والدار البيضاء. يوم 08 يونيو 2017، تم قمع وقفات احتجاجية مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في كل من الحسيمة والرباط. وقد تم قمع وتفريق العديد من الوقفات الاحتجاجية يوم 12 يونيو 2017 بالعديد من المدن المغربية… وامعانا في الإهانة تم تسريب، يوم 11 يوليوز 2017 شريط يصور قائد الحراك ناصر الزفزافي عاريا بمخفر الشرطة. بالتوازي مع القمع و الاعتقالات ومحاولات عزل الحراك و تخوينه باتهامه بالانفصال و تلقي أموال من الخارج، على خلفية التقرير الذي أعده عبد الوفي لفتيت، وزير الداخلية يوم 14 ماي 2014، أقرت الدولة بعدالة مطالب الحراك و انطلقت عدة زيارات لعدد من الوزراء للقاء السكان بشأن المشاريع المعلن عنها في اطار” الحسيمة منارة المتوسط” كما حركت الدولة المجلس الوطني لحقوق الإنسان للتقصي في مزاعم حصول التعذيب، و تعهدت بتوفير المحاكمة العادلة للمعتقلين.
بناء على ما سبق استعملت الدولة في تعاطيها مع حراك الريف كل أشكال الاغراء والقمع والتدليس والمناورة. والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
¨ العمل على تنفيذ مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”.
¨ادعاء احترام الجانب الحقوقي باستعمال المجلس الوطني لحقوق الانسان.
¨فرض ما يسميه الاعلام الرسمي ب “هيبة الدولة” بقمع المتظاهرين وتفريقهم وتوسيع دائرة الاعتقالات في صفوفهم.
قدم الريفيون و الريفيات تضحيات جسام في هذا الحراك ، غير أنهم أجبروا الدولة على تقديم تنازلات كبيرة تتمثل في الاعتراف بمطالبهم وإنجاز مشاريع تهم البنية التحتية و الخدمات الاجتماعية الخ، كما أن الدولة و في محاولة لإخفاء تنازلاتها، ضحت بوزراء و مسؤولين حكوميين بعزلهم من مناصبهم بمبرر تقصيرهم في مهامهم. إنه تنازل شكلي لكنه مهم في ميزان النضال الشعبي و الجماهيري، إذ أنه محاولة من الدولة لطمس انتصار الريفيين على القمع و التنكيل و الاعتقال، فكل انتصار صغير ما هو إلا بداية الطريق نحو انتصار اكبر.
3-3 الوساطة
نظرا لإصرار الحراك على توجيه الخطاب للملك مباشرة، ونظرا لانهيار الوساطة الحزبية التي مثَّلها حزب الأصالة والمعاصرة المكتسح للانتخابات بمنطقة الحسيمة ودوائرها المجاورة بمساعدة من السلطات، ، حاولت الدولة، في شخص فؤاد عالي الهمة، تحميل المسؤولية لحكومة بنكيران بالقول: “لا أريد إطلاقا إحراج السي بنكيران لكن أحداث الحسيمة، كما يعلم الجميع بدأت في بضعة شهور التي كان فيها على رأس الحكومة”.[12]. وفي هذا السياق بادر حزب الاصالة والمعاصرة إلى طرح مبادرة تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول تعثر المشروع الملكي “الحسيمة منارة المتوسط” بل طالب عالي الهمة بمحاكمة الوزراء وإدخالهم السجن[13]. بعد ذلك صدرت برقية من وكالة المغرب العربي للأنباء لتغطية مسيرة الرباط التضامنية مع حراك الريف ليوم 11 يونيو 2017، ونسبت فيها مسؤولية الحراك للحكومة بسبب عدم تنفيذها المشاريع التنموية[14] كل ذلك من أجل حماية المؤسسة الملكية من المواجهة المباشرة مع الحراك. وهكذا تعهد رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، في لقاء مباشر مع القناة الأولى والثانية بعزم الحكومة على تقديم الدعم لأية مبادرة مدنية تسعى للتهدئة وتسوية الملف[15]. هكذا ظهرت العديد من مبادرات الوساطة مثل مبادرة عبد الصمد بلكبير ” خيط ابيض”[16] التي تسعى إلى إقناع ما تبقى من قيادات الحراك بالتهدئة وتوفير أجواء الإفراج عن المعتقلين وكذلك محاولة عائشة الخطابي التي طالبت بالتهدئة وأكدت على أن الملك مُستعد لحل أزمة الريف[17]. أما المبادرة المدنية من أجل الريف” التي تضم في صفوفها خليطا من الحقوقيين وعرابي النظام من أمثال صلاح الوديع، عبد السلام بوطيب وبوبكر لاركو (رئيس المنظمة المغربية لحقوق الانسان) ومحمد النشناش رئيسا للمبادرة فقد زارت الحسيمة والتقت بحقوقيين هناك ومن ترى أنهم قد يؤثرون على مسار الاحداث من أجل الوساطة بين قادة “حراك الريف” وبعض المسؤولين، على أمل إيجاد حل لهذا الملف[18]. كما بادر نور الدين عيوش للوساطة مع فريق يضم كمال الحبيب ومحمد اعبابو والمساوي، وقد التقت اللجنة قادة الحراك بالسجن خصوصا ناصر الزفزافي ومحمد الأصريحي ونبيل احمجيق حيث تركز النقاش أساسا حول طبيعة المطالب وإمكانية إيجاد مخرج للازمة. كما التقت اللجنة عائلات المعتقلين في الحسيمة بمقر الاتحاد المغربي للشغل وقد أكد المعتقلون وعائلاتهم على الطبيعة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحقوقية لمطالبهم. تهدف كل هذه المبادرات إلى تحقيق مبتغى أساسي وهو إيقاف الحراك الشعبي بالحسيمة والريف عموما، وتدعي كلها أنها مع الريف وأهله. كما أنها تعكس فشل عقود من محاولات الاحتواء والترويض. لقد انكشفت الحقيقة وفقدت ساكنة الريف الثقة مطلقا بمبادرات النظام وممثليه. ولأن وجوه المبادرين لم تكن غريبة، لم تحظ بدورها بأي تقدير، لذلك لم تتمكن كل تلك المبادرات من إسكات صوت الأحرار، وحده القمع المفرط والمحاكم والسجون قد يوثران على الحراك. غير أن القمع الواسع لن ينال من العزائم وسيعبد الطريق لمعارك أشمل واقوى.
-3-4 حصار المدينة
الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، هكذا يمكن تلخيص حالة الحسيمة. انتشار بوليسي كثيف في الأزقة والشوارع والمقاهي وفي كل مكان. يمكن أن يتعرض المواطن للمساءلة في أي وقت وربما الاعتقال، إنها تحت الحصار. أما زوار المدينة فيتم استجوابهم فور وصولهم وعن سبب زيارتهم للمدينة ودعوتهم لمغادرتها خاصة إذا تعلق الامر بمناضلين/ت مساندين للحراك[19]. الحصار امتد أيضا إلى العالم الافتراضي وأصبحت الاعتقالات تتم حتى على أساس إبداء رأي مساند للحراك وهذا حال أحد مناضلي حزب الطليعة ببني ملال مثلا.
حالة الحصار هذه تعكس فشل القمع وعجز الدولة على اختراق حراك الريف وعجز وساطاتها على إيجاد مخرج ينقذ ماء وجهها، وفي المقابل يدل على صلابة ومبدئية الريفيين والريفيات وعدم انجرارهم خلف الجوقة المخزنية.
4- على سبيل الختام
يشكل حراك الريف أمارة واضحة على فشل السياسات الليبرالية المرتكزة على تسليع كل مناحي الحياة بسبب التزام الدولة بالخضوع التام لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية وتوقيع اتفاقيات تجارية غير متكافئة مع بلدان عدة خاصة الاتحاد الاوربي كما أنه يدل على عجز سياسة الاحتواء والمناورة التي ما انفكت تنهجها الدولة منذ عقود عبر ابواقها من أحزاب سياسة او أئمة مساجدها أو إعلامها الماسخ. بفضل ادراكهم لعجز الحكومة عن الإيفاء بوعودها ونظرا لالحاحهم في تحقيق ملفهم المطلبي، رفض قادة حراك الريف التعامل مع ممثلي الدولة وأصروا على التفاوض مع ممثلين عن الملك، وبذلك كشفوا بشكل ملموس طبيعة الحكم في البلاد: حكومة وبرلمان للواجهة بينما السلطة الفعلية بيد المؤسسة الملكية. ورغم كل أشكال الضغط والاغراءات ومحاولات الوساطة لم تنجح الدولة في ثني قادة الريف عن أهدافهم والمتمثلة أساسا في تحقيق ملفهم المطلبي ولا أدل على ذلك الشجاعة التي يواجه بها المعتقلون القاضي الذي يحاكمهم، فبعد خمسة أشهر من الحبس الانفرادي، ردد الزفزافي أمام القاضي ” الموت ولا المدلة” بنبرة التحدي والايمان بالانتصار.
مثلت تجربة حراك الريف نموذجا للاقتداء بخصوص مطالب الحراك الملموسة والتسيير الدمقراطي للنضالات عبر تفعيل دور لجان الاحياء، التي لعبت دورا هاما في تعبئة الساكنة و التواصل معها. كما أبهرت هذه التجربة الجميع بدقة تنظيمها وإبداعها النضالي. و هكذا استطاع الحراك تنظيم اشكال نضالية مختلفة من الإضرابات العامة و مقاطعة مرجان إلى الوقفات و المسيرات إلى الطنطنة و إطفاء الأضواء أو تنظيم الاحتجاجات في الشواطئ بداية شهر يوليوز 2017، غير انها تبقى تجربة محدودة الأفق من منظور مصالح الكادحين بسبب طبيعة مطالبها والطبيعة السياسية لقادتها.
حظي حراك الريف بتعاطف ودعم واسع وطني ودولي وهكذا خرج الآلاف بمختلف المدن المغربية وكذلك بالعديد من المدن الاوربية بتحفيز من لجان دعم حراك الريف بأوروبا وهذا ما أعطى للحراك شحنة إضافية و ساهم في استمراره و وهجه و كشف ان كل التنازلات الشكلية واحتواء حركة 20 فبراير لم تنل من عزيمة وآمال المغاربة في بلد ينعم بالحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية
يشكل غياب تنظيم سياسي يمثل مصالح الكادحين أحد نقط ضعف هذا الحراك ، فحزب من هذا النوع سيكون قادرا على تنظيم كافة القوى و حشد الدعم الضروري في معركة شاملة ضد دولة ، ممركزة ، منظمة و مستبدة.
المقال مأخود من اصدار جميعة اطاك تحت عنوان : حراك الريف نضال شعبي بطولي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية” للقراءة والتحميل. https://bit.ly/3SLcEBw
[1] https://bit.ly/3E2JUQy
[2]https://bit.ly/3Wv3QCV
[3] https://bit.ly/3NBqbut
[4] https://bit.ly/3DJHfKh
[5] https://bit.ly/3zIHTX9
[6] https://bit.ly/3WBiyIA
[7] https://bit.ly/3TakPrb
[8] https://bit.ly/3NDUzEh
[9] https://bit.ly/3heG51A
[10] مرجع سابق
[11] https://bit.ly/3T3ZbVz
https://bit.ly/3fH9gKs[12]
[13]https://bit.ly/3T8dB76
[14] https://bit.ly/3Utjlt1
[15] https://bit.ly/3zNdY03
https://bit.ly/3Un0i3O [16]
[17] https://bit.ly/3E4VSsG
[18] https://bit.ly/3zOOgIu
[19] تم توقيف الرفيق عمر الراضي مناضل جمعية أطاك فور وصوله الى مدينة الحسيمة وظل يومين في مخفر الشرطة قبل أن يسمح له بالعودة وهو اليوم متابع قضائيا بتهم واهية.
من اصدار جميعة اطاك تحت عنوان : حراك الريف نضال شعبي بطولي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية” للقراءة والتحميل. https://bit.ly/3SLcEBw
هذا الكتاب وثيقة لاستخلاص الدروس من كفاح شعبنا.